مقالات ودراسات

الناقد محمد الروبي يكتب: “مشهد” لماذا نقول “مسرح”؟!


المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات

ـ

محمد الروبي

لم تكن كلمة “مسرح” مجرد تعريب لكلمة أجنبية، كما قد يتوهَّم البعض.
فنحن لم نقل “ثياتر” كما هي، ولم نكتفِ بتقليد اللحن الإفرنجي، بل ذهبنا إلى لغتنا، إلى الجذر، واستخرجنا منه اسمًا يليق بالمكان الذي تتحرك فيه الأرواح قبل الأجساد، وتُعرَض فيه الحكايات كأنها حقائق.
“المسرح” في العربية مصدرٌ ميميّ من الفعل “سَرَحَ”، أي مضى وجال، ومنه “سَرَحَ البصر”، و”سَرَحت الماشية في المرعى”. فكأن المسرح مكان يُسرَّح فيه الخيال، وينطلق فيه الإنسان ليواجه صورته… أو يهرب منها.
في بدايات الاهتمام بهذا الفن، سمعنا لفظ “المرسح”، وربما ورد في لهجات أو كتابات قديمة، لكنه ظل لفظًا ضعيفًا، هشّ المعنى، مأخوذًا من “رَسَحَ”، الذي يشير إلى السير البطيء أو الخفيف، دون أن يحمل تلك الدلالة الحيّة للحركة الحرة والانطلاق، التي يتميّز بها المسرح الحقيقي.
أما الغرب، فقد سمَّوه “Théâtre”، من اليونانية “Theatron”، أي “مكان المشاهدة”.
جميل هذا التعريف، لكنه تقني وجاف: مكان تُرى فيه العروض.
لكن في العربية، المسرح ليس فقط ما يُرى، بل ما يُسرَّح فيه، كأن الخشبة مرعى للأفكار والوجوه، وحقلٌ مجنونٌ لزراعة الحقيقة بالكذب.
ولذلك، حين قلنا “مسرح”، فإننا لم نكن نترجم، بل كنا نتكلَّم بلسانٍ عربيٍّ مبين. نستدعي الكلمة التي خرجت من رحم اللغة، ومن عمق المعنى، لتليق بهذا الفن، الذي هو أكثر من فرجة، وأقرب إلى طقسٍ إنسانيٍّ مقدّس.
من هذه الخصوصية تحديدًا، سعى الآباء المؤسِّسون، أو قل “المجرِّبون الأوائل”، إلى ما هو أبعد من مجرد تعريب الاسم. وكأن لسان حالهم يقول:
” ما دمنا قد اخترنا لهذا الفن اسمًا عربيًا خالصًا – “المسرح” – فلنمنحه أيضًا هوية عربية تليق به، هوية لا تُستعار، بل تُستولد من داخلنا”.
هكذا كان الدافع، على ما أظن، وراء المحاولات الجادّة التي انطلقت في غير بلدٍ عربي، تسعى لتأصيل المسرح لا بوصفه “نبتةً مستوردة”، بل بوصفه إمكانيةً كامنةً في تراثنا، في حكاياتنا، في احتفالاتنا، وحتى في مواسمنا الشعبية.
فمن يوسف إدريس وهو يحلم بمسرح عربي، إلى توفيق الحكيم الباحث في القوالب الشعبية، إلى الطيب الصديقي وهو يصوغ الذاكرة بلغة تحتفي بالحكي الشعبي والحداثة معًا، إلى قاسم محمد وسامي عبد الحميد في العراق وهما يحفران في عمق تراثهما العربي، إلى سعد الله ونوس وهو يرى في المسرح أداة لصناعة المعنى لا تسلية الجمهور، إلى تجارب فرقة الحكواتي في فلسطين، إلى السرادق، والحلقة، و… و… و…كانت كلها محاولات أرادت أن تمنح هذه الكلمة – “مسرح” – معناها العربي الحقيقي، لا في اللسان وحده، بل في الجسد، والذاكرة، والموقف.
وكأنهم جميعا كانوا يتسائلون: هل تكفي التسمية وحدها لخلق هوية؟ أم أن الكلمة كانت مجرد الخطوة الأولى في رحلة لم تنتهِ بعد؟


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock