حصريا.. د. عماد هادي الخفاجي يكتب عن العرض الإماراتي “غصة عبور”: هو ليس تعقيبا نقديا، ولكنه بوحٌ على هامش الغصة!
المسرح نيوز ـ العراق| بقلم د.عماد هادي الخفاجي*
مسرحي أكاديمي من العراق
ـ
عن مسرحية (غصة عبور) تأليف تغريد الداود وإخراج محمد العامري لفرقة مسرح الشارقة الوطني الأمارات
يسرد المتن الحكائي لغصة عبور، وقائع الهرب والهجرة واللجوء، جراء دوران آلة الفزع الوطني، وهي هستريا الصراعات الوهمية، وهوس القتل، في عالم تم محو هويته، وإزاحته عن الذاكرة، باستزراع بنى خلافية، وأوهام أيديولوجية منحطة، لمتخيَّل تاريخي مريض، استزراع في أعماق نسيجه، ليتحطم ذلك العالم، ومن شظايا ذاك الحطام، كل عابر حمل قطعة منه، تذكارا مؤلما، على خلاف التذكارات، ملتصق به، يحاول الخلاص منه، بلا جدوى ، يلتقطهم بطريق عبورهم، صاحب الجسر، والموكول إليه أمر عبور العابرين، وكيل صاحب الأمر، الآخر الذي يملك خيوط اللعب، ويملك طاولة الروليت التي توزعهم على منافيهم. فيجري بنسيج تعبيري قائم على البوح والتداعي، استعراض تاريخ كل واحد من العابرين، بينما يوجهه صاحب الجسر تجاه الضفة التي يقررها هو وليس العابر، فمنهم أرسله إلى هناك ليكون آلة قتل واستباحة، يعود بضمير متورم، وتلك المغرر بها، التي تعود تحمل حبل الدنس، بسم الخراب المقدس، وجهاد الضلالة، وهي تحاول أن ترمي بنفسها لهاوية الانتحار، بينما الأب العائد الذي خسر أولاده، والمثقف المتعصب، وقد وقع أسيرة توهماته، وعوالمه المثالية الثورية، كل تلك التقاطعات تواجه صاحب الجسر، حارس الإمبريالية ووكيل صاحب الأمر، وهو يديرها مثل طاولة قمار، حتى تحدث يقظة مفاجئة لهم، لتستقر رصاصة في صدره، وهو يبتسم، لأنه عبد وامتداد لسيده، ينبيئهم بأن رصاصة واحدة ربما ازاحته عن الجسر، لكن كم من الرصاص يكفي لإزاحة الآخرين الذين يديرون طاولة الروليت الدموي وهي تحصدهم يوميا؟
يقدم المتن الحكائي مسردا مشهديا حافلا برؤية بانورامية لعالم البلاد العربية اليوم، حروب وصراعات واقتتال داخلي، قتل وعنف وتفجير وتهجير، لاجئون من حصة قيعان البحار والمحيطات، وآخرون فريسة الاستغلال والانتهاك ، وعبودية جنسية، واسترقاق، وضياع شامل، بفقدان البوصلة. هذا هو عالمنا اليوم، لا نفخر به، لكن لنواجهه بشجاعة، نغيره بقدرتنا على التسامح، بشجاعة الاعتراف، وعزم الفعل، الذي سيسقط صاحب الجسر، وكل وكلاء صاحب الأمر، فولادة طفل المستقبل لا يأتي بحبل من الماضي، هذه هي أهم الرسائل التي يوجهها خطاب العرض.
فقد صمم المخرج بوعي جمالي دقيق، تلك المشهدية البانورامية، بكل ما تحتمل من زخم وجداني وانفعالي، وفكري ، بقدرة متميزة على المعالجة الفنية في تحقيق رؤيته، فحقق إنشاءا سينوغرافيا ديناميكيا متحركا، معه يتحول الفضاء لخلق معادلات حسية لتلك القيم والموتيفات التي استوردها في خطاب العرض. من خلال التركيبات المتحركة، بعجلة الجسر الدوار، وتعدد مستويات السرد المشهدي، بتعدد الاسقاطات على الشاشات الخلفية بأجهزة عارضة، ووضعها في بناء دائري مكمل لدوران الجسر، وبمستويات عمودية وأفقية، وبذلك أعاد تشكيل فيزيقية المكان وانطباعاتنا الواقعية عنه، باللعب بوعينا في الأبعاد الطبيعية للمكان، مابين السقف والأرضية ، والجدران، وعزز ذلك ببناء صوتي محكم، في التداخل، والحضور، وتصدر المشهد، والإرجاء كخلفية للمشهد، مسيرا انطباعاتنا الحسية باتجاه مقاصده الجمالية، ومحققا توترا عنيفا في افق توقع المشاهد، وهو ينقله عبر سطوح التركيب الإخراجي من لوحة سرد بصري إلى أخرى.
وعلى مستوى الوحدة الأدائية للممثلين، نجد التناغم الديناميكي العالي مابين معطى الحي وهو الممثل، والميت، وهي وحدات التركيب والانشاء السينوغرافي، بما يخلق وحدة جدل متصاعد، تكسب الأداء فائقية ومطواعية عالية مع الاسترخاء العلمي الدقيق للجسد، بحيث كان الممثلون يتصاعدون معا في الأداء إلى حدود التجلي وما وراء تقليدية البوح والتداعي التعبيري، فكانت أجسادهم وأصواتهم ماكنة تعبيرية غنية بالتفاصيل الدقيقة والتي تؤثث الموقف دلالية بالعلامات المتماسكة والمتحولة ديناميكيا…
أتمنى لهم التوفيق والتألق الدائم، والشكر الجزيل لما أمتعونا به من إبداع… والشكر موصول لكل القائمين والراعين… ولكل من زرع بذرة خير في أرضنا.