انفتاح الأجناس الأدبية على الفنون .. “الرواية.. الموسيقى.. التشكيل والمسرح”
ورقة بحثية ..من إعداد:
يوسف بعلوج*
كاتب مسرح جزائري
ـ
يشترك الأدب بمختلف أجناسه مع الفنون بمختلف تفرعاتها في كونهما أداتين للتعبير عن الإنسان في حالاته المتعددة، كما يشتركان في نقطة تتجاوز التعبير إلى توثيق التاريخ البشري.
وإن كان الأدب يمثل حالة إبداعية ترتكز في تجسيدها على الكتابة النصية أو الخطية، فإن الفن يمثل كل ما لا يتجاوز إمكانيات المبدع في التعبير عنه نصا مثل النحت والرسم. كما تقف بعض الفنون على نقطة تماس بين الكتابة الإبداعية والإخراج الفني مثل النص المسرحي الذي يتجسد على الخشبة، أو النص الشعري الغنائي الذي يكتب ليصاحب بلحن موسيقي يحوله إلى ما يعرف بالأغنية.
وقبل أن ننخرط في موضوع الورقة القاضي بدراسة للتفاعل بين الأدب والفنون، يفضل أن نستعرض سريعا تعريفا لكل منهما.
“عندما رجعنا إلى المعجم الوسيط فإننا وجدنا ثلاثة معان للفظ “أدب”:
المعنى الأول: رياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي.
المعنى الثاني: الجميل من النظم والشعر.
المعنى الثالث: كل ما أنتجه الإنسان من ضروب المعرفة.”(1).
يتضح من هذه التعريفات أن الأدب هو فعل يتجاوز الخمول والكسل، إلى إنتاج يتطلب الكثير من الاجتهاد، فالتعريف الأول المرتبط برياضة النفس يدل على أن للأدب جمرة لا يقبض عليها إلا من خصه الله بموهبة تميزه عن البقية، والتعريف الثاني يدل على أن الأدب ينفرد بميزات الجمال التي تفرقه عن الكتابة العادية، بينما التعريف الثالث يقدم الأدب على أساس أنه نوع من أنواع المعرفة، وهو أمر غير مستغرب بالنظر إلى إلمام الأدباء على مر العصور بالعديد من العلوم والمعارف، فالرازي العالم فارسي الأصل جمع بين الكيمياء والطب، والموسيقى والأدب والفلسفة، وابن سينا جمع بين الأدب والطب.
أما الفن فله تعريفات كثيرة تختلف باختلاف الزاوية التي ننظر إليه من خلالها، فهناك تعريف تأثيري متعلق بالرسالة التي يود الفنان إيصالها من خلال إبداعاته، والتعريف الموضوعي متعلق بمنبع هذا الفن من إذا كان ذاتيا بحتا أو مرتبطا بالتفاعل مع العالم الخارجي، وما يهمنا من بين هذه التعريفات تناسبا مع الموضوع هو التعريف الانتقائي للفن الذي يصب في خانة “القدرة على الانتقاء من بين الموجودات المحيطة بالفنان، أو التي يتخيلها نوعيات معينة ذات صفات متباينة ويقوم بنقلها إلى المشاهد أو المستمع في صيغة أخرى” (2).
ويذهب هذا التعريف إلى تخصيص الفنان بعطاء يميزه عن الآلة التي تنتج حسب المادة التي توهب لها، وليس لها القدرة على انتقاء ما تراه ينتج عملا مبدعا، فصب البلاستيك في قالب معين لا ينتج عملا فنيا مبدعا، نظرا لأن البلاستيك مادة غير راقية جماليا وإبداعيا، في حين أن للفنان حرية اختيار أو إعادة تدوير المواد من أجل إنتاج الدهشة المتطلبة في كل الأعمال الفنية، وحتى مع استخدامه لمواد ذات قيمة جمالية دنيا في حالتها الأصلية، فإنه يستطيع أن يبث فيها الجمال، وقد حدث هذا الأمر في معارض للفنون التشكيلية في الجزائر أين أعاد بعض الفنانين من بينهم الفنان التشكيلي كريم سرقوة استغلال مكانس التنظيف في أعمال فنية مبهرة.
من التعريفين السابقين يتضح أن المبدع كتابة أو فنا يختلف عن الإنسان العادي في تشكيله للأشياء في وعيه وإعادة طرحها للبشرية، فتلقيه لما يدور من حوله بطريقة مغايرة هو المفتاح الذي يجعله يطرح منتجا يميزه عما ينتجه البشر العاديون.
وللحديث عن التفاعل وانفتاح الأجناس الأدبية على الفنون، نستطيع الانطلاق من بداية ظهور الفنون التي سبقت الكتابة بآلاف السنين، فالنقوش الحجرية “ترجع إلى العصر الحجري الحديث في الفترة ما بين 12000 و10000 عام قبل الميلاد، وقد ظهرت بوادر الكتابة عن طريق الكتابة بالصور أو النقوش في الفترة ما بين 9000 و7000 عام قبل الميلاد”(3). وولدت فكرة النقوش الحجرية قبل اختراع الكتابة كأداة للتواصل والتأريخ نتيجة الحاجة الملحة للبشرية للتعبير عن نفسها، وهو ما أتاح لنا في العصر الحديث التعرف ولو جزئيا على بعض ما كان يدور في تلك الحقبة من التاريخ الإنساني، وتعتبر هذه النقوش والنحوت مهمة جدا لأننا “لا نملك عن أسلافنا قبل أن تخترع الكتابة سوى وثائق أثرية: عظام، أدوات، رسومات، وبعد ذلك فقط نستطيع أن نقرأ ما كانوا يروونه عن أنفسهم، والحقيقة أن الكتابة تستعمل منذ حوالي 6000 سن، مما يعني أن ما قبل التاريخ أطول بكثير من التاريخ” (4) ومهما اختلفنا عن دواعي التدوين بالنقوش الحجرية ما إذا كان عدم اكتشاف الكتابة بعد، أم رغبة في التدوين بتلك الطريقة إلا أننا نستطيع الاتفاق على أن تلك النقوش تعتبر أعمالا فنية راقية.
أما الكتابة فجاءت متأخرة نوعا ما، حيث تدين البشرية لعبقرية الإنسان الرافدي الذي اهتدى مع تطور حياة الإنسان الأول وتكوين المجتمعات البشرية إلى اختراع الكتابة لحفظ إنتاجه الفكري وميراثه العلمي والثقافي، وهذا عام 5000 قبل الميلاد. ومن هنا انطلقت الكتابة كأداة للتوثيق لتصل إلى ما هي عليه الآن.
الحديث عن الأجناس الأدبية وعلاقتها بالفنون هو حديث قد يتشعب بشكل كبير، ويحتاج إلى كثير من البحث والتدقيق، وهو موضوع يتسع لمؤلفات كثيرة ذلك أن الأدب قسمان رئيسيان هما النثر والشعر تتفرع عنهما أنماط كتابة عديدة منها الرواية، القصة، الشعر الكلاسيكي، الشعر الحداثي، المسرح في شكله النصي… أما الفنون فتنقسم بدورها إلى قسمين رئيسيين يشملان الفنون التشكيلية والفنون التعبيرية، يتفرع عنهما الرسم والنحت والرقص والسينما والموسيقى والمسرح في شكله الركحي وغيرها من الفنون. وهنا دراسة علاقة كل عنصر من الطرف الأول الأدبي بكل عنصر من الطرف الثاني الفني هي دراسة تستحق أن نفرد لها مساحات واسعة.
ولهذا حاولنا في هذه الورقة البحثية أن نتطرق لبعض هذه التفاعلات بشكل موجز وسريع.
1-الأدب والفن التشكيلي:
يرتبط الأدب بالفن التشكيلي ارتباطا وثيقا، فقد اجتمعا في أشكال عديدة موضوعية من حيث أن يكون موضوع العمل الأدبي متعلقا بالفن التشكيلي أو العكس، أو جمع المبدعين بين الأدب والتشكيل، أو مرافقة أحدهما للآخر، أو تأثير أحدهما على بنية الآخر.
شهد تاريخ الإبداع العالمي عبقريات جمعت بين الفن التشكيلي والكتابة الأدبية من أهمها الفرنسي جان كوكتو (1889-1963م) الذي جمع بين كتابة الرواية والشعر والمسرح والرسم والتصميم، وكانت تربطه علاقات ودية مع أحد أعظم التشكيليين في التاريخ الرسام والنحات الإسباني بابلو بيكاسو (1881-1973م) الذي كتب الشعر هو أيضا. ويظهر الموقع الرسمي لكوكتو (5) والذي يتخذ من وصفه بالفنان المتكامل شعارا له، كيف أن تمازج الأدب والفن التشكيلي لديه، أنتج أحد أعظم العبقريات الفنية في التاريخ المعاصر وأحد أكثرها غزارة من ناحية الإنتاج، وعندما نتحدث عن كوكتو فهذا لا يعني أن العلاقة بين الأدب والفن التشكيلي هي علاقة حديثة بل تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد ، في جزيرة كيوس اليونانية، حسب البحوث التي أشارت إلى هذا التاريخ، وربما العلاقة هي أقدم، “لعل أقدم نص نعرفه في تاريخ الأدب والنقد الغربي عن هذه العلاقة الساحرة بين الشعر والفنون التشكيلية هي العبارة المنسوبة إلى سيمونيدس الكيوسي(556-468م) الذي يقول فيه: إن الشعر صورة ناطقة أو رسم ناطق، وإن الرسم أو التصوير شعر صامت”(6).
ومن بين الفنون الأدبية الأكثر ارتباطا بالفنون التشكيلية الشعر، الذي كتبت فيه دراسات كثيرة ربطت بينه وبين التشكيل منذ العصر الأرسطي وصولا إلى العصور الإسلامية الأولى ، ولعل الفارابي (874-950م) أول من انتبه لهذه العلاقة الوثيقة حين عرف الشعر بالقول: “أن تؤلف من أشياء محاكية للأمر الذي فيه القول”(6). فاعتماد الشعر على المحاكاة حسب الفارابي أدى به إلى ربطه بفنون أخرى مثل الرسم والنحت، يقول الفارابي: “محاكاة الأمور قد تكون بفعل أو بقول، فالذي بفعل ضربان: أحدهما: أن يحاكي الإنسان بيده شيئا ما، مثل أن يعمل تمثالا يحاكي به إنسانا ما أو غير ذلك، والمحاكاة بقول: هو أن يؤلف القول الذي يصنعه أو يخاطب به من أمور تحاكي الشيء الذي فيه القول، وهو أن يجعل القول دالا على أمور تحاكي ذلك الشيء” (8). ومن هنا يتضح أن الفارابي لم يفصل بين الشعر والفن التشكيلي إلا فيما يخص الطريقة التي تتم بها المحاكاة فيزيائيا أو لفظيا، والأدوات المستخدمة في عملية المحاكاة بين المواد الأولية المستخدمة في الرسم والنحت من حجارة وأوراق وألوان، والقول المكتوب أو المقروء في الشعر، يقول الفارابي: “إن بين أهل هذه الصناعة (يقصد الشعراء) وبين أهل صناعة التزويق (يقصد الفنانين التشكيليين) مناسبة، وكأنهما مختلفان في مادة الصناعة ومتفقان في صورتها وفي أفعالها وأغراضها”(9). واستمرت الدراسات في التشكيل الشعري مع ابن سينا(980-1037م)) حيث “يدرك ابن سينا أن كلا من الشاعر والمصور محاك، غير أن ما يختلف فيه عن الفارابي أنه كان مدركا للنظرية الأرسطية التي ترى أن الفنون كلها بما فيها الأدب والموسيقى والرسم والرقص تقوم على المحاكاة في كل منها”(10).
وفي القرن التاسع عشر ظهرت نزعة قوية إلى الرسم والتشكيل، وبدأ الإحساس بشاعرية الرسوم، حيث كتب الشعراء قصائد عن لوحات فنية مشهورة مثل لوحة الموناليزا التي رسمها الفنان الإيطالي ليوناردو دفنشي بين عامي 1500 و1504، والتي كتب عنها توماس مكجرفي قصيدة “جيوكاندا”، وبرونو ستيفان شيرر الذي كتب “المرأة”، وإدوارد دودوف الذي كتب “موناليزا”، ليتطور الأمر فيما بعد إلى تجارب شعرية كاملة، “فالشاعر بييت برشيل ألف ديوانا كاملا مستوحى من الصور واللوحات الفنية لمختلف الرسامين سماه “الصور وأنا”، كان ذلك عام 1968، ولوحة “الزرافة المحترقة ” لسلفادور دالي بمتحف الفن في مدينة “بازل” السويسرية استلهمها الشاعر “برستيل”، كما استلهم الشاعر الألماني بيتر يوكوسترا لوحة “أشخاص وكلب أمام الشمس” للفنان الإسباني خوان ميرو.(11)
ولم يقتصر إلهام الفن التشكيلي للشعراء فقط، بل امتد للروائيين بفضل أعمال لليوناردو دفنشي دائما، حيث ترتكز إحدى أكثر الروايات مبيعا وشهرة للكاتب دان براون “شيفرة دافنشي” على لوحة “العشاء الأخير” واحدة من أكثر اللوحات إثارة للجدل في تاريخ الفن التشكيلي، “إذ تعد اللوحة المفتاح الرئيسي والوحيد إلى لغز الكأس المقدس، المحور العام الذي تدور حوله الأحداث، حيث يقول السيد “تيبينج” أحد أبطال الرواية إن ليوناردو دفنشي كشف الأمر تماما في هذه اللوحة. كما تتعرض الرواية للكثير من الأعمال الفنية للرسام الشهير… فالرواية تعد علامة في تاريخ الأدب الحديث جسدت لعملية التأثير المباشر للفن التشكيلي عن الأدب من خلال الحدث الدرامي الذي اتبعه الكاتب محللا الرموز والإسقاطات التي تبنتها الأعمال الفنية” (12). أما الروائي البرازيلي الشهير باولو كويلو فأورد ذكر أعمال دو لاكروا في إحدى أشهر رواياته “إحدى عشر دقيقة” بالقول: ” اللوحة لدو لاكروا، هو الرسم. إنه شيء جامد، حركة متقطعة، صورة غير وفية لأصل، علم لا يهتم به أحد إلا الرسامون طبعا الذين يعتبرون أنفسهم كائنات عالية نيرة العقول” (13).
أما عربيا فتعد أكثر الروايات العربية مبيعا “ذاكرة الجسد” للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، إحدى أكثر الروايات انتصارا للفن التشكيلي، فالبطل رسام وإن كان مبتور اليد إلا أنه يبهر بلوحات لمدينة الجسور المعلقة قسنطينة، ويتخذ من عشقه للمدينة والرسم مبررا لاستمرار الحياة. الرواية التي كتبت بلغة شعرية راقية، استثمرت في كون البطل خالد بن طوبال فنانا تشكيليا مفتاحا لاستظهار مدى شغف الكاتبة بهذا الفن، الذي استدعت رموزه العالمية من دو لا كروا إلى دفنشي لتجمع ما تفرق بين أدب كويلو و دان براون، حيث يخاطب بن طوبال بطلة الرواية حياة في أحد المقاطع بالقول:
“-أتذكر وسط ارتباكي ليوناردو دفنشي، ذلك الرسام العجيب الذي كان قادرا على أن يرسم بيده اليمنى ويده اليسرى بالإتقان ذاته، بأي يد تراه رسم “الجوكندا” ليمنحها الشهرة والخلود؟ وبأي يد يجب أن أرسمك أنا؟” (14). وفي مقطع آخر “لا…لأننا لا نرسم بالضرورة ما نرى، وإنما ما رأيناه يوما ونخاف ألا نراه بعد ذلك أبدا، وهكذا قضى دو لاكروا عمره في رسم مدن مغربية لم يسكنها سوى أيام، وقضى أطلان عمره في رسم مدينة واحدة هي قسطنطينية” (15).
أما الروائي الجزائري واسيني الأعرج فلم يكتف بجعل أجواء رواية أصابع لوليتا الصادرة منذ سنتين تدور في أجواء الرسم والفن التشكيلي، بل بدا أكثر استعدادا للتجريب، حيث أدخل صورة للوحة فنية في داخل مطبوعه الروائي في الصفحة 394، ويبدو أن الأعرج شعر بضرورة هذا الأمر، حيث أنه لم يكتف بإعطاء مواصفات اللوحة بالكامل “المجدلية على ضوء الشمعة هو عنوان اللوحة التي أنجزها دو لاتور بين 1640 و1645، لوحة على القماش 128 في 94 سم، التقى بلوحاته في معرض تشيكليو الواقع في فرنسا في القرن السابع عشر الذي نظمه متحف لرونجري في شتاء 1934، حيث تم عرض 13 لوحة من 15 التي نسبت للرسام… ثم سحب له من خزانته القديمة صورتين متجاورتين لدو لاتور شبيهتين بلوحته” (16). وهنا تظهر الصورة داخل الرواية وهو الأمر الذي يعد سابقة، حيث اقتصرت الصور والرسومات المصاحبة للروايات العربية عادة على كونها حدثا مرافقا للعمل الإبداعي لا جزءا منه، كعادة أغلفة الكتب التي لطالما كانت ولازالت عبارة عن لوحات فنية مشهورة. كما لا يفوتنا الإشارة لأعمال الخطاطين العرب التي خلدت الكثير من المقولات الشعرية في قالب فني في لوحات تجسد مناظر قوامها الخط العربي.
2-الأدب والموسيقى:
من بين المجالات التي يتعلق بها الأدب تعلقا واضحا الموسيقى، فهي تتجاوز الجمل اللحنية التي تحول الشعر إلى أغان، بل تعد واحدة من المحفزات الإبداعية الشهيرة التي يعتمدها الكُتاب عبر العالم في حالات الكتابة، وتعدى هذا الشغف لدى بعض المؤلفين إلى حالة من الذوبان، مثل النحو الذي اتخذه البروفيسور الراحل ادوارد سعيد في أعماله النقدية، حيث استثمر في درايته الواسعة بالموسيقى والعزف على البيانو، ونقل هذا الشغف إلى المجال الأدبي من خلال استخدام مصطلحات للفن الموسيقي، “برع سعيد وأجاد في الموسيقى، فأجاد وبرع في الكتابة الأدبية أيضا، وكشف عن نظرته إلى الموسيقى كمرآة تنعكس فيها آراؤه وأفكاره عن الأدب والتاريخ. إن نقاط التلاقي والتقاطع بين الموسيقى والأدب عديدة ومتنوعة، فهما ينتميان إلى النشاطات الروحية. على أن وجودهما مرهون بحوامل حسية تمثلها الأصوات والألحان في الموسيقى، كما تمثلها الكلمات المنطوق بها والحروف المكتوبة في الأدب. تعاطي الفنون الموسيقية دافع قوي للأدب وحافز لبلوغ الكمال والإتقان” (17).
والشعر العربي العمودي تحديدا له علاقة وثيقة بالموسيقى، ففكرة وضع أوزان للشعر قد طرأت على أبي الخليل الفراهيدي عندما “كان يسير بسوق الغسالين، فكان لصوت ضربهم نغم مميز ومنه طرأت بباله فكرة العروض التي يعتمد عليها الشعر العربي، فكان يذهب إلى بيته ويتدلى إلى البئر ويبدأ بإصدار الأصوات بنغمات مختلفة ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة، عكف على قراءة أشعار العرب ودرس الإيقاع والنظم، ثم قام بترتيب هذه الأشعار حسب أنغامها، وجمع كل مجموعة متشابهة ووضعها معا، فتمكن من ضبط خمسة عشر بحرا يقوم عليها النظم حتى الآن فأصبح مؤسس علم العروض”(18). ومن هنا يتضح كيف أن الشعر مبناه موسيقى بالأساس، الأمر الذي اكتشفه الفراهيدي عن طريق إيقاعاته ونغماته.
والتشكيل الموسيقي هو الحد الفاصل بين بحر شعري وآخر، “لأن الإيقاع الصوتي أكثر تميزا، فقد تتساوى بعض التفعيلات في البحور المختلفة وتأخذ مدى زمنيا متماثلا وتأخذ مساحة مكانية متماثلة، لكنها في التشكيل الموسيقي لا بد أن تأخذ إيقاعا مستقلا نابعا من تركيب البحر حتى في البحور متشابهة التفاعيل أو التشكيلات وحيدة الصورة، لأن لكل بحر، صحيحا كان أو مجزوءا، إيقاعه الخاص ونغمته المميزة” (19).
3-الأدب والمسرح:
قد يقع في الذهن لأول وهلة عند الحديث عن علاقة الأدب بالمسرح تلك العلاقة الكلاسيكية المعروفة بين النص المسرحي وصورته الركحية، لكن العلاقة بين الأدب والمسرح تتجاوز هذا العلاقة الحتمية إلى علاقة أخرى متعلقة باعتبارات الفضاء الركحي، ومتعلقة بلغة الكتابة المسرحية.
“فقد نشأ الفن المسرحي الذي يعد وسيلة للتعبير الفني-بعد حلبات المصارعة والسباقات- عند الشعوب القديمة كالمصريين والهنود واليونان في ظل المعابد، على اعتباره جزءا من عباداتهم، ومن ثم تطور وانفصل عن المعبد فخرج إلى الحياة العامة مستقلا عن الدين يُقصد به المتعة العامة” (20).
والعبادة لدى المجتمعات البشرية مرتبطة بتقديس المعبود، وبذل كل ما في الإمكان من أجل أن تكون طقوس العبادة تدل على عظمة المعبود، في حالة المسرح كانت اللغة هي المفتاح، فعند الإغريق كان الهاجس الأساسي هو “ذلك الشعور الديني والوجداني في عبادة الإله ديونيسوس إله الخمر…كونه إله الكروم ومخترع النبيذ فقد قدسه البشر ووضعوه في مصاف أكبر القوى الخيرة، لأنه خلصهم من الألم والمتاعب، فخلعوا عليه لقب ‘المخلص من كل الهموم'(21)”. وهنا كانت نشوة الخمر التي تبعث على قرض الشعر وعلى الرقص والاحتفال، فالحالات النفسية للمتعبدين كانت تتراوح بين المرح والحزن والنشوة والألم والقسوة والحنان وكل المشاعر المتضاربة، وهذا برعاية إله الخمر الذي أباح الخروج على القيود الصارمة، ومن هذا التكوين الشعري نشأ المسرح الذي لطالما لم توضع بينه وبين الشعر حدود فاصلة واضحة فالمسرح في أصوله “كان بابا من الشعر، وبقي كذلك بشكل واضح في عصر ازدهاره في انجلترا، أي في أواخر القرن السادس عشر ميلادي، وكذلك في فرنسا طوال القرن السابع عشر ميلادي، وفي كلتا الحالتين كان المسرح يكتب شعرا مقفى في فرنسا ومرسلا في انجلترا… أما عربيا فكان ميلاد المسرحية الشعرية على يد خليل اليازجي في مسرحية “المروءة والوفاء” التي ظهرت عام 1876 ومثلت عام 1888″ (22). أما في القرن الماضي فقد عرف أمير الشعراء أحمد شوقي بمسرحياته الشعرية الغزيرة.
4-علاقة الأدب بالسينما:
يعتبر الأدب أحد أكبر الخزانات التي أمدت السينما العالمية بروائع خالدة، فلطالما اشتغل السينمائيون عبر العالم على تحويل المؤلفات الروائية تحديدا إلى أفلام صنعت مجدهم في مسابقات هامة كجائزة الأوسكار، أو في شباك التذاكر.
ولعل أحد أشهر الروايات المعاصرة التي تحولت إلى سلسلة أفلام حصدت المليارات من الدولارات عبر شباك التذاكر هي سلسلة هاري بوتر للكاتبة البريطانية ج.ك رولينغ، فلم تكتف هذه الرواية الساحرة التي تدور في أجواء سحرية في أن تتصدر لائحة أكثر الكتب مبيعا في التاريخ، بل تحولت بأجزائها السبعة إلى سلسلة أفلام حصدت إعجاب النقاد والجمهور معا عبر العالم، ويبدو أن الانجليز مولعون بتحويل الروايات الناجحة إلى أفلام سينمائية فقد حولوا اثنتين من أكثر الروايات الكلاسيكية شهرة ونجاحا إلى فيلمين بنظرة جديدة، الأولى هو البؤساء للفرنسي فيكتور هوجو والتي تعتبر أكثر الكتب التي أثرت في حياة الفرنسيين حسب استطلاعات للرأي، والتي أخرجها توم هوبارد الحاصل على أوسكار، والثانية هي “آنا كارنينا” للروسي ليو تولستوي والتي تعتر الرواية الأفضل في تاريخ للأدب وفق الكثير من استطلاعات الرأي بين المتخصصين، والتي أخرجها للسينما جو رايت الذي تحصل عن أعمال أخرى على عدد من ترشيحات الأوسكار.
وقبل توم هوبارد شهدنا نسخا عربية لفيلمي البؤساء و”آنا كارنينا” “ومثلما حدث في بلاد كثيرة ظهرت الرواية في عدد من الأفلام الفرنسية والعالمية وأيضا المصرية، لعل أشهرها فيلمان حملا نفس الاسم: الأول من إخراج كمال سليم عام 1942، والثاني من إخراج عاطف سالم وبطولة فريد شوقي عام 1978″(23). ولو خضنا في موضوع الروايات التي تحولت إلى أعمال سينمائية لطال الحديث. لكن يجب التنويه أن رحيل الأعمال السينمائية العالمية إلى الأفلام العربية، قابله رحيل لروايات عربية إلى أفلام سينمائية عالمية، حيث تحولت رواية الكاتب الجزائري عمارة لخوص “كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك” الصادرة عام 2004 في طبعة مشتركة عن منشورات الاختلاف بالجزائر والدار العربية للعلوم بلبنان إلى فيلم إيطالي تحت عنوان “صدام الحضارات حول مصعد في ساحة فيتوريو” أخرجه إيزوتا توزو.
أما حضور السينما في الأعمال الأدبية، فتجسد في كثير من الأعمال منها مجموعة شعرية بالكامل للشاعرة الجزائرية لميس سعيدي عنوانها “إلى السينما” الصادرة عام 2011 عن دار الغاوون، والتي اشتغلت فيها على أجواء السينما لتعيد تقديمها في قالب شعري، تقول لميس في إحدى المقاطع:
“في نهاية كل فيلم
يدخل البطل الطيب قاعة السينما
ليقتل بمفرده الوقت
شرير جميع الأفلام”(24).
المراجع
1-سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب، يوسف ميخائيل أسعد، دار الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 24.
2-نفس المرجع السابق، ص5.
3- موسوعة ويكيبديا، نقوش ما قبل التاريخ، تاريخ النقوش الحجرية.
4-التاريخ الكامل للعالم، جان كلود بارو وغيوم بيغو، ترجمة لحسن عيساني، دار الفارابي، ص 10.
5-net.jeancoucteau.www
6-د.عبد الغفار مكاوي، قصيدة وصورة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 119.
7-كتاب الشعر، مجلة شعر، عدد 12، ص 93.
8-نفس المرجع السابق، نفس الصفحة.
9-فن الشعر، مقالة في قوانين صناعة الشعراء، ص157.
10-أرسطو طاليس في الشعر، شكري عياد، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ص 28.
11- حامد أنور، مقال “بين التشكيل والأدب، التأثير والتأثير المضاد”، الحوار المتمدن، عدد 2305.
12- نفس المرجع السابق.
13-باولو كويلو، إحدى عشر دقيقة/رواية، مجلة أخبار الأدب، عدد 620.
14-أحلام مستغانمي، ذاكرة الجسد/رواية، دار الآداب.
15-نفس المرجع السابق.
16-واسيني الأعرج، أصابع لوليتا/رواية، مجلة دبي الثقافية، عدد 59.
17-بابكر جوب، في التفاعل بين الموسيقى والأدب/مقال، الشرق الأوسط، عدد 11625.
18-موسوعة ويكيبيديا، صفحة الخليل بن أحمد الفراهيدي.
19-د.عبد العزيز المقالح، الشعر بين الرؤيا والتشكيل، دار العودة، ص114.
20-عزمي الصالح، أولية المسرح/ مقال، مجلة كلية الآداب، عدد 14، ص 438.
21-أرسطو، فن الشعر، ص12.
22-عمار الجنابي، علاقة المسرح بالشعر/مقال، الحوار المتمدن، عدد 3438.
23-عصام زكريا، الأدب حينما يتحول إلى موسيقى سينمائية/مقال، مجلة الدوحة، عدد فبراير 2013.
24-لميس سعيدي، إلى السينما/مجموعة شعرية، دار الغاوون، 2011