حصريا.. د. محمد سيف يكتب عن مسرحية ” الخريف” المغربية لأسماء هوري على مسرح طنجة المشهدية
المسرح نيوز ـ باريس| د. محمد سيف
ـ
ليس من السهل الحديث عن مرض السرطان في المسرح، وآلامه الشنيعة التي تقود غالبا الى الموت، بعد رحلة عذاب طويلة. وليس من السهل أيضا، عرض آثاره وما يصاحبها من حالات يصعب على البشر تخيلها، أو عيشها، أو حتى احتمالها. اننا نسمع بهذا المرض المخيف، ولكننا لا نتخيل حجم وجعه وحساسيته، إلا عندما نعيشه أو نكون بالقرب منه، لهذا نجد ان عرض “الخريف” لأسماء هوري،يمثل أولا وقبل كل شيء، نوعا من التحديوالرهان بالنسبة للجمهور، الذي يميل غالبا، إلى حضور عروض ترفيهية خفيفة تسمح له بالتنفيس عن نفسه، بعد يوم طويل متعب او أسبوع عمل شاق.
ومع ذلك، عند خروجنا من مشاهدة هذا العرض الذي الفته ” فاطمه هوري” [1]،واعادة كتابته ركحيا، ” أسماء هوري”، بالتأكيد مع الممثلين، وموسيقىالفنان ” رشيد برومي، نكتشف انها قد تمكنت من مواجهة هذا التحدي الصعب بسهولة. فالعرض يمتلك في شكله ومضمونه، تلك النوعية النادرة التي نبحث عنها كثيرا عندما نريدالتوجه الى المسرح، ومشاهدة عرض حي بمعنى الكلمة، مجسدا من قبل ممثلين بارعين يمتلكون أدوات أداء احترافيةمتقنة تليق بالمسرح وعصاه السحرية، حيث النص، التفسير، الإخراج، الموسيقى،، السينوغرافيا والاضاءة، اجتمعوا معا، ليخلقوا كلية عضوية، حملتنا بأمواجها المحتدمة، من رواق إلى رواق، ومن جرح الى اخر، دون استجداء للعواطف أوالمشاعر.
تنطلق فكرة العرض من مأساة معاصرة لامرأة تصاب بمرض السرطان، فيهجرها زوجها، بعد ان يجردها المرض من انوثتها-شعرها الذي يعتبر نصف جمالها، وصدرها واهتزازاته التي تثير سحر الغواية عندما تضرب الأرض بقدميها، وحاجبيها، أوتارعينيهاالتي تعزف بهما عندما تنظر-، فيصبح السرطان بالنسبة لها، سرطانين: المرض والزوج في آن واحد.ومع ذلك، تحمل هذه المرأةمأساتها على كتفيها، فهي مسكونة بغريزة الحياةالقوية، على الرغم من خطورة حالتها والمشاعر الشديدة التي تمر بها، وتأرجحها بين رغبتي الذهاب والبقاء وعدمهما (نمشي لو نبقى، بحال بحال).تترد هذه الجملة المترددة طيلة المسرحية، مثل لازمة موسيقية، من خلال الحوار، الموسيقى والحركة وبلا انقطاع. ولكن الذهاب إلى مدينة أين؟، مثلما يقول الشاعر العراقي سركون بولص. إذن، اننا امام عمل يعالج واقعة حقيقية، حدثت بالفعل في قلبعائلة العرض!تتحدث عن امرأة شابة متوازنة لديها عائلة وزوج واحلام، وطموحات، كانت تبتسم للحياة حتى اليوم الذي يخبرها طبيبها بانها مصابة بمرض السرطان. فجأة، تجد نفسها غارقة في دوامة من العبث، بعبارة أخرى، في حالة صدمة وجودية، وانكار، وامل، واحباط، وتشويه، وغضب … وإنها سوف تمر بكل هذه المراحل لأجل النجاح في صنع حدادها الخاص، حداد اكثر صعوبة من آلام المرض نفسه.لا سيما ان أمل الشفاء ضعيف جدا، ومع ذلك فهي تتشبث بالحياة، تراقب اقل رد فعل لمرضها، وادنى علامة تطرأ على جسدها الذي لم تعد الحياة فيه طبيعية، ولم يعد التعرف عليه بسهولة، يوما بعد آخر، جاعلا حياتها معلقة بين الموت والحياة.
إن عرض أسماء هوري، بقدر ما يبدو بسيط فهو معقد ومباشر، وفيه الكثير من الشعر، والاداء المزين بكل أنواع الأداءات، ويعبر بقوة عن الحب والموت من خلال سحب الحزن الذي يمطر أوجاعا داخلية وخارجية، تسمح بالنهاية،للجميع بعكسه على تجربته المعاشة الخاصة وحياته المأساويةالتي لا تختلف كثيرا عن حياة هذه المرأة.نحن لسنا بحاجة للعيش بالقرب من الموت كي نتماهى مع هذه الشخصية، وما تعبر عنه من تدفق بالمشاعر الأليمة والطويلة.فجميعا نعيش خوف فقدان انسان عزيز على القلب، سواء كان ذلك،من خلال انفصال بسبب الموت، او القطيعة. أشكال الحداد او الموت كثيرة، في عرض ” الخريف”، ومتغيرة.
يبدأ العرض على انغام موسيقى تنبئ بالفجيعة ولكنها لا تعلن عنها.ممثلة وحيدة تدور حول نفسها في فضاء مسرحي يكاد ان يكون بسيطا وفارغا، إلا من مقعد متحرك لا ظهر له ولا ذرعين، وخزان ملابس مغلق في عمق المسرح، وضوء يكشف عن أرضية تناثرتعلى سطحها قطع اقمشة ملونة زاهية، قطعتها الممثلة من أثوايها الجميلة،التي لم تعد في حاجة للتزين بها.تتحركالممثلة على الخشبة بطريقة ايحائية لها علاقة في الموضوع الذي نحن بصدد اكتشافه”،تحاول ان تقرأ أوراق قد دونت فيها بعض أفكارها بنوع من التردد الذي ترجمته بحركات ايمائية راقصة، وهذا ما عزز من قربنا من الحالة العاطفية لها. ثم تتجه نحو خزانة الملابس المغلقة، تفتحها بانفعال وإصرار لكي تلقي بثيابها على الأرض، وما ان تفرغ من عمل ذلك، تصطدم بنفسها، بقرينتها، بذاتها الأخرى،بصورة مرضهاالماثلة امامها، ينظران لبعضهما البعض بنوع من التحدي، ثم تخرج الصورة/ الشخصية من المرآة التي صممت على هيئة نافذة زجاجية عاكسة، وهنا تبدأ لعبة التشظي التي اعتمدتها المخرجة في محاكاتها للشخصية وللمرض. وفجأة،يصبح الجسد لغة بحد ذاتها، مكتفيا بنفسه، ويحل محلالكلمات والنص الأساسي، في غالب الاحيان. ومع ذلك، فإن دراماتورجية الرقص الذي اعتمدها العرض كلغة تعبيرية أساسية، لم يخدم النص فقط، والكوريغرافيا، وإنما الموضوع الذي تريد معالجته المخرجة،في جعله وسيطا بين العمل والجمهور. ولكن بما أن الجسد لا يمكن اختزاله في مهمة واحدة، فإنه اشتمل على العديد من المواد، وقد وظفته أسماء هوري في العديد من التصورات، والأدوات الممكنة والمتخيلة، من خلال الصوت، الفضاء، والزمن. انطلاقا من هذه العناصر، كتبت دراماتورجيتها الركحية، وجعلت الكوريغرافيا تأخذ مكانها من الحدث كتيمة أساسية وليس كحركة جسدية بحته. ويبدو وفقا لما لاحظنا، ان الرقص كان حاضرا منذ بداية التمارين، فالعمل المسرحي بالنسبة لأسماء هوري، هو اخراج وكتابة ركحيه، أولا وقبل كل شيء، وليس نصا أو مجرد قصة أدبية، فهي لا تنظر للعمل من خارج الخشبة وعناصرها، وكل شيء فيها يجب أن يسير جنبا إلى جنب، من خلال التمرين والبحث المباشر على الخشبة، وفقا لمنطق التعاون الحقيقي ما بينها وبين الممثلين والموسيقي والسينوغراف ومصمم الأزياء والاضاءة، لهذا جاءت الحركات ومحايثتها مع الحوار ولغة الموسيقى وباقي العناصر، واضحة وليست اعتباطية غير مدروسة، أيخلقت لها سببا لوجودها، لأن الحركة بلا معنى، تصبح مجرد ترفيه زخرفي، وهذا ما لا تبحث عنه المخرجة، خاصة في هذا العرض الذي يحمل الكثير من التساؤلات الوجودية والاجتماعية الموجعة.أي ان البعد الفني للكوريغرافيا كانت تكمن في المعنى وحمولاته العاطفية التي تريد نقلها للمتفرج، من خلال لغة يعجز الكلام وحده عن ايصاله. لجئت المخرجة الى اسلوب مزاوجة الكلام بحركات الرقص النبيلة، الذي جسدته وبإتقان عال ومحكم الفنانة” سليمة مومني”، مع الممثلة القديرة ” فريدة بوعزاوي”، التي لم يقتصر دورها على التمثيل فقط وإنماالرقص أيضا، لا سيما ان الاثنتانتؤديان نفس الشخصية، من خلال حالة التشظي التي اسستها المخرجةمن بداية العرض حتى نهايته. بحيث كانتا بمثابة صدى لبعضهما البعض، يتجسد بطرق مختلفة ويأخذ اشكال ادائية متنوعة: صراع ، تحدي، تردد، ضعف، وهن، استسلام، ضياع، مواساة، ثورة، واحتجاج … وهكذا ابتعدت المخرجة بالعرض عن الدلالة التفسيرية للدراما، بتقديم عرض يجري بأكثر من طريقة واحدة، بخروجها عن المسارات المتفق عليها، وجعل الرقص يهزم الدلائل النصية، ويتجنب الأشكال المنهجية المتوقعة في تركيبته.
تبدأ الممثلتان من عمق المسرح، وهما يرتديان نفس الروب الأحمر، تتقاطعان بخطوات من المشي السريع، المتلاحق، ثم البطيء، تتخلله لحظات من الاستراحات الصامتة الممتلئة بالنظرات. وقد اعتمدت المخرجة مبدأ التكوين التجريبي المموسق، الذي ترجمته من خلاله منطق: انني امشي مثلما أرقص، الذي بلور اتجاه اخر: اني اتحدث مثلما أرقص، مستثمرة على الفور كلمات ” فريدة بوعزاوي” بطابع وصفي، كما لو ان الغموض الذي يتخلل كلمات هذه الأخيرة، فرض على حركات”سليمة مومني” الكوريغرافية جزءا من عدم القدرة على التنبؤ.إن جهد التقدم المتزامن للممثلتين،والرجوع، الدوران، الملاحقة، والمجابهة، قد تم كسره بالإسقاطات الفردية التي انشات نوعا من الاضطرابات المحسوسة بين هيكل التوقف، الحوار الثابت، والمنتظم، والحركات الأكثر حيوية، المعبرة أوالحدسية، بحيث تركت مجالا كبيرا للارتجال. لذلك، نرى أن المفردات الكوريغرافية المفصلية لسليمة مومني وفريد بوعزاوي من ركض، وحركة توقف مفاجئ سرعان ما يأخذ مجراه، تسارع، مسارات دائرية، سقوط على الارض، وتنفس الصعداء أو الشعوربالإعاقة، قد زادت الحركات تمسرحا أكثر،من خلال الرقص الكلاسيكي، والايماءات النادرة والمنمذجه، التي خلقت صورا، ونقلت معاني داخل كل حركة ووضعية.
لقد استمد العرض جذوره الابداعية من عملية اختراع الفكرة من الجسد، ومحاكاته للحوار، والموسيقى، والسينوغرافيا المتقشفة التي اثثت الفضاء المسرحي وفقا لهذه الاشتراطات الصارمة. كل شيء كان مدروسا في دراماتورجية الرقص هذه، وفق عمليات حسابية، خلقتها أسماء هوري في عرض “الخريف”، اشتملت وشكلت جميع العناصر التي أدرجتها في العرض، ولكن الكتابة الركحية للكوريغرافيا كانتهي الجوهر؛وكل ما استخدمته، من زمن، فضاء، ضوء، هشاشة، صرامة، سرعة، تأرجح، واهتزاز، قد تم تنسيقه وبشكل هارموني انطلاقا من الجسد، وجماله، ودواخل حركته التي كانت بمثابة معمل لصنع المعاني والدلالات. كان الجسد اكثر تعبيرا من الحوارعما هو غير مرئي ، ولكنه كان أيضا في خدمته كمعنى منطوق.
تم التركيز على المرض من البدايةحتى النهايته، ولكن بطريقة استعارية، جعلت من موضوع الزوج وهجره للزوجة المريضة، يصبح سرطانا اكثر فتكا من السرطان نفسه، خاصة في الأجزاء الأخيرة من العرض. لا سيما ان معالجة المخرجة له لم يكن واقعيا، وانما ايحائيا، وسيميائيا.فالرجل لم يكن موجودا كشخصية على المسرح، الا من خلال “سترته” السوداء، التي تشبه لون قلبه وقيمه السلبية، وفراغ روحه.كان اللون الاسود ليس له معنى دقيق بحصر المعنى. وقد شكل مع اللون الأحمر الذي ترتديه المريضة، تضادا حادا ذات دلالات متنافرة. فالأحمر لون يشير الى قيم متناقضة: الحب، الكراهية، الحياة والموت، كما انه يمثل الاغراء، والولع، الدم، العاطفة، الغضب، القوة، السلطة، والكفاح والعزيمة.
في اللون الأحمر كانت هناك حياة وفي الأسود موت، وهذا بحد ذاته، بمثابة استعارة عكسية، أشارّلها العرض، الى موت الزوج المسبق وحياة المرأة الأبدية.ولكن هذه الإشارة لم تنطق ابدا في العرض، مما سمح لسليمة مومني، ان تلعب على قدم المساوات على ابعاد برغماتية، ورمزية للموت والحداد الذي قامت بالتحضير لهما منذ البداية. كانت الشخصيات في مواجهة مع هذا الوضع الصعب، الذي فرض عليها خيارين:أما الاستسلام للأمر الواقع واما محاولة ايقاظ الضمير الميت للرجل،وتجسد في العديد من المشاهد الرائعة التي استحضرت فيها المخرجة الرجل من خلال ارتداء سترته من قبل الممثلتين بالتناوب، ونزعها عنوة من قبل الأخرى، ورميها على الأرض، ودعسها بأقدامهما مثلما تدعس اعقاب السجائر بعد نهاية صلاحيتها، وهن يضحكن، ويسخرن، وينحبن، ثم تنشلها احداهن وتلبسها ثانية أو تتصارع مع نفسها عند لبسها من خلال حركات المشادة التي كانت تدور بين الممثلتين اللتين هما في حقيقة الامر شخصية واحدة، وهنا إشارة واضحة للصراع الداخلي للشخصية التي تتمزق بين نارين، نار الرفض والقبل، والذهاب والبقاء(نمشي لو نبقى، بحال بحال)، لا سيما ان الرجل كان يتقزز من منظر الصلع، وبتر الثديين، وتساقط الحواجب،والقيء الذي رافق تدهور حالتها الصحية. ولقد صورت المخرجة هذا المشهد بطريقة عكسية، عندما جعلت القيء المرضي يتحول الى قيء من نذالة وانانيةالرجل وقسوته، حينماجعلت من المناديل التي تستعملها المريضة لإزاحته القيء ومسح اثاره عنها،الى رقصة كرنفاليه، من خلال لعب الممثلة بها ورميها إلى اعلى فضاء المسرح،فصارت تصعد وتنزل، مرةبشكل منحني وأخرى متعرج،اخذت في النهاية، شكل دوائر ضوئية ملونة تضيء سمائها المعتمة، أو العاب نارية في احتفال وطني كبير. هذا بالإضافة الى العديد من المشاهد المثيرة للدهشة والتي تعجز الكلمات عن وصفه لجمالها وعمقها، وخاصة المشهد الذي ترتدي فيه الممثلة “فريدة بوعزاوي”، سترة الرجللكي تكون هو في مقابل قرينتها”سليمة مومني”، وهي تضرب جسدها وافخاذها بطريقة ايقاعية متسارعة خالقةايقاعا ينبئ بالعاصفة، ويذكر بالندب والنواح العاشوري، وهي تقول: ( كنت اسمع عن الكثير من النساء اللواتي يتركهن ازواجهن بمجرد ما يصبن بهذا المرض، ولكنني لم اكن اعتقد يوما انك واحد من هؤلاء الرجال)،
وكلما تقتربمنه (أي منها) قرينتها، تدفها الى الوراء، ثم تعود لتتوسل به، ثانية وثالثة ولكن بلا فائدة، ثم تنتهي الى القول وهي تنزع عن جسدها سترته بمساعدة قرينتها:( كنت افضل ان تغادر عوضا ان تنظر الي بهاتينالعينين الفارغتين من ادنى إحساس). تتردد هذه الجملة عدة مرات مع حركة رمي السترة على الأرض، وانتشالها، ورميها ثانية، وهما يسخران من كلماته الباردة الفارغة التي يقول من خلالها عليك ان تتركي بعض الحرية لأحاسيسك كي تطفو الى السطح، وهنا ينفجران بالضحك المر، وتبدأن بضرب السترة ودعسها بأقدامهما من جديد، ورميها على بعضهما البعض في كل مرة بعد دعسها، حتى تنتاب الممثلة”فريدة بوعزاوي” هستيري تردد خلالها كلمات متلعثمة تشكو فيها المها ومعاناتها، كلمات لا نحتاج الى فهما، فالحالة التعبيرية نفسها والأداء البارع للممثلتين وبشكل متناوب، كان كان يسبق معنى الكلماتودلالاتها، ثم تنتهي الهستيرية بالنحيب الدفين الموجع والشكوى على انغام صفير الرجل واستعداده للخروج وهو يحاول شدّ ربطة العنق التي كلما حاول ربطها بشكل صحيح يفشل بسبب شكوى زوجته التي تحاول، في هذه الاثناء، وصف حالتها له وهي في غرفة العمليات وانهمار دموعها التي لم تتوقف لحظتها، بحيث نراه يشد ربطة العنق حد الشنق، فيزيلها عن عنقه راميا إياها على الأرض، وهنا تحاول “سليمة مومني”ارتداء سترة الرجل فتمنعها “فريدة بوعزاوي”، تسحبها، تبعدها، تتقاوى معها، ولكنها تنتهي بأخذها وحضنها وهي تلقي بجسمها على الأرض معها.
هذا بالإضافة الى مشاهد جوقة النساء المصابات بمرض السرطان، التي تقتحم المسرح بشكل احتجاجي وتضامني مع الشخصية، لأنه ليس من الإنسانية في شيء ان يترك الرجل زوجته لمجرد انها مريضة. وطالما لدينا مأساة، وإن كانت معاصرة، لماذا يتحتم غياب الجوقة ؟. هذا ما تشتغل عليه أسماء هوري في معظم عروضها، وخاصة في ” دموع بالكحل”، ومسرحية “خريف”، لكنها تستحضرها دائما من خلال تعدد الأصوات والوضعيات الحركية الجماعية، كموقف وابلاغ. وفي “الخريف” كانت موجودة ككتلة بشرية نسوية تندد في حالة الظلم، وتألفت من الفنانات (هاجر كيركع، فاطمة الزهراء الهويتر، زينب الناجم، وشيماء الجبيري)وكانت تتحدث نيابة عنهم جميعا بطلة المسرحية “فريدة بوعزاوي”، موجهة كلامها مباشرة الى الجمهور، مثلما يحدث في الجوقة الاغريقية، لكي تخبر الجمهور، بأن ( فاطمة، حملت شعار التحدي بعد ان هجر زوجها غرفة نومها، لم تتردد في البقاء عارية الرأس، صلعاء، لكي تقرأ الصدمة في عينيه. سعاد، كانت تسخر من المرض، وكانت تردد دائما بأنهم بتروا ثدياها، ثم استأصلوا رحمها، ولن تستغرب اذا قرروا يوما قطع رأسها، زوجها يرفض سماع هذا الكلام، إلا انها تتلذذ بترديده امامه. وحنان، تخلى عنها خطيبها بمجرد علمه بإصابتها، لاعتقاده السرطان مرض معد).
ونكتشف ولو بشكل متأخر، ان كل ما كانت ترويه الجوقة من قصص واحداث، كان قد تجسد على الخشبة من خلال تناوب الممثلتين في ادائهما لنفس الدور. لأن المسرحية، وبكل بساطة، لم تعتمد في شكلها ومضمونها أسلوب التسلسل المنطقي للدراما التقليدية، أي الأسلوب الخطي المتتابع، او التراتبي للحدث، وإنما التشذر الذي يرغم المتفرج على المشاركة في بناء تمفصلات العرض وفقا لمستوى وحالة استيعابه. لا سيما إن مسرحية “خريف”، لم تقدم محاضرة عن مرض السرطان، على الرغم من التفاصيل العديدة الموجود على طول وعرضالمسرحية التي يشيب لها رأس الطفل الرضيع. إنه ركز، أولا وقبل كل شيء، على متابعة العذابات التي مرت بها هذه المرأة المصابة بمرض السرطان، ورحلتها الداخلية نحو النور، على الرغم من اعتقادها بأن كل شيء قد تكسر بداخلها بشكل لا رجعة فيه.
من ملاحظاتنا الاخيرة عن المسرحية، انها صارت تركز في احداثها الأخيرة، اكثر فأكثر على السرطان الثاني الذي تمثل بالزوج وهجره للزوجته المصابة،لدرجة اننا أوشكنا أن ننسى مرض السرطان نفسه. ومع ذلك، فقد عالجت أسماء هوري، هذه الحالة بصورة عكسية للمرة الثانية، عندما جعلت الممثلة تودع مرضها في خزانة الملابس التي دخلتها الجوقة ايضا عندما انتهى دورها، وأصبحت صورة جامدةخلف زجاجه البلوري، كشاهد حي على المأساة، مع ملابسها وقطع قماش اثوابها التي قطعتها بالمقص،المتناثرة على الأرض مثل أوراق الخريف المتساقطة، وهي تنظرإلى سترته، بحركة متراجعة نحو خزانة الملابس، حتى تدخلها وتغلق بابها عليها، تاركتسترة الرجلوحيدة على المقعد المتحرك الذي لا ظهر له ولا ذرعين، وكأن المرأة المصابة هي التي هجرت الرجل وهزمته في النهاية وليس العكس، أي هي التي رحلت وليس هو.
كانت الموسيقى حاضرة في العرض من البداية حتى النهاية، ولكن ليس كموسيقى تصورية ترافق الحدث فقط وإنما كممثل حي له وجوده المادي الذي يتجاوب ويتحاور ويتعامل مباشرة مع الممثلين والاحداث ولكن من خلال الموسيقى ونوتاتها المختلفة والمتنوعة المجردة، التي ما ان تجتمع حتى تصبح حوارا، جملا، دوافعا، وحالات شعورية. لا سيما ان الموسيقيرشيد البرومي ( المؤلف الموسيقي لجميع اعمال فرقة انفاس، الذي اعتاد علىتأليف تصوراتها الموسيقية بالموازات مع زمن الخلق المسرحي للعمل)، وأسامة بورواين، كانا حاضرين في العرض،ويقومان بدوريهما على جانب أوامام خشبة المسرح. أي انهما جزء لا يتجزأ من التصور العام للعرض، ومن دونهما لا يكتمل العرض. ويبدو ان هذه العملية أصبحت تقليدا من التقاليدالمتعارف عليها، لفرقة انفاس المغربية.
[1]– فاطمة هوري ، اخت المخرجة أسماء الهوري، التي توفيت بعد صراع شديد مع مرض السرطان.