الناقد والباحث سمير حنفي يكتب: الفنان عبد العزيز مكيوي الذي قدم قصة حياته على شاشة السينما.. بينما اكتفى الكثيرون بدور محجوب عبد الدايم!
سمير حنفي
ناقد وباحث مسرحي
ـ
رحل الفنان الذى رفض الابتذال .. رحل من تمسك بقيمة الكلمة الصادقة للتعبير عن فنه، ورغم أن عبد العزيز مكيوى كان فناناً بسيطاً، إلا أن مبادئة كانت أكبر من عصره، فقد رفض أن يكون مجرد مؤدى فى رحلته الفنية، رفض أن يكون فناناً، تحركه الأهداف الأيدلوجية، دون أيمان منه، فأنزوى فى دائرة النسيان بين فنانى الصف الثانى، رغم قدراته الفريدة، ندرت أعماله، إلا من القليل الذى يحمل فى ثناياه، دلالة المعنى، وقيمة الفن، ودلالاته الفكرية، التى كانت تحمل رسالات تعبر عن مكنون أفكاره الداخلية، فندرت أعماله، وندرت مشاركاته، لكن أعماله فى مجملها كانت تحمل أفكاراً ودلالات تتعدى عصره، وأبرز ما قدمه عبد العزيز مكيوى مسرحية الطعام لكل فم، لفرقة المسرح القومى، عام 1964، وهى من تأليف توفيق الحكيم، وأخراج محمد عبد العزيز، ثم فيلم القاهرة 30، الذى يجسد فيه شخصية الفتى الثورى المحب لوطنه، وينتهى به الحال إلى الهلاك نتيجة المبادئ التى قرر أن لا يحيد عنها، وهذا ما حدث معه فى الواقع، وكأن الأخلاص للوطن صار هو همارتيا العصر الحديث.
نبذة عن حياته: أسمه بالكامل محمد عبدالعزيز أحمد شحاتة وأشتهر بأسم عبد العزيز مكيوى، ولد فى 29 يناير عام 1934، وحصل على بكالوريوس الفنون المسرحية عام 1954، بعض المراجع ذكرت أنه ذهب فى بعثة لروسيا ، لدراسة التمثيل والأخراج، لكن لا يوجد ما يؤكد هذا، أتقن عدة لغات منها الانجليزية والفرنسية والروسية، كانت أبرز أدواره دور طه فى فيلم “القاهرة 30” عام 1966، ومن قبله فيلم “لا تطفئ الشمس 1961” من بطولة شكري سرحان وفاتن حمامة وعماد حمدي، وتأليف حلمي حليم، وقصة إحسان عبدالقدوس، من أخراج صلاح أبوسيف. ثم “لا وقت للحب” 1963، مع المخرج صلاح أبوسيف والفنانة فاتن حمامة ، و الفنان رشدي أباظة.
و من أبرز أعماله التلفزيونية دور الأُستاذ رؤوف في خُماسية “الساقية”، ، ومن الغريب أن نجاحة فى تجسيد شخصية طه فى فيلم القاهرة 30 كان بداية يمكن أن تفتح له أبواب النجومية، وبرغم أن شخصيته كانت تتماشى مع طبيعة النجم السينمائى، إلا أن تمسكه بنوعية الأدوار التى يؤديها، حالت دون أمكانية أقحامه فى عالم السينما والنجوم، غاب مكيوي 23 عامًا، قبل أن يعود في 1989 ليشترك في مسلسل الكهف والوهم والحب، ومن هنا تحول إلى الدراما التليفزيونية، وقدم بعض الأعمال منها مسلسل الوعد الحق 1993، أيام المنيرة 1994، “العائلة” عام 1994، مع الفنان محمود مرسي والفنانة ليلى علوي، وقدم من خلالها شخصية فنان تشكيلي صاحب مبادئ لا يحيد عنها، كما شارك في الجزء الأول والثاني من مسلسل “أوراق مصرية” جزء أول عام 1998، وجزء ثانى عام 2002 ، عاش سنواته الأخيرة، فى حالة نفسية سيئة بعد أن تخلى عنه الجميع، فكان يهيم وحيداً، مما دعى نقابة المهن التمثيلية، للسعى بألحاقه بأحدى دور المسنين بمصر الجديدة، توفي صباح الاثنين الموافق 18 يناير 2016، عن عمر يناهز 82 عام، بسبب أمراض الشيخوخة، وسأتحدث هنا عن أهم عملين قدمهما كنموذج من أعماله:
مسرحية الطعام لكل فم: والمسرحية كتبها توفيق الحكيم عام 1963، أبان التحول الأشتراكى الذى قادة جمال عبد الناصر بقوانين يوليو عام 1961، التى أصبحت مصر بمقتضاها مصر دولة أشتراكية، وما تبعها من قوانين، أنتهت بتأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد المصري, خاصة في المجالات الصناعية والتجارية، عام 1964 ولأن توفيق الحكيم كان أحد الكتائب التى تحاول أن تدعم الفكر الأستراتيجى للمؤسسة الحاكمة، فقد جاءت مسرحية الطعام لكل فم متماشية مع هذا النسق، ولا أنكر أن هذا الفكر قد أستهوى جمع كبير من المثقفين، أحياناً إلى حد الجنون، وتدور أحداث المسرحية، حول الحياة الشاغرة الخاوية التى يعيشها الزوجان حمدى وسميرة، فحمدى عبد الباري رئــيس قلم المخطوطات في إحـدى الوزارا، ليس له هدف محدد فى الحياة، يدرك أن وظيفته ليس لها أى نفع فى الحياة، وهدفة الوحيد فى الحياة، هو أن يتدبر الأعذار ليجلس مع أصدقائه أو أخواته على القهوة للعب النرد “وأترك إخواننا على القهوة ملطوعـــين ( ينظر في ساعته ) أنا متأخر ربع ساعة”، ويتأخر حمدى عن موعده المفضل على القهوة، لأنّ “الستّ عطيّات” جارتهم فى الدور التالى وصاحبة العمارة، أغرقت شقتها بالماء حتّى تسرّب إلى حائط الحجرة ، وانتشرت عليه بقعة كبيرة، وتدور معركة بين حمدى وزوجته من جهة، والست عطيات من جهة أخرى، ينتهي باستسلام عطيّات وإرغامها على تبييض الحائط بنفقتها، وكان يمكن أن تنتهى الأحداث الدرامية عند هذا الحد، لكن تحدث المفاجأءه، عندما يبدأ حمدى فى الأستعداد للذهاب إلى القهوة، حيث تتشكل خيوط الماء المتراكمة على الحائط ليتجسد للزوجين، أشخاصاً متحركة ومتحاورة داخل الحائط، ويبرز في داخلها ثلاثة أشخاص تضمّهم حجرة، لتتحول الحجرة الصغيرة إلى مسرح، مستنبطاً من بيرانديللو أسلوب المسرح داخل مسرح، يغلفه الأطار الواقعى لطبيعة الأشخاص ( الزوج والزوجة)، مع بعض الملامح العبثية، حيث يطرح الأشخاص الوهميين قضية الأبن الذى يبحث فى بحث علمى، حول محاولة لجعل الطعام لكل أنسان، بينما يواجه، فى ذات الوقتن جريمة الأم التى قتلت زوجها، من أجل أن تتزوج من ابن عمّها الدكتور ممدوح بعد فترة قصيرة من وفاة الوالد، ولا نجد الأبن يولى هذا الأمر الأهتمام الكافى، مما يثير عجب الأخت، ويذكرنا إلى حد كبير بتردد هاملت، لأن الأخ يرى أن بحثه الذى يحاربة تجار السلاح والطعام، وذلك الأمر غير ميسَّر حاليًّا، لسبب بسيط ملخَّصُهُ أنّ مَن لهم مصلحة في السيطرة على الناس والشعوب، لا يناسبهم إلغاء الجوع؛ فالجوع هو سلاحهم في السيطرة الاقتصاديّة، وهم يفضّلون بذل الجهد والمال في دعم أسلحة الدمار التي من تزيد انتشار الجوع، وتؤدى إلى أخضاعهم، بدافع الجوع، وحين تلومه الأخت على أهمال قضية أمه، التى قتلت أبيه، فيجيب، لو كان التغيير إلى الأمام ، أمّا أن تلوي رقبتي إلى الوراء فمستحيل، ويتوقف ظهور الشخصيات الوهمية هنا، لكن المغزى فى العمل نلمحه من خلال التحول فى شخصية الزوجان، حسثُ يتحول أهتمامهما إلى الأهتمام بأفكار ومنطلقات جديدة، إلى حد أن حمدى يعترف بتفاهة عمله بالوظيفة، وبتفاهة انشغاله بالمقهى مساء، مع “الشلّة” التافهة، فيتركها ويترك المقهى، وينصرف إلى البحث، فى مشروع ألغاء الجوع والفقر من العالم، ونفس الأمر مع زوجته، وتتحول علاقتهما إلى علاقة عقلانية سليمة، رغم أقرار الزوج فى نهاية المسرحية، أنّه ليس من العلماء ولن يكون منهم، وكلّ ما يستطيعه أن يحبّ العلم، ولعب عبد العزيز ميكوى هنا دور العالم، الذى يبحث عن وسيلة، لأنتصار العلم على الفقر، والجوع، وهو هنا يلعب دور حلمت به الثورة ودعت أليه، وصاغت من أجله القوانين الأشتراكية، فالمسرحية بالنسبة للفترة الزمنية، التى قدمت فيها، تقارن بين حال الزوجين قبل الثورة، وما يجب أن يفكرا فيه بعد الثورة، وأكتفى هنا بهذا التحليل البسيط للمسرحية.
فيلم القاهرة 30 ومعانى غفلت عن الكثير: وهى عن رواية القاهرة الجديدة، لنجيب محفوظ، وبرغم أن هذا الفيلم كتب عن الفترة التى سبقت الثورة وبالتحديد عام 1945 إلا أن أحداث الفيلم، أكبر من قصة صراع على السلطه أو المال، أو حتى حب فتاة، فأحداث هذا العمل تتماشى وبشكل كبير، على الفترة التى قدم فيها الفيلم، عام 1966، وبل وتنطبق على عصور عديده، بما فيها عصرنا الحالى، أنها رواية تدور حول ثلاث أشخاص، يعيشون فى غرفة واحدة، يحدق بهم الفقر والجوع، ويجمعهم التطلع للمستقبل، ولكن كلٌ منهم بطريقته، فطه يمثل المثالية التى تؤمن بالأشتراكية، ويدعو للثورة والكفاح على الأنجليز وعدم الخضوع للظلم والفساد، وهو الدور الذى جسده عبد العزيز مكيوى، وعلى النقيض نجد محجوب عبد الدايم، وهو يتبنى الجانب الميكافيللى فى الحياة، فلا شيئ يستحق أن نضحى من أجله ، وأحمد بدير الذي يرى أن الشهرة هي الحل الأمثل للهروب من دائرة الفقر، وفى المقابل هناك شخصية الفتاه الجميلة إحسان، التى يتطلع أليها الجميع، لكنه فى ذات الوقت يبتعد عنها، وكل له مبرراته فى هذا، ولكن الفقر، وعدم القدرة على التضحية من أجلها، هو سبب مشترك فى الأبتعاد عنهم، رغم رغبتهم فيها، ثم وكيل وزارة المعارف الذى يستغل منصبه، ووسامته للفوز بأحسان بأى طريقة، غير الزواج، ثم الأب الذى يقدم أحسان بمنتهى السعادة، لمن يدفع أكثر، الشخص الوحيد الذى أحبته وأحب أحسان بحق، هو طه الرجل الثورى، رغم أنه يعلم مقدماً أنه لن يفوز بها، وهذه الوضعية تضعنا فى حقيقة الأمر أمام الرمز الذى أراده نجيب محفوظ بالتلاعب بهذه الشخصيات، فأحسان الذى يتكالب عليها الجميع هى أكثر من فتاه جميلة، ولكنها مصر، التى يتكالب الجميع عليها رغبةً فيها، لكنه يريد أن يستفيد دون أن يضحى فى سبيلها، أو يسعى لأسعادها، الأب رمز للأنسان الجشع الذى يبيع أبنته، أو يبيع مصر، كى يجنى ثمار خيانته لأبنته، ووكيل الوزارة رمز للسلطه التى تسعى لأستنزاف البلد، والتمتع بها، دون أن يقدم لها أى شئ يُذكر، بالطبع معروف دور محجوب عبد الدايم، الذى يسعى للأستفادة منها، لا يهم الحب، المهم ما يجنيه منها، وأحسان وحيدة، بائسة، لا تدرى لمن تلجأ، والوحيد الذى يحبها بحق ويسعى لأرضائها، ويضحى من أجلها هو الفتى الثورى طه، الذى يعلم مقدماً أنه لن ينال منها أى شئ، سوى حبها.
ولو تأملنا طبيعة شخصية لأدركنا مدى التشابه بين سيرته الشخصية ودور طه، فكلاهما سعى وضحى لأرضاء المحبوب، دون أن يجنى أى ثمار، بينما باع الكثيرون أحسان، من أجل السبوبة.