حصريا.. المغربي د عبد العالي السراج يكتب: ثقافة التجريب في المسرح العربي.. تقليد واتباع ام حساسية جديدة في الابداع المسرحي؟
د عبد العالي السراج | المغرب
أكاديمي وناقد
ـ
كان منطلق المسرح العربي في الأصل تجريبيا، و قد ظل الغرب مصدرا مهما لهذا التجريب، و ظل عنوانه الأمثل في إتقان العمل المسرحي و تجويده، و هو يجرب شكل التعامل مع الذخيرة المسرحية الغربية، و محاولة نقل هذه الذخيرة من سياقاتها الخاصة، لوضعها في السياق العربي بتجريب تحضر فيه الخلفية الثقافية العربية و الخصوصيات المحلية.
في هذه المسافات، التي تربط بين مستوى الفهم و الممارسة : أي فهم التجريب في الغرب و ممارسته في الوطن العربي، نطرح السؤال التالي : هل ثقافة التجريب في المسرح العربي تقليد أم تجديد ؟.
عندما نطرح هذا السؤال، فإننا نعني بهذا الطرح التعرف على أشكال تفاعل المسرحيين العرب مع المرجعيات التي يعودون إليها، لتكوين ثقافتهم المسرحية في التجريب، و نعني به كذلك التعرف على الكيفية التي تمكن بها هؤلاء من القدرة على تملك الحوار، و ممارسة النقد الضدي، و تقوية القدرة على تمثل ثقافة الآخر، لبناء ثقافة الأنا و معرفتها (لاسيما و أن الإبداع معاد في جوهره و تجلياته للإتباع، و أن كتابة المختلف هي في حيوية مساهمة الحساسية الجديدة في تكوين الإبداع المسرحي العربي بالتجريب…و طبعا كلما غابت ثقافة الحوار، و غابت إمكانات الفهم و التجاوز صار النقل سهلا مستسهلا، و صار التجريب خواء خاويا، وصارت الكتابة شكلية أسسها واهية)(1).
في حضور هذا السؤال، و في محاولة فهم طبيعية التفاعل بين المسرح والتجارب الغربية أثناء التجريب، يتأكد أن هذا التفاعل محكوم بسؤال الكيفية التي يشتغل بها التجريب في المسرح العربي، اعتمادا على الأخذ و التمثل و الفهم لإبداع المغاير، و المغاير هنا طبعا (لا يعني إختصار هذا التفاعل، في حب التقليد والمحاكاة، و نقل التجارب كما هي، ولا يعني أيضا مواكبة دهشة الإعجاب بالآخر و التماهي معه و بدون سؤال نقدي، إن المغاير يعني الإستفادة من كل التجارب المسرحية الغربية، و العمل عملي إعادة إعادتها و ترديدها و تكرارها، لأن التكرار كسل ينتج الضحل و العادي و السطحي و الصدى).(2)
إن مثل هذا التفاعل، يتطلب قراءة متأنية لما أفضى إليه هذا التفاعل في التجريب من تجديد و إضافات أو تقليد و تكرار، و هو ما سنتلمسه من خلال تتبع موقف النقد المسرحي من هذا التفاعل الذي قرأ فيه البعض النقل و الإستنساخ والتقليد للتجريب المسرحي الغربي، و رأى فيه البعض الآخر الإجتهاد و الاضافة والتجديد.
التجريب في المسرح العربي اتباع و تقليد
يقول يوسف الحمدان : “للأسف الشديد، نلحظ أن أغلب تجاربنا المسرحية المعنية بالتجريب، تكاد تكون طارئة عابرة، و ليست ذات فعل مغاير مؤسس ومؤثر و ممتد، هذه التجارب تستهويها مثلا تجربة مسرحية أوروبية فتنتهجها، فيبقى عرضها المسرحي دون رؤية ثاقبة… و تظل مثل هذه التجارب تلهث وراء تجارب أخرى، دونما قدرة على التأسيس و التفعيل… أنها تجارب طارئة تفتقد البحث والذهاب نحو التأسيس)(3)، و يذهب فؤاد الشطي من الكويت أن (معظم التجارب المسرحية خلال العقدين الماضيين، هي مجرد استنتاخ للتجريب الحاصل في المسرح الأوربي)(4).
و ينضم فرحان بلبل إلى الرأيين معا قائلا (…فأساليب التمثيل، و الإخراج، و استخدام السينوغرافيا، مطابقة تطابقا مذهلا للمسرح الأجنبي، بحيث تفتقد أي نكهة عربية، و لهذا يشعر المواطن العربي بالغربة الباردة تجاه عروض المسرح التجريبي، التي يقدمها فنانون عرب في صالات عربية في مدن عربية، فلا تمتلك -مهما كانت مدافعا عن المسرح التجريبي و مؤيدا له- إلا أن تصفه بأنه تابع للمسرح الأجنبي، و مستنسخ عنه فلا ملامح عربية له).(5)
و يتفق الناقد اللبناني رفيق علي أحمد مع الأراء السابقة في وقوع التجريب المسرحي العربي في أسر الإنجاز التجريبي الغربي إذ يقول : (إن المسرحيون العرب المعاصرون، شئنا أم أبينا، و إلى أن يثبت العكس يقلدون المسرح الغربي، وقد أدى هذا التقليد إلى غربة مسرحنا عن الواقع العربي، ومشاكله الحقيقية، أي عدم اضطلاعه بمسؤولياته على النحو الذي يفترض بالمسرح و في أي مكان أن يضطلع به).(6)
نتيجة لكل هذا يرى عبد الرحمان حمادي أن التجريب في المسرح العربي، فشل في تقديم أي شيء للمسرح العربي إذ يقول 🙁 و في المحصلة، فشلت التجريبية المسرحية العربية في تقويم أي شيء مفيد للمسرح العربي، و صارت تدور في حلقة مفرغة، باعتبارها أزمة على هامش الأزمة المسرحية العربية ….و لندلل أكثر على أزمة المسرح التجريبي العربي، نحتكم إلى المهرجانات المسرحية التي تؤكد على أن المسرحيين العرب يدخلون في تجارب متواصلة، لكن هذه التجارب تشير إلى عجزهم عن الخروج من دائرة التبعية، بل تزيد هذه التجارب من دائرة غربة المسرح العربي و تراجعه)(7).
يتضح من مجموع هذه الأراء، أن التجريب في المسرح العربي هو مجرد نقل و استنساخ للتجريب المسرحي الغربي، و أن غياب القدرة على تجاوز هذا النقل، أخر المسرح العربي عن لعب دوره الطبيعي في الثقافة العربية، لأنه تجريب ولج المسرح العربي و ثقافته برؤية مستوردة من فضاءات أخرى غير الفضاءات العربية و هو ما دفع بكلام هذا النقد، إلى مهاجمة هذا التجريب لأنه لم يعد في رأي الكثيرين منهم، عربيا بهذا التجريب الذي يقوم على التقلييد الحكم على التجريبية المسرحية العربية بالإخفاق، لكن دون أن يقدموا المناحي و المستويات و العناصر التي لحقها هذا الإخفاق، و هنا يكمن -في نظرنا– مأزق هذا النوع من النقد لأنه يقوم على إصدار أحكام قيمة جاهزة، و على القراءة السريعة التي تحكمها الإنتقائية في إختيار التجارب و نقدها، دون تمييز الجيد من الرديء منها.
التجريب في المسرح العربي إبداع و تجديد
إلى جانب هذه الآراء السالفة، القائلة بإتباعية التجريب المسرحي العربي، يذهب البعض الآخر من النقاد، إلى أنه من الصعب الحكم بشكل مطلق على أن التجريب في المسرح العربي مجرد نسخة باردة لصورة التجريب في المسرح الغربي، أو إعادة إنتاج له يقول د.مصطفى رمضاني (يصعب القول، بأن التجريب في المسرح العربي مقلد للنمط الغربي أو إعادة إنتاج له، ذلك بأن التجريب العربي راهن منذ البداية على ما يختزنه التراث من صيغ تعبيرية متداولة في المخزون الشعبي، و قد جاء هذا التجريب أول الأمر كرد فعل ضد الشكل المسرحي الغربي، ما دام الإنسان العربي يمتلك خزانا جماليا يحدد ذوقه عبر تلك الصيغ التعبيرية الشعبية).(8)
و ترى الدكتورة هدى وصفي، أنه بالرغم من أن التجريب في المسرح العربي لا يزال (يفرز خطابات تتماهى مع نظريات الدراما، صياغة و رؤية لترويج القول القائل بالتفاعل الإيجابي مع تجارب و نظريات مسرحية عالمية، [فإنه] بالمقابل هناك خطابات تريد التمرد على الأساليب، و القوالب الجاهزة في الكتابة، و تتيح للتجريب إمكانات صياغة نظرية جمالية، و تقدم من الرؤى و التقنيات الفنية مما يسمح بتحول ديناميات المسرح العربي، و إضافاته النوعية، و إنفتاحية على التجارب و التجريب في المسرح الغربي)(9)
هذا التحول في إضافاته، و في انفتاحه على التجريب في تجارب الآخرين، جعل د.عبد الرحمن بن زيدان يبرز أن المسرح العربي (في ضوء التواصل الإنساني بالتثاقف، لم يعد مجرد نسخة باردة لصورة الغرب، و لصورة الواقع العربي بلغة واحدة، بل صار هذا المسرح اصلا لأصله بالتعدد، عندما بدأ يبحث عن جوهر المسرح في العرض المسرحي بتعدد اللغات فيه، و ذلك في ظل عالم متغير بمأساويته و دراميته، و تنافسيته، و قد تحكم المسرحيون العرب بهذا البحث على هذا التعدد في الرفض المطلق للمسرح الغربي، و اختاروا الرفض الجزئي الذي يبعد الغرب الإستعماري في صورة ثقافته الإستعمارية، و بدأوا في إعادة تأسيس تجريب مسرحي عربي، لا يفتتن بالظواهر الشكلية لهذا الغرب، بل صار الإهتمام منصبا على الفكر و على الفلسفة و الرؤية التي تقرب وجود ال : نحن في هذا التواصل الإنساني في هذا التثاقف).(10)
بناء على ما سبق، و بين القول بأن التجريب في المسرح العربي مجرد استنساخ للتجريب المسرحي الغربي و إعادة إنتاج له، و بين الآراء التي ترى أن التجريب في المسرح العربي يعد صيغة تميز المسرح العربي في سيره نحو المستقبل، لأنها صيغة تعارض صيغ تقليد الآخر، نقول إن الغرب حاضر في التجريب المسرحي العربي-شئنا أو أبينا- لكن هذا ليس معناه، أن أغلب الفعل التجريبي كما تمارسه كثير من الأسماء العربية، نسخة مطابقة لفعل تجريبي سابق، هو التجريب المسرحي الغربي، بل هو إسهام جاء من المسرحيين العرب، لبلورة مسرح عربي مغاير له معاييره و ثقافته العربية المستمدة من التجارب و النظريات المسرحية.