النص المسرحي “الهروب” تأليف الكاتب العراقي مهدي الوزني
المسرح نيوز ـ نصوص | مهدي الوزني
ـ
مسرحية ( الهروب )
مهدي هندو الوزني
( مكان خرب يحتوي على نفايات وبقايا أشياء ــ الثالث نائم في إحدى الزوايا ــ موسيقى مناسبة ـــ الأول والثاني يدخلان المسرح وهما يركضان وكأن أحدا” يطاردهما ـــ الإضاءة تتحرك وراءهما ـــ يختفي كل منهما وراء بقايا من جدار ـــ ينظران من الفتحات الموجودة في الجدار ـــ تقع عين كل منهما على الأخر …. )
الأول : من أنت ؟
الثاني : (متلعثما”) أنا .. أأ .. بل من أنت ؟
الأول : (متلعثما”) أأ .. أنا .. أنا من يسأل
الثاني : وأنا من يسأل أيضا”
الأول : بل أنت من عليه أن يجيب
الثاني : ولماذا أنا ؟
الأول : هذه هي أصول المحادثة .. إن سأل الأول .. اجاب الثاني
الثاني : (بقعة ضوء ترصده) كُفْ عن الكلام الأن .. إنهم قادمون
الأول: من ؟
الثاني : الذين يلاحقونني
الأول : أنت أيضا” ؟
الثاني : وأنت أيضا”
الأول : كيف عرفت ؟
الثاني : سؤالك أجاب عن سؤالك (إظلام ــ ثم إضاءة)
الثالث : (يراقبهما ويستمع لحديثهما ثم يتكلم ) أعتقد أنهم رحلوا .. هيا إخرجا
لاتخافا …
الثاني : (يخرج من خلف الجدار وهويتلفت في كل الإتجاهات) أسأل الله أن يكونوا قد رحلوا
تماما” ( يستدرك ناظرا” إلى الثالث بخوف) من أنت ؟
الثالث : لو أنني لم أسمع حديثكما الذي يدل على إنكما هاربان .. لقلت أنتما من يلاحقاني
الثاني : أنت الأخر مُلاحق ؟
الثالث : الكل ملاحق
الأول : من هؤلاء الذين يلاحقونك ؟
الثالث : ربما هم نفس الذين يلاحقونكما
الأول : طريقة الحوار هذه ليست بغريبة عليَ ألا أعرفكما ؟
الثاني : أتصدق إن قلت لك بأنني أمتلك نفس الإحساس
الثالث : أتعتقدا بأننا نعرف بعضنا البعض
الأول : ربما .. ( يخاطب الثاني) منذ متى وأنت مُلاحق ؟
الثاني : (يتحرك وعيناه في الأرض كمن يبحث عن شيء) منذ أن ولدتني أمي
الثالث : العين .. نعم العين أولُ الدرجات في سلم الملاحقة
الأول : لاتقل بأنك لم تغبْ عن عيون الذين كانوا حولك يوم ولادتك
الثاني : بدء” من حضن أمي حتى حضن زوجتي
الأول : ومن اللحظة الأولى لقطع الحبل السري .. قررت الهرب
الثالث : من أي شيء
الأول : من كل شيء
الثاني : عندما كنت طفلا” .. أستيقظ في الصباح لأجدني مبلالا” أنا وسريري ولشدة خوفي من
عقاب أمي كنت أهرب متجها” صوب المدرسة
الأول : ولكرهي من مادة التاريخ المتضارب في الأراء والمشوه كنت أهرب من المدرسة
متجها” صوب بساتين النخيل .. إيه يابساتين النخيل
الثاني : كنت أجلس تحت نخلة تحمل من التمر مايشبع الملايين من الجياع
الثالث : لم تعد هناك نخلة
الثاني : هربت هي الأخرى من جحيم الجرافات
الأول : وهربت أنا من سنين عمري التي طاب لها الجري ورائي لتسلمني للذين أعجبتهم
النياشين المرصعة بأنواع الفصائل من دم الرجال
الثالث : تعرفت على الهروب .. بسبب معرفتي بواحد من هؤلاء الذين ذكرتهم
الثاني : كيف ؟
الثالث : في أحد الصباحات الجميلة الهادئة .. كنت متجها” إلى مقر عملي وأنا أقود سيارتي
وأسكب في أذني فنجانا” من قهوة الصباح فيروز .. فاجأني كلب مسرع يعبر الشارع
لم أستيطع السيطرة على إيقاف السيارة رغم أنني حذرته بأصوات مزامير السيارة ..
ولكنه لم ينتبه لتحذيري فصدمته ..
الأول : حينها لم أشعر إلا وأنا في غرفة مظلمة أجلس على كرسي وأحدهم فوق رأسي
الثاني : (مخاطبا” الثالث) ألم تشعر بالكلب وهو يعبر الشارع ؟ ألم تنظر إليه ؟
الثالث : لاياسيدي كنت منشغلا” قليلا” بشرب القهوة
الأول : أتشرب القهوة وأنت تقود السيارة ؟
الثالث : كلا سيدي ..
الأول : ماذا ؟ ألم تقل بأنك كنت منشغلا” بشرب القهوة
الثالث : نعم سيدي
الأول : وإذن ؟
الثالث : فهمتك سيدي .. أقصد قهوة الصباح .. فيروز .. كنت …….
الثاني :(مقاطعا”) أها .. الأن فهمت .. تجلس وبجانبك إمرأة .. إسمها فيروز .. وبالتأكيد كنت
منشغلا” بمغازلتها وربما كنت تفعل أشياء” أخرى .. ناسيا” أنك تقود السيارة وناسيا”
أيضا” أن الناس يعبرون الشارع .. أنت تستهتر بأرواح الناس
الثالث : لكنه كلب ياسيدي
الأول : وأي كلب .. هذا الكلب الذي تستهزء به وأزهقت روحه من سلالة نادرة .. فهو يفهم كل
شيء .. لماذا لم تقم بتحذيره ؟
الثالث : ولكنني حذرته ياسيدي
الثاني : ولماذا لم ينتبه لتحذيرك ؟
الثالث : لأنه كلب ابن كلب
الأول : إخرس .. أتعلم لمن هذا الكلب ؟
الثالث : كلا ياسيدي
الثاني : هذا كلب صاحب النياشين المرصعة …….(موسيقى)
الثالث : هنا قررت الهرب
الأول : كما قررت أنا الهرب من أصحاب النياشين المرصعة في ساحات البطولة
الثاني : لن أنسى صورة الأمهات وهن يسكبن الماء وراء أبنائهن لحظة الوداع
الثالث : ولن أنسى الأباء والأخوة والأخوات والأطفال والزوجات وهم يتضرعون إلى الخالق
في حضرة البطولة والشجاعة والإنسانية سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين أن يوقف
هذا السيل الجارف من الدماء وهم يصرخون يارب ..
الأول : يارب .. يارب .. يارب .. وأنا الهارب بينهم أصرخ معهم يارب .. يارب .. ياحرب
ياحرب كوني بردا” وسلاما” على أصدقائي وإخوتي
الثاني : وانطفأت نار الحرب بعد ماسُكبت عليها دموع من تيتم من الأطفال
الثالث : ثم اشتعلت ثانية .. لم تكن دموع الأطفال بقساوة الماء على نار الحرب حتى تُطفئها
تماما”
الأول : وكيف تنطفىء بدموع الطفل التي يبزغ منها الفجر وبكاءه الذي هو آذان
الثاني : ومع آذان الفجر تسللت هاربا” عبر الصحراء .. أسبق ظلي .. لاأعرف اين ايمم وجهي
وبعد كل مسافة أقطعها أجد هاربا” أمامي .. كنت أزعم بأنني أول الهاربين إلا أنني
أخرهم
الثالث : قطعان من الهاربين يسوقهم راع يمتطي حصانه الحديدي المعلق بالسماء .. وفي
المساء شارفت على اطلال لخرائب كانت مدنا”
الأول : قررت أن أستقر في هذه المدن الخربة وأن أهجر شيئا” أسمه الهروب .. أفرح ..
أتزوج .. أنجب .. إلا أنني نسيت أن تحقيق هذه الإمنيات منوط بمفتاح السعادة ..
أقصد النقود .. من أين لي بها
الثاني : لماذا لم تدعك مصباح علاء الدين أو تفتح مغارة علي بابا
الثالث : لا بابا .. قررت أن أتكلم .. أن أخرج من صمتي .. أكافح .. أصرخ بأعلى صوتي ..
سكائر .. سكائر .. سكائر .. ولكنهم رعاهم الله حذروني
الأول : من الذي حذرك ومن أي شيء ؟
الثالث : أولائك الذين تعرفهم .. قالوا لي رعاهم الله إحذر فالدخان يضر بالصحة
الثاني : هذا التحذير أيقظ في نفسي وحش الهروب ثانية
الأول : فقررت الهروب بعيدا” هذه المرة إلى التي يسمونها الغربة (مخاطبا” الثالث)هل تعرفها
الثالث : إيه أيتها الغربة .. أجلس وسط جدرانك عاريا” من السقف .. أتفيأ في ظلك الذي هو
أبرد من الصقيع .. كنت أهرب من كوابيس الوحدة إلى سراديب الرذيلة لأتخلص من
داء الحنين المزمن .. ألهث وراء النزوات والملذات حتى أصبحت عبدا” لها .. كلبا”
يتبعها أينما ذهبت
الثاني : غير مبال بشيء .. نسيت كل شيء .. رجولتي .. عنفواني .. شموخي .. قيمي .. التي
تربيت عليها .. نسيت كل شيء
الأول : جعلتني الغربة كائنا” رخوا” .. لاأشعر بانتمائي إلى أي شيء .. كنت أسير في شوارع
الغربة الباردة كالمجنون .. أحدق في وجوه المارة علًيً أرى وجوها تشبه وجوه أهلي
وأصدقائي وأحبتي
الثالث : لم أرى في الجوه إلا وجهي .. وجهي الذي بدأ يفقد ملامحه .. ليلبس وجه مهرج
السيرك الذي يُضحك الناس وهو حزين
الأول : قررت الهروب من الحزن .. الحزن الذي بات يطحن في داخلي حبات الندم
الثاني :(تفيد بي إيه ياندم ) أغنية طالما إستوقفتني كلماتها .. وجعلتني أسأل هل ينفع الندم ؟
الثالث : لاينفع إلا القلم .. نعم القلم .. أين القلم .. أين (يبحث في الأرض)
الأول :(مخاطبا” الثالث) بماذا ينفع القلم ؟
الثالث : يساعدني كي أُهَرِبَ نفسي عبر سطور من وريقات خجلى .. أرسلها إلى من تركتها
ورائي بقلب من ورق غارق بشلال من الدموع .. يساعدني كي أوشم جبينها بقبلات
الذين ضحوا من أجل شيء إسمه الحب .. يساعدني كي أحفر اعتذاري على صخرة
السنين التي مرت وأنا أُوهمها بالعودة وأطلب منها الإنتظار .. يساعدني كي أقول لها عفى الله عما ندم .. وأنا نادم ..
صوت فتاة : بل أنت نائم .. لا.. بل حالم .. لا .. بل ناقم .. ناقم على حياتك وعلى حبك بل ناقم
حتى على نفسك
الثاني : يمكن أن أكون ناقما” على حياتي .. نفسي .. إلا أنني لايمكن أن أكون ناقما” على حبي
فهو حلمي ..
صوت الفتاة : وحلمي بأن تعود
الأول : أعود …….
الفتاة : نعم تعود ……
الثالث : ولكنني مازلت أخشى الظلام
الفتاة : أوقدنا شمعة واحتفلنا
الثاني : يا الله .. اليوم خاصمت الهروب
الثالث : واليوم سأمشي في الدروب
الأول : لاأخشى شييء ونفسي مفتوحة للحياة ..
(يسمع صوت عيارات نارية ونفجارات ــ يركض الثلاثة في كافة الاتجاهات ثم يختبئون)
الأول :(مخاصبا” الثاني) أنت .. ممن تختبىء
الثاني : من الذين يلاحقونني .. وأنت ممن تختبىء ..
الاول : من الذين يلاحقونني ..
الثاني :(مخاطبا” الثالث) ألا أعرفك ؟
الثالث : ربما ..
الأول :(مخاطبا” الثالث) ألا أعرفك ؟
الثالث : ربما
الثاني : أتعلمان لماذا لانعرف بعضنا البعض أو حتى لانعرف من نحن
الأول : لماذا ؟
الثاني : لأننا أدمنا الهروب .. فمحا ملامحنا .. شطب أسماءنا .. استولى على ذاكرتنا .. فصرنا
لانعرف شيئا” .. ولانفهم شيئا” .. ولانتذكر شيئا” ..
الثالث : وهل نحن الثلاثة من أدمن على الهروب ؟
الأول : لا.. بل هناك الكثير .. الكثير .. هذا يهرب من فقره .. وذاك يهرب من قلبه .. وأخر
يهرب من زوجته وأطفاله .. وغيره يهرب من نفسه .. الكل يهرب
(يسمع أصوات إنفجارات أخرى)
الثاني : ماذا نفعل الأن ؟
الثالث :(بسخرية) ماذا غير الهروب
الأول : إلى أين هذه المرة ؟
الثاني : نتجه صوب القمر
الأول : لا .. بل نهرب صوب الشمس
( موسيـــــــقى ـــ إظلام )