الناقد نورس عادل هادي يكتب: متلازمة الخوف المزمن أو الانسان والمدينة في مسرحية (أمل) لجواد الاسدي
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
نورس عادل هادي
(ناقد وأكاديمي)
لم تكن ثمّة حاجة لحكاية مركزية ينسج حولها المخرج(جواد الاسدي) سرائره ورؤاه الاخراجية فيؤسس بهذا الاتيان مهاداً لأمثولة تخترق الاعتياد أو تفارق في تندرها وحدوثها خط يومياتنا، اذ لم يكترث بمط افق التوقع كما أفترض بعضنا سلفاً فاستبدله بتوق مزمع، كما استبدل الحدث العالمي بعوالم محلية حقق بوساطتها صدامات لرؤى ومتصورات المتلقي الذي فارق هاجس الاتصال بخبراته السابقة ازاء مسرح (الاسدي) ولم يستطع أن يمسك سوى بهواجس بداية اتخذت مسارها داخل بنية عرض مسرحي كعرف ساري المفعول طالما اتسق بملكة او دربة يتمتع بحرفية صناعتها مخرج معرفي ضمن فضاء التجربة الجمالية التي اتاح المسرح لنا ملامستها عضوياً كل حين وآخر او كل أمد تجربة تتوخى المسرح كعلم موغل في القدم وسابق للسحر وللتعاويذ،
وبهذا الفهم شُرِع الحد الفاصل الذي تشتعل عند مقترباته جذوة الاسئلة المشاكسة لاتفاقاتنا وتيهنا معاً، اذ ارتكز النص على جسدي الشخصيتين بوصفهما مرسلتين تفتحان على بعضهما نار الاسئلة التي ذخرها صانع العرض بمحمولات متجاوزة حالة الصياغة الى تقنية السكب التي سك بوساطتها الصانع شكلاً دائرياً لخوف تعتق بذاكرة مشردة داخل مدينة تماثل عمراً من الحلم والحب والاهل والبيت وتلك الحياة المحتملة التي تشوب المشاعر ازائها حالة تمازج بين فرح الولادة الاولى وعسرها؟
اذ لم يكن للنص المسرحي الذي كتبه المخرج ذاته ان يوجد خارج حالته المسرحية التي توخاها العرض المسرحي الموسوم (أمل) لا بوصفه عنواناً فقط، بل بوصفه خياراً لم يشاء صانعه التخلي عنه على الرغم من مرارة التمسك به، فالأمل داخل هذا الحيز المجتمعي، داخل هذا البيت/الوطن، تلكم الذات ليس اكثر من رهان على فوز من لم يشترك في السباق، ومع هذا يستحيل أو هكذا قد جعلنا نعتقد ذلك الصانع/المؤلف عبر لحظة واحدة تحولت الى عرض مسرحي بأزمنة وازمات متداخلة، رغماً عن ارتكاس البداية التي اختطت الحدث الدرامي الذي بدى غارقة في التحول والانقلاب على ما قد يوصف بأسلوبية الاشتغال الاخراجي لمخرج يعتمد في تشييد منظوره المشهدي على العديد من المحاور التي يستمد منها في العادة عمليتي التشييد والتداعي المشهدي المقيد بمديات الفضاء الحي،
وهاتين الميزتين اللتين تعدان احدى اهم السمات الاشتغالية الفارقة التي يدركها المختص والمتابع لتجربة اخراجية لطالما امتازت بسياق متفرد في صناعة المشهد وصنعة البروفا المسرحية بعيداً عن كونها تمريناً للحفظ، فاتخاذ خصيصة توزيع المراكز وتصنيفها هو الخيار الذي يمارسه كثير من المخرجين انطلاقاً من قراءة تكشف عن الثقل الدرامي للشخصية وصناعتها للحدث، اذ تذهب الشخصية الدرامية لديهم نحو الاعلان عن الحدث الدرامي بصفتها المنطلق، الامر الذي يغايره (الاسدي) في هذا العرض تحديداً ويستبدله بمنطلق آخر يكمن في انبثاق الحدث اولاً عبر علاقات البعد المكاني ومن ثم تتداخل الشخصيات رويداً رويداً وتتعامد على تعضيد الجانب الاجرائي لفرضية المكان وابعاده الفكرية، فالمكان هنا يماثل الحدث/الفعل/الازمة/العقدة/ ولربما الحل ايضاً، وينفتح على تحفيز قنوات رابطة ما بين المدرك الحسي للمتلقي بإزاء ظاهرة العرض المسرحي ومحمولات جنبته الفكرية وبين المزاج العام لفضاء العرض/الشكل وما يفرزه هذ المستوى الاخير من جدل محتدم له ان يتسرب داخل وعينا وشواهدنا كما تتسرب مياهاً الى داخل بيت،
ويأتي البيت هنا لا بوصفه مكاناً للسكن بل بوصفه بنية اجتماعية، ولعلها تقنية متفردة في معالجة الجانب الاجرائي للسرد الدرامي وما تنطوي عليه شعرية الحوار للغة شخصيات (الاسدي) التي وأن ظلت تعالج اشكالياتها بمتاخمة هواجس ومنطلقات الفكر الطليعي، بوصفها شخصيات معترضة ومشتبكة مع المنظور القيمي المتدني لمحيط الانسان الحياتي الذي لم يعد لائقاً بإنسانيته، الا انها آنية كذلك تعكس مفازات هذا المحيط الذي يماثل احد المكونات الرئيسة في صناعة الشخصية الدرامية ليس في عرض مسرحية(أمل) لوحده بل في اغلب عروض المخرج المذكور، ومع هذا يوغل أكثر فأكثر في صناعة عرضه هذا، ويكثف اصطناعه للفضاءً المعبر عن حالة شخصياته المضطربة حد تشييده من الداخل ليماثل ما يشبه (رحماً ) لإخصاب أمثولة لم تزل حية، ليضمن بوساطة هذا الرحم أن تلامس شخصياته أعمق نقطة في قاع التقاطه اليومي وتستنزف ذاكرتنا بذاكرته ومن ثم تصوراتنا بتصوراته عن ما سيستوطن هذا الرحم/المدينة/الذات/ من مخاوف مزمنة وما قد ِيأتي، وبهذا المستوى الاشتغالي الاخراجي تتسق العديد من التجارب التي امتازت في الكشف عن اقسى مستويات النفسي/السيكولوجي للشخصية والكشف عن ابعد ما في جوانبها المعتمة،
ومع هذا الاشتغال المألوف، تفرد تجربة (الاسدي) مائزته في تطويع ميزانسين يمنع تجرد هذه الشخصيات بصورة تامة من بوح التعتيق اللوني بوصفه عنصراً يمنح القداسة لحضور الشخصية الدرامية قبل ان يكون جاذباً للامتاع البصري ومنعشاً لرتابة وبؤس تكراراتنا المأساوية في الوقت ذاته، على الاقل في تكويناتها التي طالما ماثلت بورتريه (رامبرانت) وقدراته في تطويع النور الساقط على الشكل، وهنا تكتنف الخصيصة الاخراجية وسر المهنة الدراماتورجية التي يمتاز بها هذا المخرج عن غيره ويعالج على وفق هذا البعد الدراماتورجي معيارية شخوصه التي لا نكاد نتجرأ كمتلقين على ان نتخذ منها موقفاً حاداً أو ان نضع احدى تلك الشخصيات في أقصى طرفي معادل أخلاقي ما، مهما كشّف فضاء الحدث أو كشفت هذه الشخصيات بذاتها عن سلوكياتها الغارقة في السلبية والانحطاط والبذاءة، – كما تجدر الاشارة الى ان فولدر العرض المذكور أشار الى اسم الممثل (حيدر جمعة) بوصفه دراماتورج العمل مما يضعنا بمواجهة تساءل مبهم ازاء الوظيفة والتداخل الدراماتورجي ومكمن تشغيلها الذي كان مبهماً؟؟-
وتلك المعيارية بالذات هي المنطلق المؤسس للذة التي تصطبغ بها معمارية العرض المسرحي(أمل) وفرضيته الاخراجية التي اعتمدت انشاء قنوات سمع/بصرية متقنة منذ مدخل الفعل الاول للعرض، فثمت ترشيح دائم تقوم بعمله تلك القنوات الممتصة للرتابة الملازمة لخاصية وطأة الحوارات المغمسة بمأساة مدننا وما عشناه فيها، بل وتدفع نحو تآكله في علاقة طردية وضعنا فيها صانع العرض إزاء العديد من المنغلقات الفكرية التي ماثلت متوالية مستفزة يتعامد على افرازها المستمر حيز الفضاء الدراماتيكي للمكان الذي تستوطنه الاحداث، فضلاً عن ما تفرزه عادة هذه الخصيصة الحوارية المكررة من مسار ايقاعي يصعب مجاراته وسط فضاء مشحون ببعد اجرائي ذو طابع مرضي من الداخل وذو احاطة خارجية كارثية محتملة من الخارج، اضافة الى صعوبة ادامة قنوات التلقي مع مجريات (الديودراما) اذ ما ارتكز هذا النوع الدرامي على بوح مأساوي شفاهي يمتاز بأزمنة مركبة نسبياً، ناهيك عن ما اذا تجرد هذا النوع الدرامي عن خاصية الامتاع الكوميدي أو المفارقة في صناعة الحدث، وكلها معطيات دفعت بالمخرج لاصطناع البديل الجمالي (الجاذب السمعي) كما اسلفنا ليفتتح مقترحاً جمالياً تمت بوساطته تكوين تعالق اولي ما بين خطوط العرض من جهة وخطوط التلقي وموجهات مزاجه من جهة اخرى، وعمد ذلك المقترح الى تحفيز عنصري الترقب والبحث الدائب عبر ممكنات الفضاء المكاني،
الامر الذي نتج عن وظيفة البعد السمعي الممثل لصوت خرير الماء من زوايا المكان والمتعالق بصورة بصرية لها ان تنذر بالحدوث المتأتي وبالقادم الذي فعّل بدوره الترقب والبحث واضعاً ايانا وسط صيرورة تشكّل بخواصها جاذباً حسياً، ومن ثم تتبدى تباعاً مقاربات نمط الثنائية المستدامة انطلاقاً من رجل/امراة ، حياة/موت، حب/كره، حضور/غياب، ذاكرة/مستقبل ، انهيار/تشبث ..الخ اذ وظفت هذه الثنائيات في خلق صيغ التعبير الدرامي عن واقع الذات في(الهنا) وما تعانيه من انشطار وتشظي وانقسامات مرضية صارت تستوطن الشخصيات الاكثر وعياً ونبلاً وثقافة وهنا تكمن الكارثة والخطورة والسر من وراء اختيار هذا النوع الاجتماعي من البشر، لأنه قد يمثل اخر خطوط الدفاع المجتمعي
اذ لم يعد قاع المدينة ممثلاً بشخوص تآكلها الفقر والفاقة والتخلف، فكشف هذا المستوى القرائي للمدينة/الذات عن ما هو اكثر خطورة واشد وقعاً في النفس وتأثيراً ودفعاً لحافة التحول، ممثلاً بالخوف المزمن ومتلازمته التي احالت يوميات الطبقة الاكثر وعياً وفهماً الى يوميات مأزومة، أسهمت بخلقها عوامل سياسية وحروب تسربت نحو دواخل الانسان محولة اياه الى داخل مريض فرض على الشخصيات ولم يكن خيارها يوماً، فهي لم تنتمي للوحشية المعاصرة ولم تختار ان تحال منازلها لمعتقل تسجن به ارواحها واحلامها وتدفن به مشاعرها ولذّاتها المُستَحَقة، بل تعدى ذلك الفضاء الدراماتيكي الذي شيدته الرؤية الاخراجية الى انبثاق هاجس نبوئي لقادم هذه المدن وما قد ينتظر بيوتاتها اذا ما استمرت على نحوها هذا من خراب دائب وخوف يمسخ اناسها السائرين في هذا التيه والذين يُحرَمون من البوح ومن التمني ومن مواصلة حياتهم الادمية ومن ضوء الحقيقة التي تم ويتم اغتيالها وتغييبها، الامر الذي فتح حرية التأويل لتلقي فكرة شجب وتغييب الحقائق/الضوء/الشمس الذي كان رهاناً وعتبة اولية جرى طرحها للتصور قبل بدء الحدث الاول للعرض المذكور،
وهو ما وشت به دالة تسليط الضوء على الجمهور بشكل مباشر وقبل ان تفتتح الاحداث مساراتها بتشكيل الفعل الاول، اذ تبدى الضوء بوصفه فعلاً قصدياً مدرجاً ضمن اشتغال تلقي المعنى لهذه الظلمة التي ما كانت موجودة في الاساس وهو ما دفعنا لتصور الحقيقة/الضوء كخيار منصف ومنطلقا يستند اليه المتلقي في تشييد موقفه النقدي بإزاء كل هذه الظلمة الحياتية التي تكتنف يومياتنا(وان كان الغرض الرئيس منه تقني ايضاً متعلق ببدائل ستارة المسرح) الا ان لكل فعل ردة قرائية، فعلى غرار تعريف الشيء بالنقيض سيّر المخرج مراراً تلكم الثنائيات بالتجاور والمماحكة والصدام لمتوالية لا تنتهي لا فيما بينها ولا فيما بينها وبين الجمهور…
فقد ركن صانع العرض الى صناعة ما يشابه(المحتوى) بوصفه بديلاً عن النص مكنه من تعشيق كل ما اراد من أسئلة دون اكتراث لتتابعها الزمني لينكأ بها الفظاعة والدموية والقتل والافساد والضياع القيمي لمدننا التي اجتازت حدود الدستوبيا، بل حولتها ممارسات الفعل الوحشي المعاصر الى مستنقع رطب من الصعب العيش فيه وممارسة الفعل الحياتي الانساني اليومي كالأكل او الحب او النوم، بل صار يصعب ان تسير فيه اقدام البشر الذين لم يعتادوا بعد ارتداء احذية تلائم هذا القاع؟؟.. وهو بذلك الاتيان يستدرج المتلقي نحو مسائلة لا تتمركز حول ماضي المدينة أو حاضرها وحسب، بل هي مسائلة لصدام مرجئ كما ترجئ قراءة تفكيكية معنىً ما، ذلك ان الطباق مع استراتيجية القراءة التفكيكية لظاهرة حياتية يكمن في جرجرتها نحو تأطير المحتوى وهو ما كانت تلوح به مجريات الفعل الاخراجي لفرضية اعتمدت في مركبات بنياتها المضمرة على معادل -الظاهرة، التداخل، الاسئلة – على وفق نسق التراتب المتبع في رؤى التفكيكية المزاولة (للكتابة، الاثر، الاختلاف) فلم يكن تفكيك الموضوعات الاجتماعية هدفاً بقدر ما كان الهدف تركنا كمتلقين نختار ما نتواصل معه من اسئلة يمارسها الفعل الاخراجي لمخرج يتلذذ بقسوة وقعها .
سينوغرافيا الحدث/ ميلان الشكل وميول الفكرة..
زج السينوغراف(علي السوداني) اقصى ممكناته في تأثيث فضاء بتوطئة وثقل ضاغطين بحيث يمكن لذلك الفضاء ان ينغلق على المتلقي حال التعاطي معه بعد الدخول الى صالة العرض التي مثلتها الباحة الداخلية التي تتوسط منتدى المسرح التجريبي في بغداد ذات مساء، اذ وظفت تلك الباحة المعبرة بالأصل عن معمارية البيت البغدادي الشرقي الذي تبنت طرازه المدن العراقية بداية القرن العشرين، سيما العاصمة بغداد منها بحيث تحول ذلك الطراز المعماري الى ايقونة تاريخية لمعادل موضوعي ومدخل نحو مماحكة التاريخ الاجتماعي المضَمّن لحقبة شهدت احداث وصراعات افضت بالمدينة نحو بؤسها الحاضر، وهو السبب ذاته الذي دفع بالمخرج الى تشييد فرضيته المكانية داخل هذه الباحة واختيارها مسرحاً لأحداث مسرحية(أمل)،
فقد انغلق المكان على ما يتشبه بغرفة المعيشة غير انها كانت خالية من اي دالة لاكسسوارات وديكور يؤثث به المتلقي مخياله ويعينه في تصور هذا المكان كمكان صالح للسكن الادمي او صالح لممارسة الحياة اليومية لأناس طبيعيون لهم ان يمارسوا افعال الحياة الاعتيادية كما الاخرين، فقد تكشفت مقترحات سينوغراف الفضاء المكاني عن عتمة أسدلها القماش الاسود الذي اتشحت به جدران هذا البيت من الداخل فضلاً عن اريكتين تفصل بينهما طاولة وسطية مليئة بالكتب التي بدا انها وضعت بشكل عشوائي وتركت دون ترتيب او أن اصحاب المكان استخدموا الطاولة كمنقذ لهذه الكتب من التلف اثر تبللها بالمياه التي تفيض بها ارضية المكان بفعل ثقوب في سقف المنزل احدثتها بالتأكيد رصاصات طائشة، وهو ما تؤكده اصوت الرصاص الطائش وازيزه المتداخل مع صدى الموسيقى المصاحبة لبعض الاحداث ومرافق لحوار الشخصيات بين الحين والآخر، كما تم استخدام بعض الاحجار(من نوع الطابوق الذي تبنى به بيوت بغداد) في رفع بعض تلك الكتب عن الارض الغارقة بالمياه، فضلاً عن ثقب يتضح في برميل وضع على الجانب الايسر لمكان المعيشة المفترض، بدالة اختراقه برصاصة طائشة ايضاً على الرغم من كونه موضوعاً هناك لتفادي اغراق المياه المتساقطة من سقف المنزل المثقوب،
فلا السقف ولا البرميل بمنأى عن طيش الرصاص كما لا منأى عن دخول ذلك الخراب/المياه وتخريب او اتلاف ممتلكات البيت، وتأخذ اريكة اخرى في العمق مكانها وعليها كدس من الكتب ايضاً، في حين توافرت دالة المكتبة العملاقة من حيث حجمها والتي استولت على اغلب مساحة عمق الفضاء وفي قبالة المتلقي على قراءتين، تشي الاولى بالرمزية السوسيوثقافية للمدينة/ بغداد وما تعنيه من بعد حضاري بين مدن العالم وكيف انها وعلى مدار تاريخها تطاردها الحروب لتستبيح وتدمر جانبها وميزاتها المعرفية التي شكلت هويتها بين المدن ذات تاريخ، وكأن ما تقصده الحروب عليها دوماً هو اطفاء تلك الجذوة المائزة منها وسرقة تلك الهوية بالتحديد، فيما يبث المستوى الثاني دالة اشتغالية مرتبطة بالمعنى(أمل) الذي يتخذ علاقة متواترة بفضاء التلقي المكاني المتعامد على تشكيل معنى العرض المسرحي هذا في الابقاء على جانب ما من الامل،
وقد تبادرت هذه القراءة عبر إشارة اوحت بها حالة تماسك بعض المعارف والثقافات/الكتب برفوفها فهي لم تسقط كما تساقط بعضها الاخر، وهو ما يستحضر معادل موضوعي لتساقط أو اسقاط بعض الذوات الانسانية بقطع النظر عن ظروف واسباب سقوطها ضعفاً كان او قسراً، في حين تتشبث ذوات إنسانية اخرى بشظف البقاء والتماسك بقيمها ذاتها، كذلك فأن دالة ميلان الشكل/المكتبة كان فعلاً محاكياً ومؤكداً المعنى ذاته وموغلاً بتأكيده بشكل مباشر، كما تجدر الاشارة هنا لظلال فعل السينوغراف في اجتلاب المعنى ذاته وتدوير ما توافر عليه فعل سينوغراف الجدار الحديدي المتخذ للوضع المائل لعرض مسرحية (تقاسيم على الحياة) للمخرج والسينوغراف ذاتهما، فإعادة استهلاك المعنى الجمالي تشترط اشتغالاً فكرياً مغايراً على الاقل ليضمن المستوى السينوغرافي حالة تفرد الاثر وخصوصية المعنى، فما تماثله حالة ميلان المكتبة/ الكتب/المعرفة/الذاوات..ألخ في امكانية البقاء في عرض مسرحية(امل) يماثله الجدار الحديدي المائل للسلطة وممكنات سقوطه عند حدود الفهم السينوغرافي لعرض(تقاسيم على الحياة)،
اذ أن هنالك أمل في كلتا الحالتين، كما وظفت فتحة في الستارة الممثلة للجدار الايسر بوصفها باباً او مكاناً لخروج الشخصيات لم تكن ذات حاجة او تأثير في محيطها المكاني، فقد استخدمتها شخصية الزوج مرة واحدة لمناداة الزوجة، فضلاً عن توافر بابين(وهما موجودين اصلاً) على يمين فضاء العرض المكاني مثلت احداهما بوابة الخروج من المنزل في حين مثلت الباب الاخرى مدخلاً لغرفة النوم التي هجرها الزوج(باسل) وقد عضد الفعل الاخراجي فرضية السينوغراف بتطويع باب غرفة النوم للتعبير عن سلوك للرفض والاحتجاج يناسبنا نحن (العراقيون) بالذات، اذ طالما ماثل لنا فعل اغلاق الباب بقوة او الضرب عليها باليد او القدم من الداخل فعلاً احتجاجياً يلائم امزجتنا المعاصرة المشحونة على الدوام، وهو فعل لطالما تأتى بمردود تعبيري نفسي، فكان المعنى وكأن غرف بيوتنا/حيواتنا يومياتنا تحتج على هستريا الخوف والعُصاب الذي وصل بساكني البيت حدود التعنيف وفقدان شهية الحياة.
سردية الممثل/الجسد حالته وتحولاته..
بعد أن تظهر الزوجة(أمل) فارضة قلقها وتوترها على فضاء عتبة الفعل الاول، يتقدم الزوج(باسل) بهدوء خالعاً الجزء الاعلى من ملابسه ليقف بجسد نصفه الاعلى عارياً أمام برميل الماء ماداً يده ليغتسل بمائه مستوحياً فعلاً يحاكي تماثلاً لحالة طقسية وممارسة وضوء من نوع ما، يؤسس به مفهوماً يعلق معنىً لقداسة مبكرة لمفهوم الشخصيات/الضحية، دون ان نعي من أين جاءت هذه الشخصية التي بدت وكأنها قادمة من داخل حياة معتمة وعدمية، ذلك انها انبثقت من جانب وعمق اسود ومتناهي فرضته دالة القماش/الستائر السوداء المغطية لجدران البيت من الداخل وبشكل كلي،
مما فتح لحرية خياراتنا ان تستيقظ وتفكر، فالزوجين القابعين في هذا البيت يبدأن بتفريغ محتوياتهم النفسية على بعضهم البعض عبر محتوى تتداخل عند تداعيه العديد من المشكلات مثل.. رغبة الزوجة في التواصل مع طبيب لتجهض جنينها المحتمل والذي لا تريد ان تنجبه حتى لا تراه مقتولاً او حتى لا تصاب بلوعة الفقد المرجئ كنتيجة محتمة لمدينة اعتادت دفن اولادها، وهو خوف سببته مشاهداتها اليومية لفقد الامهات لأبنائهم نتيجة الاحتراب الطائفي والمجتمعي، فضلاً عن وحشتها ازاء زوج هجرها روحياً، زوج تتبدى في سلوكياته علامات العاهة العقلية والفصام والعُصاب، زوج اصبح مأفون بالمخدر والخوف المزمن من الذي قد يحدث خارجاً، الا انه يرفض التخلص من ابنه المحتل -بحسبه- فينقلب على زوجته وعلى الانحطاط والبذاءة المجتمعية المحيطة به عبر تحولات ذاته وانماط سلوكه،
كذلك فأن محتوى الزوج ينز باضطرابات سببتها الظروف ذاتها، فقد قُتل اباه وهو صغير امام عينيه اللتين لم تعودا قادرتين على رؤية الحياة خارج بيته وكتبه وتلك الشخصيات المسالمة المتبقية داخل كتبه والتي بدا انها صارت سلوة روحه في هذه الحياة، وعلى مثل هكذا محتويات مضطربة واقصد (شخصيات درامية) تمت صياغة المقترح الادائي ضمن منظومة اعتمدت مناقلة حسية توقف الاداء التمثيلي عند نقطة تماثل حدود الحالة التي تصاب بها الشخصية الدرامية الانفصامية كل حين، اي بوساطة استدراج مجموعة من الافعال الجسدية والصوتية بما يطابق المعنى الكامن في حوارات بعينها لتصل الشخصية الى لحظة اشراقية لخواص حالة معينة، ذلك ان الاداء التمثيلي لشخصية الزوج(باسل) الذي قدمها الممثل(حيدر جمعة) امتازت بتوخيها التحول من حالة ادائية الى اخرى، معتمدة على استدراج الفعل التمثيلي والاظهار الجسدي عبر فعل داخلي تقتاده حفنة من الموجهات التي تتعاضد عند مقتربات الشحن المكاني لفضاء العرض والملفوظ النصي معاً، وهذا الاخير(الملفوظ النصي) لم يُعتمد كنقطة شروع مركزية تزاح عند تحول منطلقاته تقنية التحول الادائي المتسق وتبدي الحالة،
الامر الذي بدا فيه واضحاً محاولات توطين الشخصية لحالات جسدية مختلفة تمارس بوساطة تقنيتها الادائية فرز دوال فيزيقية موجهة لمحيط التلقي ومستوياته الادراكية، واشتمل ذلك الاشتغال على التبني الادائي لمقاربات الشخصية واحلالها محل الجسد النفسي تارة والجسد الطليعي تارة اخرى، وبدأ ذلك واضحاً عبر مفتتح الفعل المسرحي للعرض والذي انطلق عبر مركزية الجسد في حالة الاغتسال/الوضوء المشار اليها اعلاه، لتخبرنا بان المدونة الفكرية للعرض سيشعل جذوتها جسد الممثل، وهو ما تم بالفعل عبر مجموعة من الافعال التي انبثقت لتعبر عن اشكالية التموضع النفسي الذي تعاني منه وتصارعه الشخصية والتي يقف حدود انفلاتها مع استنشاق الجسد لجرعته المخدرة، وقد برع الممثل(حيدر جمعة) بشكل ملحوظ وفرض حضور الشخصية وتناميها عبر الزمن(زمن التلقي) والمكان(فضاء المدينة المتخيلة) ولعل هذه البراعة فضلاً عن وصفها اجتهاداً مضافاً لتجربة الممثل المذكور وتفانيه المسرحي المعهود، الا انها ايضاً تمثل جانباً تضطلع به مهارات الاداء التمثيلي للممثل المسرحي العراقي ازاء التعامل مع تقنيات(ستانسلافسكي) وطريقته في رص الشخصية الدرامية اعتماداً على الذوبان والاندماج والتلبس،
فمن هذه الاشتراطات ما يتماهى ويتسق والبعد الاجرائي للجسد النفسي وتمثلاته، وهو ما يتضح في الفارق الادائي عند حدود التعاط التمثيلي الذي يُدخل الشخصية الدرامية للممثل ذاته في مفازات مقترحها الجسدي الاخر/الطليعي، الذي يتسق في الغالب مع مضامين المعالجة الاخراجية التي يتوخاها مخرج العرض المذكور، حيث تتفاوت قدرات الاداء ما بين الحالتين اللتين يعبر عنهما الجسد، وتفقد في بعض المواضع حلول لحظة التحول تقنياً على الاقل، ويمكننا تبيان ذلك الفقد في تكرار اعتماد جرعة المخدر واستنشاقه بوصفها منطلقاً ادائياً/تقنياً يستند اليه الممثل في الشروع كل مرة نحو مفارقة اداء وتبني آخر، ما يخلق فجوات يتسرب عبرها زمن التلقي بغية استدراك التحول الذي اصاب الشخصية وحول ادائها، ومن ثم يعيد الممثل بخبرته جسد الشخصية بوصفها المدون نحو فضاء الاشتغال الفكري المتنوع الذي يشتمل عليه الجسد الطليعي وما يماثل من حضوره واشتباكه ومحاكاة مجموعة من الموضوعات الفكرية المشكلة للموقف النقدي القيمي للشخصية التي ترفض الاندماج مع محيطها الحياتي وتفقد بذلك (الرفض)العديد من الجوانب المشرقة في حياتها ويومياتها لكنها لا تستسلم، فالبعد المعالج للأداء الطليعي يقتضي تحرر الجسد من حالة التموضع والسيطرة العلامية الاجتماعية، الى حالة انزياح دائمة وتبني صيرورة دائبة الاشتباك مع العديد من الذوات التي تماثل موضوعات حداثية مختلفة كموضوعات الجسد الانثروبولوجي المتصل والمعبر عن ظواهر تجتاح المتن الاجتماعي،
الامر الذي صعّب على الممثل المذكور ايجاد تقنية ادائية تنتقل بالشخصية من تموضع جسدها النفسي الى انزياح جسدها الانثروبولوجي، وسبب تلك الفجوة خصيصة متعارضة ما بين حالة الجسد الاول الذي كان عليه ان يوغل في العزلة والانقطاع بوصفهما خصائص معبرة عن اضطرابات وتردي الحالة النفسية المرضية، فيما تشترط الحالة الجسدية الثانية وجود ملامسة واتصال مع مجريات الحدث والحس الاجتماعي وهما حالتين متعارضتين تقافز الاداء التمثيلي بينهما، فيما تجدر الاشارة ايضاً الى جودة تمثلات الشخصية الدرامية(باسل) للجسد الطليعي بشقه الجندري الذي مثل توافقاً توليدياً متصلاً بحالة الجسد النفسي استطاع ان يرتقي بالاداء نحو اعلى مستوىً له مع تخوم المعنى المتوالد للحوار المضمن لجملة(لقد فقدت كل شيء ..حتى شهوتي تجاهك)؟؟
وبضمن السياق اعلاه تساق فرضيتي النظم الحركية والصوتية للممثل ضمن العرض المذكور، فيما تتخذ شخصية(أمل) مساراً بنيوياً محايداً، اذ لم يفترض ادائها التمثيلي ميولاً خارج محددات الضبط التعبيري للوجه والنبر الصوتي المستقر عند حدود حالة الجسد الانثروبولوجي الذي يعبر بسلوكه الفيزيقي وإيماءاته الاشارية عن تسرب لوثة الامراض المجتمعية المستوطنة لمدن الدستوبيا الى اكثر الارواح لطافة وبراءة وجمال، وكيف تتأتى تلك اللوثة بخوف مزمن يتشبه بمتلازمة مرضية، فقد عملت الممثلة (رضاب احمد) على رسم شخصيتها الدرامية بمحاذات مفهوم رد الفعل لا الفعل ذاته، وذلك ما افضى لإيجاد الممثلة حلاً ادائياً يضع الشخصية الدرامية ضمن حالة تُظهر تمثيلها لعلّة المتلازمات(متلازمة الخوف المزمن)،
اذ انها وفي اقصى حالاتها كانت تماثل ظلالاً لحضورها عند حدود الجسد الجندري الذكوري، بدأ بذاكرتها التي تسترجع ملاحقتها لظلال حبيبها في اروقة الجامعة، مروراً بمقتل عائلتها وليس انتهاءً بالرجال الذين يشبهون الغربان؟ اولئك الذين استباحوا المدن وقتلوا من يسهم بإضفاء الحياة، – في اشارة واضحة للمدن العراقية التي انتهكت على يد التطرف – ولعل تقنية التعشيق النصي الطليعي لمحتوى الاحداث المذكور أعلاه والذي اعتمده المؤلف المخرج هو ما ادى الى تداخل وتباين اداء الشخصية الدرامية(امل) عند تخوم متغيرات المعنى وما يمكن ان يعبر عنه الاداء الحركي للشخصية، وهو ذاته المسبب الرئيس في تنامي الاداء لشخصية (امل) في النصف الثاني من زمن العرض، ذلك انها امسكت بحالة درامية/جسدية ثابتة لا تحتاج الى تعابر ادائي بقدر احتياجها الى تمثيل واستحضار هواجس تنعكس بها روح الزوجة المهزومةِ امام مدينتها/زوجها/طفلها/جسدها الامر الذي دفع بإيقاع الشخصية ذاتها الى مستوىً ادائياً مكملاً لأداء الشخصية المقابلة(الزوج/باسل)، دون الانجرار الى مفازات المنافسة وهو ما انعش دقائق التلقي للجزء الاخير من العرض، حتى بعد خروج (أمل) من البيت ضمن نهاية مفتوحة وضعت أمام المتلقي ليختار تصورها.
* نشر جزء من المادة في العدد(41) فبراير 2023من مجلة – المسرح –الشهرية الصادرة عن دائرة الثقافة في الشارقة.