جديد الكاتب الطيب الوزاني.. مسرحية أحلام بلا لون.. وإنسان بلا انتماء
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
جديد المبدع الطيب الوزاني..
أحلام بلا لون، وإنسان بلا انتماء
أسامة الزكاري
هي أجواء إفريقية بامتياز، مشبعة بنكهة الأرض وبلون البشرة وبصدى الطبول، وقبل ذلك، ببؤس الإنسان الإفريقي الذي تكالبت الطبيعة مع الفقر ومع الاستعمار ومع الاستبداد ضد مصيره وضد حقه الفطري في الحياة الحرة والكريمة. هي أجواء قاتمة بألوان اليأس وبرنات الموت، تلك التي اختارها المبدع الطيب الوزاني في نصه المسرحي الصادر سنة 2020، تحت عنوان “أحلام.. بلا لون”، وذلك في ما مجموعه 60 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن العمل الجديد يشكل ترسيخا لتجربة تأسيسية لقواعد كتابة مسرحية جريئة، مبادرة، وقاسية في تشريح الواقع وفي استثمار مآسيه فوق الركح، حسب ما راكمه الأستاذ الوزاني في نصوصه السابقة، وعلى رأسها مسرحية “بيتزا.. همبوركر.. سوشي” (2017) ومسرحية “آلهة بالطابق السفلي” (2018).
وعلى الرغم من أن المبدع الطيب الوزاني قد انتقى بعناية فائقة لغته المخصوصة عند نحته معالم نسقه الإبداعي المسرحي، فإن نزوعاته المسترسلة لتطويع “قضايا الساعة”، جعلته ينفتح على عوالم متداخلة في أشكال تلقي “صدمة” الواقع وشراسته المؤثرة في الموقف وفي الرأي وفي السلوك وفي المبادرة. ويبدو أن المؤلف قد تفاعل، من موقعه كمثقف رصين وكمبدع بحس مرهف، مع أنين ضحايا ظاهرة الهجرة السرية من خلال مآسيها اللامتناهية، قصد بلورة عمل مسرحي تخييلي يكتسب العديد من عناصر الريادة والتميز على مستوى صنعة الكتابة الإبداعية، بحميمياتها المخصوصة وبفردانياتها المجددة وبجرأتها المثيرة في الالتحام بقضايا الوطن وفي التعبير عن مآلات السقوط وعن مهاوي الكارثة. وبذلك، تحول نص الطيب الوزاني إلى صرخة في وجه بشاعة الواقع وفي وجه الأجزاء المنكسرة لمرايا الواقع المتآكل ولإحباطاته المسترسلة. ولعل هذا ما اختزله الأستاذ المسكيني الصغير بشكل دقيق، عندما قال في كلمته التقديمية:
“أن تكتب نصا مسرحيا معناه أن تختصر وطنا في قضية مقلقة مثيرة وحساسة يعيشها بعض أبطال هذا النص في هذا الوطن (المغرب). لقد أفلح الكاتب الطيب الوزاني في معالجة موضوع لن تندمل جراحاته وهمومه، طالما هناك عبث واستعلاء ومكر مقصود في المعالجة من طرف الآخرين، أوربا/الاستعمار القديم الجديد.. والتبعية. ومن خلال لوحات النص المقترحة، ليلة المداهمة/ قارب الأحلام/ انتظار على الرصيف/ رقصات على إيقاع الطبل/ عناق خلف السحاب/ نعيش المرض/ العطش/ الحروب والاستبداد المحلي…” (ص. 5).
لقد استطاع المبدع الطيب الوزاني تكسير جدار الصمت، أو مؤامرة الصمت، تجاه ظاهرة تختزل كل مآسي القارة الإفريقية التي سكتت عن جريمة جعل أجساد أبنائها لقمة سائغة لأسماك ضفتي البحر الأبيض المتوسط. وفي ذلك صرخة مدوية ضد كل تورط في جريمة إسقاط إنسانية الإنسان، عبر آليات متلونة بتلون الحقب والعصور، تحت تسميات مختلفة ومتنوعة، لكنها موحدة في إسقاط كرامة الإنسان وفي تجريد هذا الإنسان من آدميته، مثل الاستعمار والاستبداد والفقر والجوع واليأس والظلم…
فما الذي جعل جيل اليوم يحمل أحلاما “بلا لون”؟ وكيف أمكن التطبيع مع مهاوي السقوط التي أفرزت هذه الظاهرة؟ ولماذا لم تعد صور الجثث الملقاة على ضفتي البحر المتوسط تحرك الضمير العالمي؟ وماذا وقع –بالضبط- حتى بدأنا نستسيغ صور المهانة والإذلال وهي تطفو فوق سطح أحداث قوارب الموت ومغامرات الهجرة السرية نحو أرض الفردوس المشتهاة؟
لا شك أن الإجابة عن مثل هذه التساؤلات تجعل المبدع يتحول إلى “مؤرخ” للحظة الراهنة، اعتمادا على نزوة فطرية في الكتابة تبتعد عن التوثيق التقريري الكلاسيكي المدرسي، وترتقي بفعل الكتابة إلى مستوى تخييلي واسع، يسمح بالتقاط الجزئيات المتناثرة وبأنسنة الموضوع وبإضفاء عليه طابع الخلود والامتداد في الزمن. باختصار، يتعلق الأمر بكتابة موازية للصنعة السردية في استلهام الذاكرة، في إطار ما أضحى يعرف اليوم بتاريخ الذهنيات وبتاريخ رصد أنساق التفكير الثقافي وأشكال التفاعل مع الواقع المادي ومع إفرازاته الرمزية واللامادية المتعددة، حسب ما أصبحت تشتغل عليه أرقى مدارس علم تاريخ الراهن أو التاريخ الآني أو تاريخ الحاضر، في المغرب وفي الخارج.
لقد استطاع المبدع الوزاني تجاوز النظرات الاختزالية السريعة تجاه ظاهرة الهجرة السرية، بتقديم رؤى فلسفية عميقة تسائل حقيقة الوجود وجوهر المآل. ففي سياق حديثه عن “قيمة الموت”، يقول المؤلف على لسان شخصية أبدولاي: “لن نقبل بالعودة إلى بلداننا.. الموت أرحم من العودة”، ويرد عليه سامبو: “مادام الموت حق، فسيان إن متنا جوعا، أو غدونا طعاما لأسماك هذا البحر” (ص. 13). وفي حديثه عن يوطوبيات الحياة بالضفة الشمالية للبحر المتوسط، يقول سامبو: “تخيل.. تخيل يا مامادو أننا عبرنا.. أننا نتجول في الحدائق الجميلة.. في الشوارع النظيفة.. تداعب أنوفنا روائح العطور.. تخيل أننا وجدنا عملا.. لبسنا ألبسة دافئة قشيبة.. مررنا أمام مطعم.. تحسسنا جيوبنا.. وجدناها مليئة.. دلفنا وجلسنا إلى جانب طاولة.. جاء نادل أبيض يخدمنا.. طويل ووسيم كممثل سينما.. يمسح طاولتنا.. لا.. لا.. بل فتاة شقراء جميلة كملاك.. نافرة النهدين.. كاشفة نحرها.. تقول لنا في دلال: “ماذا أقدم لكما من شراب أو طعام يا سادة”… ساعتها، سأغطي وجهك بمنديل… وأقول لها: دعك من هذا المعتوه.. تكلمي معي أنا.. وسأقدم لها وردة، آخذها من زهرية المائدة…” (ص. 25).
ولتجسيد صور معاناة المواطن المغربي داخل وطنه، نقرأ على لسان شخصية قاسم: “نضجت غصبا عني، بل أشعر وكأني شخت قبل الأوان. كل الدروب والأزقة والأوكار العفنة عرفتني، تسكعت، بت في العراء، صارعت القطط والكلاب على بقايا أكل عفن بصناديق القمامة، عرفت تعاطي الكحول والمخدرات وكل بلاوي الدنيا، لأثبت لأقراني أني شكس، صعب المراس، وأني رجل رغم حداثة سني…” (ص. 29). ويردف مامادو في نفس السياق: “تبا لهؤلاء ولهؤلاء. ونحن؟ أين نحن من كل هذا؟ ما ذنبنا لنرث بلدانا لا عدل يسود فيها؟.. حكامها طغاة متخلفون.. ما ذنبنا حتى نموت في اليوم ألف مرة؟ أترانا مجرد حصى؟ نطحن بالجوع والمرض، ونسحق كمدا في رحى النسيان واللامبالاة؟ وفي النهاية يلحق بنا الموت، ليهبنا قبرا بلا اسم ولا شاهد…” (ص. 34).
وللتعبير عن بؤس الانتماء، يجسد سامبو سخطه على انتمائه بقوله: “يوم كانت القارات ملتحمة مثلا؟.. تبا لهرقل الذي أبعد الضفتين بساعديه القويين، كان أجدر به أن ينتظر مرورنا للضفة الأخرى قبل أن يفعل ذلك…” (ص. 32). وعلى نفس المنوال، ارتفعت صرخة شخصية أومو مدوية من تعاسة اللحظة في قلب الأدغال الإفريقية: “هل لكم أن توقظوني من غفلتي؟.. من أنا؟.. ترى من أكون أنا الآن؟.. ما هي هويتي؟.. أشعر أن لا انتماء عاد لي؟.. أنا وأنت وأنت وذاك، من نكون؟.. لا أوراق تثبت هويتنا.. بطاقة تعريفنا الوحيدة هي لون بشرتنا.. لون بشرتنا يثبت انتماءنا للصحاري والأدغال البعيدة…” (ص. 49). وبصوت المهاجر البائس، سعت المسرحية إلى استلهام عمق الجرح النازف داخل ضمير ضحايا المهاجرين السريين، عندما وظفت مناجاة الضمير الجماعي، بلغة بليغة في التعبير عن فقدان الأمل في بعث إنسانية الإنسان، من خلال العودة إلى الاستنجاد بحضن الأم، نبع الوفاء والحنان والضمير. نقرأ بهذا الخصوص على لسان ضحايا الهجرة السرية: “ها أنت يا أماه.. على وجه السماء.. أراك من خلف السحاب.. أراك من وراء المسافات.. ذي دمعتك.. لا مطر ببلادي كان سوى دمعتك.. ذي ابتسامتك.. لا صحو في حياتي سوى ابتسامتك.. ترى هل أنت تراني خلف السحاب يا أماه كما أراك؟ انظري مثلي إلى السماء يا أماه.. لا تخافي.. لا عسس يمنعون من النظر إلى السماء.. عسس الحدود لا ينظرون إلى السماء.. عسس الحدود لا ينظرون إلى السماء.. عسس الحدود لا ينظرون إلى السماء…” (ص. 59).
إنهم لا ينظرون إلى السماء، هذه السماء التي أضحت ملاذنا الوحيد بعد أن ضاقت بنا الحدود، حدود الأرض والبحر، وقبل ذلك، حدود الانتماء لوطن يمارس أقصى درجات الجحود في حق أبنائه. ويبدو أن نمط الكتابة الخاص بالمبدع الطيب الوزاني قد أضفى قيمة مضافة على هذه المناجاة العميقة، من خلال تعابيره الفنية واستعاراته الجمالية التي انتقلت به من دائرة التدوين التقريري، إلى رحابة فعل التخييل المنتج للأفكار وللصور وللرموز وللقيم. هي كتابة تتجاوز طابع الاستهلاك السريع، وتنتقل إلى مستوى إنتاج التمثلات الكبرى المؤثرة في وعينا الجماعي بمختلف أشكال انتكاسات الواقع الراهن، مع خوض غمار التنظير لتحولاته.
غلاف الكتاب
الأستاذ أسامة الزكاري د. الطيب الوزاني