مقالات ودراسات

حصريا.. الأكاديمي العراقي د. جبار خماط يكتب لـ “المسرح نيوز” عن: “كوجيتو العيادة المسرحية”


المسرح نيوز ـ بغداد| د. جبار خماط

ـ

حسنُ التفكير الاحاطةُ بالشيء ، تفكّر عميقٌ واستدلالٌ على صوابِ الفكرة ، حين تجد مخرجاتـِها مؤثرةً وفيها صوابُ الناتج واثرهُ الايجابي ، اننا نعيش ومن حولنا عالمٌ متلاطمٌ من العلاماتِ والحالات التي تتطلبُ منا فكَّ رموزِها ، وكأننا في غابةٍ من الرموز مثلما قال بودلير ، هذه الرموز ، تتطلبُ عقلاً فاعلاً في تعرّفِهِ العميق ، للوصولِ الى جوهرِ المعرفة المشتركِ بيننا ، فالعلومُ اكتشافُها خاصٌ ، وخيرُها عام ، خيراتُها بين الناس حين تكون تلك العلوم إيجابيةً، وايضا شرورُها بيننا حين تكون الغايات سلبية ، مثل إبتكاراتِ الاسلحة لإدامةِ الحروب وإرباكِ ميزانِ القوى ، لإشاعة مفهومِ القويّ والضعيفِ دولياً ، في لعبةِ الجغرافيا السياسية .

 

ولذلك فإن اخلاقياتِ التفكّر ينبغي ان تكونَ خطاباً إنسانياً ، بعيداً عن قيودِ الاثنياتِ الفرعية ، او القوميات المقيّدة ، ولذلك اوجد لنا (( ديكارت )) كوجيتو ، ليختصَّ بالتفكير ، الذي اساسُهُ الشك في المتداوَل والعادي الذي تحولَ الى صنميةٍ سلوكيةٍ ، اربكتِ التواصلَ بين الناس ، وكأنه ارادَ منا الانتقالَ من قيودِ التفكير الى حريتـِهِ التي تجمعُنا في اطارٍ إنسانيّ يكونُ في كلِّ زمانٍ ومكان !! هذه السياحةُ الفكرية في جزرِ الانسان المجهولة التي تكون في وعيهِ ولا وعيهِ ، أنتجت لنا تنويراَ ثقافياً نقلَ العقلَ الاوربيّ من الخرافةِ الى العلمِ .

 

ومن البديهيّ الى المختبريّ العلمي ، الذي يصل الى يقينٍ علميٍّ وليس عاطفي أو خرافي ، ولذلك تعددت نظراتُ الانسان الى الوجود ، من كونِهِ علامةً تاريخيةً تعيشُ في تصوراتـِنا الجاهزة إلى علامةٍ تجريبيةٍ ، قابلةٍ للانتقال والتحويل ، وهو ما دفع الفنانين الى اكتشافِ طرائقَ جديدةً في فهمِ الواقعِ ومعالجتهِ ، سواء اكان مسرحاً أم تشكيلاً ام سينما الخ ، هذا التجديدُ ، لم يحصلْ أو يتحققْ ، إلا بوجودِ وعي متحركٍ وافكارٍ نوعية ، حركتِ الساكن في بحيرة الافكار ، بوساطةِ الخيالِ والتصوّرِ ، اللذان تكفلا باكتشافِ ما هو مدهشٌ ، ونقلِه من المستقبل بوصفهِ مقترحاً فنياً ، إلى الحاضر بوصفه فعلاً تواصلياً ما بين الجمهور والعمل الفنيّ .

 

هذا المستقبلُ الجديدُ ، جاء من فرضيةِ تأجيلِ النظر الى الماضي حصراً ، والاندفاع نحو مساحةٍ جديدةٍ من التأويلِ للحياة ، لنجدَ انفسَنا أمام افكارٍ جديدة ومعالجاتٍ نوعية ، دفعت بالعيادةِ المسرحية ، أن تتواصلَ مع الناس ، لاكتشافهِم من جديد ، لانها محضُ طاقةٍ مستقبيلة ، يمكن لها ان تعيشَ في الحاضر ، على نحو سلوكٍ يتفاعلُ معه المشاركُ في العيادةِ المسرحية، ويكوِّن لديهِ تصوراً جديداً للحياة والإنسان الذي يشاركُهُ هذا العالم ، هذا التفكيرُ أو الاعتقاد ، بمثابة كوجيتو جديد ، ينمو لدى المشاركِ في العيادة المسرحية ويكبرُ مستقبلاً بالحوارِ والتواصلِ الفنيّ مع الآخر / الجمهور . إن تعددَ وجهاتِ النظر يعطي للحوار طاقتَه الايجابية ، ويدفع به نحو الوصولِ الى نتيجةٍ نرضاها بالعلم وبالعمل ، لذلك نعلمُ أننا محكومون بالامل ، الذي به تكونُ العواصفُ جميلةً ، لأن أساسَ بيوتِ افكارِنا محكمٌ ، فلا نخشى من رياحِ الآخر .

 

ولذلك للعيادةِ برنامجُها في تحفيزِ الوعي واكتشافِ افكارٍ جديدة كانت نائمةً في العقل ، كلُّ هذا يتمُّ في مختبرِ العيادةِ المسرحية، وكأننا بذلك نعيدُ ما قالَه الفيلسوف (( افلاطون )) حين ردّد ” الافكارُ الجديدةُ نائمةٌ في العقل ، يوقظُها الحوارُ ” لذا نجدُ فعلَ الحوارِ الايجابيّ بين المشاركين اساساً متيناً للوصول الى بناء الثقةِ الفكرية لديهِم ،ولكي يتحققَ العملُ النوعيّ ، فإنه يتطلبُ منا مهارةَ التمثيلِ ، بغيةَ الوصولِ الى تحققِ الملائمةِ الادائية للافكارِ الجديدة التي نسعى إليها في العيادة المسرحية .

 

هذا الهدفُ النوعيّ يتحققُ بالارادةِ التي لها مفعولُ السحرِ في تحويلِ السلبيّ الذي يعيشُ في وعيِ المشاركِ في العيادة المسرحية ، على نحوِ افكارٍ وسلوكياتٍ نمطية ، جمّدتْ لديهِ روحَ المبادرةِ التي بها يكون ، من خلالِ الافكارِ الايجابيةِ والسلوكِ الجميل الذي يوفرُهُ له علمُ التمثيلِ المسرحيّ بوصفِه فناً قابلا ً للتداولِ بين الناس .

 

مازلت ابحث عن التعبير البسيط والعميق عن الحاجات الروحية الداخلية للناس في صراعها مع القوى الخارجية المعاصرة. لا تجده في الاداء الجاهز الذي تعودنا عليه، بوصفه كلشيهات مكررة ، بل نجده لدى اولئك الذين يعرفون ان التلقائية والبساطة ومامس الاداء الرقيق في الثوت والحركة والايماءة ، خير من يعبر عن ازمة الانسان المعاصر الذي يعيش في حقل من التعقيد والجفاف الروحي ، صلادة سلوكية تتكرر على خشبات المسارح ، تنكرها العيادة المسرحية ، وتدعو إلى ممثل عيادي ، يعود الى الناس ، وكانهم وجدوا كنزاً اسطورياً ، لا يتحقق إلا في المسرح ، ومن بين يدي ذلك الممثل يخرجُ مصنوعاً من دون تعقيد ، مثل زبد البحر الذي هو خلاصة صراع الامواج .

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock