مقالات ودراسات
تعدد مستويات الخطاب في مسرحية “مبغى” لعلي العبادي
المسرح نيوز ـ القاهرة| دراسات ومقالات
ـ
بقلم حيدر جمعة العايدي
إن تعدد مستويات الخطاب في مسرحية (مبغى) لعلي العبادي (أيها الربُ ارسلتُ لك ما يقارب ثلاثين رسالة أعلنت من خلالها رغبتي بأن أكون نبياً) منذ طفولتنا ونحن نهرس ذواتنا الحالمة في تيه اسئلة الوجود .. في محاولة للوصول إلى حقيقة ما عن انفسنا والعالم من حولنا .
ما لغاية من وجودنا ؟.. ولماذا نموت؟ ..وكيف الخلاص من مأزق اسالتنا . يضعنا علي العبادي في مسرحية مبغى والتي رسم تفاصيلها لتكون بطريقة المونودراما – أي الممثل الواحد تأخذ على عاتقها كل شيء داخل العمل المسرحي ،أمام لحظة مصارحة وكشف لما هو متوار خلف اشكال المعنى الظاهر و الحياة المعلنة ،على لسان بطلها ساعي البريد الذي يحتفظ برسائل كان يرسلها الى الرب يطلب فيها من الرب أن ينصبه نبياً بعد ما فقد الامل في واقع الحياة المثقل بالحرمان والنقص والعذابات البشرية التي يعيشها الانسان وفق قوانين لا يفقه منها شيئا سوى أنها وجدت بأمر من سلطة عليا فصلت كل شيء على طريقتها ، ولصنع الدهشة و تثوير رغبة السؤال في المتلقي ، صممت اغلب مشاهدها لتكون ذات وقع نفسي واجتماعي صادم في دلالته الفكرية والقيمية ،
فالمكان شيد بهيئة مبغى متهالك توسطته اريكة قديمة ، و ساعي البريد يذرع المبغى ذهابا وأيابا ،وهو منفعل يخاطب الرب عبر رسائل كان يظن انها تمنحه ارادة القوة لفك الارتباط مع بشريته المحدودة وكأننا في تناص مع بطل نيتشه ( هكذا تكلم زرادشت) يرفض البطل العيش في ظل وجود فيه الانسان مجرد تابع ذليل وضعيف ( يا لوحشة الحياة تضرم النار في أعمارنا ) .
إن البحث في عمق اشكالية الوجود والعدم في الخطاب المسرحي يستدعي من الكاتب توظيف دلالات رمزيه وفنية ذات بعد فلسفي عميق ومستويات خطاب متعددة، كونه خطابا يبحث في قلب المعنى واللامعنى القيمي والانساني في نفس الوقت ، لذا كانت الدلالة الا بلغ والاكثر كشفا لحقيقة واقعنا المعاش هي دلالة الرسالة كخطاب طرفاه الانسان المهمل المعذب المرسل ، والرب صاحب السلطة هو المرسل اليه ( كتبت لك ذات يوم ، وأنا في أوج رغبتي للخلاص من هذا المكان النتن )، فمع كل لحظة حرمان وانكسار كان ساعي البريد يحتج ويذكر الرب برسالة كان قد بعثها له يطالبه فيها بوعوده بالخلاص والحياة السعيدة اذا ما اتبعنا تعاليمه لكن ومع امتلاء حقيقبة ساعي البريد بالرسائل التي تناساها الرب ،
يتحول هذا الخطاب من مستوى الحوار إلى مستوى المناجاة أي تتحدث فيه الشخصية مع نفسها كمنلوج داخلي غير مكترث لوجود الاخر كلحظة احتجاج ورفض للسلطة( أيها الرب الجميل أعتذر إليك نسيت أن في هذا الزمن الداعر لا توجد رسائل حيث لا مرسل ولا مرسل إليه ) ولتعزيز هذا الرفض وتأكيد دوره كان لابد للمبغى بكل دلالته السلبية من تسليع للجسد البشري واستغلال للضعفاء وانتهاك خصوصية الانسان ،أن يكون البديل الموضوعي والنهاية الوحيدة لمن لا يستطيع احتمال قسوة الحياة وقيمها المغيبة لوجودنا الانساني ،لذا تنتهي كل جهود ساعي البريد في عدم فهم الرب لما نريد ، ظلت دلالة الرب تشير الى خطاب الصمت المطبق وعدم الاكتراث لي اسئلتنا الملحة عن انفسنا ورغبتنا بالخلاص من واقع جحيمنا ، لتكون اللاجدوى هي الحقيقة الخالدة في كل شيء و الصورة الوحيدة الحاضرة فلم يعد الرب يصغى لا أوجاعنا رغم تناسلها فينا .
تنتهي المسرحية برمزية حرق جميع الرسائل في اشارة على احداث قطيعة معرفية مع الرب المتمثل بدلالة السلطة ومدلولاتها المضمرة فالرب داخل المتن مجرد علامة على ما نريد قوله ضد جحيم الواقع كون الرب (السلطة ) لم تعد أن تكون مقنعة لوجودنا (بنظرة حزينة للمكان يذهب ساعي البريد للنوم على الاريكة) . وكأن النوم هو طريق الخلاص الوحيد للهروب من جحيم الأسئلة على الرغم من كونه هروبا من الحقيقة التي طالما كنا نعتقد انها الحقيقة الخالدة واكيده .