مقالات ودراسات
حمه سوار عزيز يكتب: مسرحية حياة سعيدة و الكوميديا المؤلمة!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
حمه سوار عزيز
فنان عراقي
قدم لنا المؤلف علي عبدالنبي الزيدي في هذا العرض نصا مسرحيا قريبا من منطقة اشتغالاته السابقة فكرا و موضوعا من خلال العمل على المنطقة المحببة لأغلبية الكتاب المسرحيين في العراق وهي منطقة الحرب و مخرجاتها من القتل و الدمار و الاستلاب و الفواجع المتعددة التى ترافق الحروب المتكررة التى عاشها المجتمع العراقي في تاريخه الحديث.
حيث تناول المؤلف في أغلبية نصوصه هذه المنطقة السوداوية التي اثرت بشكل كبير على شخصية الفرد العراقي من جراء الويلات و المأساة الأليمة التي جعلت من الموت و القتل بأبشع صوره ثيمة مؤثرة و حاضرة بقوة في وعي و وجدان المجتمع و لاوعيه، حتى أصبح الفرد العراقي بكل طوائفه عربا و كردا و الاقليات يعيش داخل هذه الدوامة المؤلمة و تصبح جزءا لايتجزأ من طريقة عيشه و تفكيره. في هذا النص الذي سماه المؤلف (عيشه هنية) و حوله المخرج إلى (حياة سعيدة) ،
اشتغل المؤلف في نفس المنطقة، حيث عروسان متزوجان و لايجدان ملاذا لقضاء ليلتهم الاولى بسبب القتلة الملثمين و الرصاصة القاتلة التي تترصد بهم في كل لحظة و في أي مكان، يضطرون الى لجوء الى بيت غير معلوم لكي يتجنبا القتل و يقضيا فيه ليلتهم الاولى، فيكتشفون انه بيت لعريس ينتظر عروسته في ليلة الدخلة و يبدأ المشاحنات و المشاكسات مع صاحب البيت الذي ينتظر عروسه أيضا لكي يدخل بها. المشاكسة الدرامية و الفلسفية تبدأ من عنوان النص (عيشه هنيه-حياة سعيدة في العرض) حيث يسخر فيه المؤلف بشكل غرائبي من الوضع المأساوي للمجتمع وبيئته من خلال عنوان فيه غروتسكية عالية عندما يسمي هذا الحياة بالعيشه الهنية.
عنوان يكسر أفق توقع المتلقي بشكل عكسي عندما يكتشف أن الهناء الذي يتحدث عنه المؤلف قوامه الموت و القتل و أصوات الانفجارات و دوي الرصاصات التي تحيط بالبيت و أخترقت بابه من خلال فجوات متعددة جعلت منه أقرب لثكنة عسكرية مهددة بالاستلاب و التدمير، هذه السخرية العالية جعلت من منظور الكاتب و تقنيته البنائية مختلفا عن كثير من النصوص المسرحية للكاتب نفسه، منظور يعتمد الجمع بين المتناقضات و رصدها في منطقة تعبيرية مغايرة، منطقة أراد لها الكاتب أن تعبر بصدق عن واقع معاشي للمجتمع أصبح يتلذذ افراده بالموت و القتل و الاغتصاب في كنف حياة يومية يمكن أن تجمع بين النقيضين و يتعايش معهما، هذه المغايرة الابداعية جعلت من الطرح الفني و تقنية بناء النص تذهب بأتجاه السخرية و الضحك على الحروب و مخلفاته،
كل هذا جعل من هذا النص نصا مغايرا و موازيا مع المنطقة الجروتسكية الغرائبية التي أمتاز به الكاتب الايطالي داريوفو، الكاتب الذي دائما ما يسخر من متناقضات المجتمع من خلال ثيمة أنتقادية جريئة جمعت فيها بين الكوميديا و المأساة بطريقة استثنائية رائعة. عمل المخرج كاظم النصار من خلال منظومته التجسيدية و الادائية في ترسيخ هذه المنطقة في النص بتحويله الى عرض كوميدي في سياقه الخارجي و مؤلم في تأويله الموضوعي و الفلسفي،
حيث عمل مع مصمم الديكور (سعد عزيز) على تصميم بيت عراقي مستلب من كل الجوانب و معرض للانتهاك في كل جزئياته، فأصبح البيت مفتوحا من كل الاتجاهات الافقية و العمودية، بيت هش لايؤمن لساكنيه اي نوع من الامان و الخصوصية، فنرى الممثلين يدخلون في كل جوانب البيت الافقية و العمودية الا الباب المهتريء الذي لن يدخله احد الا في نهاية المسرحية عندما نكتشف ان البيت المزعوم ماهو الا مستشفى للأمراض العقلية يتحكم فيه طبيبة نفسية قادرة على أن تخرجهم من البيت في أي لحظة و يجعلهم في العراء في مواجهة الموت الحتمي المتربص بالبيت.
هذا التأثيث التجريدي للبيت الذي يمثل الوطن المستباح رافقه منظومة أدائية تشتغل بين الواقعية و الغرائبية المتوافقة مع ثيمة النص و مرجعيته البنائية، المنظومة التي أستطاعت أن تعبر بكل صدق و بتشكيل جمالي عالي أن تبرز دواخل الشخصيات و الازمات الكبيرة التي تعيشها من جراء الحروب و القتل، فارتقى الاداء بشكل ابداعي سلس و بسيط محملا بسخرية عالية جعلت من العرض شكلا مغايرا في طرح الحرب و مخلفاته النفسية و الحياتية، المخرج كان ذكيا في توظيف مفردات العرض بشكل جعلت من المتلقي أن يضحك متألما من الواقع الاجتماعي المعاش في المسرحية الذي استلبه الخوف و الموت،
الممثلون أدوا بطريقة غروتسكية ساخرة و قدموا منظومة أدائية من خلال الاداء الجسدي و الحسي المغاير عن الواقع كانهم طيور مذبوحة ترقص من الألم و عذابات الموت، هذه المنظومة الادائية المبتكرة رافقتها توظيف ابداعي من المخرج للاضاءه الذي عمل على تجسيد هذه المنطقة النفسية الصعبة من خلال البقعات المتعددة التي رسمت شكل العرض و سحبتها الى سياق تجريدي واعي جرد الايقونات الموجودة في العرض من مرجعياته الواقعية و حولها الى مساحات سيمولوجية دلالية فتحت أفاق العرض على التعددية التأويلية و اشراك المتلقي في خلق و تجسيد المعنى.
الخطاب البصري للعرض ارتكز على التنوع الادائي من الممثل و معاملته لفضاءات العرض بشكل مبتكر و مغاير بحيث عمل من منظومة العرض لوحات تشكيلية متعددة متناسقة في سياق لوحة فنية تعتمد الكولاج و جمع المتناقضات في الخطاب البصري للعرض، كما عمل المخرج بشكل رائع على مجموعة من المشاهد الاستهلالية القصيرة لكي يرسم الصورة التكراية للحدث و يؤكد على استمرارية الاحداث و تعاقب الاجيال عليها. كما عمل المخرج على التنوع الايقاعي من خلال الموسيقى و المؤثرات الصوتية التي عملت على ترسيخ المرجعية الثقافية و الانيه للعرض مع اللعب الادائي في المنظومة الادائية بين الانفعال و الصمت، الحركة و السكون، القسوة و الرومانسية، السخرية و الواقعية،
فجمع كل هذه الثنائيات المتناقضة في منظومته البصرية و الحسية بحيث قدم لنا وجبة جمالية و دهشة في التلقي و التواصل المغاير مع العرض و خلق مسافات جمالية واسعة مع المتلقي ، هذه المنظومة الجمالية و الابتكارية جعلت من ثيمة العرض ثيمة مغايرة مع كل العروض المسرحية التي قدمت منطقة الحرب و القتل في ثيمتها الواقعية الحياتية. كما عمل الممثلون بشكل واعي في تجسيد هذه المنظومة البنائية للعرض من خلال اللعب الحر في المناطق المتعددة من الواقعية و التجريدية و التعبيرية، فقدموا أداء منضبط فيه تنوع كبير من الجوانب الحسية و الجسدية و الحركية التي مهدت لابراز طاقات فنية كبيرة التي امتاز بها الممثلون في توظيف كل امكاناتهم الجسدية و تكنيك عالي في رسم اللوحات الادائية الغروتسكية من خلال دمج المفرح بالمؤلم عن طريق الاحساس المتناقض و بناء حالات نفسية قريبة من المجانين و خلجاتهم الجنونبة اللامتوقعة، فقدمت لبوة صلاح في تجسيدها لأداء العروسة،
حالات أدائية معقدة و صعبة قريبة من شخصية ليدى ماكبث بكل مرجعياته السايكولوجية التي رسمت من خلالها شخصية مسرحية تجمع بين الادراكات العقلية و الشطحات الجنونية بشكل فريد و لكن بمرجعية ثقافية عراقية من خلال الحركة و الصوت و التناقضات الحسية، فأبدعت في رسم و تجسيد شخصية العروس و خلقت ثنائية ادائية مميزة مع الممثل حسن هادي الذي زاملها في هذا الخلق الابداعي من خلال شخصية العريس الذي قدم لنا لوحة أدائية مغايرة من خلال التحولات الحسية و الصوتية و الحركية و لعبه لهذه الشخصية بين منطقتي الاداء الواقعي و الغروتيسكي، حيث قدم لنا شخصية درامية قادرة على التجسيد و اللعب الخارجي في المساحات الادائية المختلفة مسكت ايقاع العرض و سحبته الى منطقة اللامعقول ادائيا و التمرد على الحسية الواقعية.
الممثل علاء قحطان أدى في منطقة أدائية مغايرة و مختلفة عن كلا الشخصيتين بتقديمه أداء كوميدي واقعي يعتمد المبالغة الايمائية و الحسية و الجسدية لخلق نوع من التوازن في منظومة العرض و أعطاء فسحة تنفسية للمتلقي من خلال دخوله بشكل مفاجيء في سياق المشاهد الدرامية التي أداها كل من لبوة صلاح و حسن هادي، هذا التنوع الادائي في المرجعية اعطت للعرض مساحة جمالية عالية و خلقت نوع من التواصل الحميمي مع المتلقي بحيث أستمتع المتلقي بكسر السياقات الادائية التي جسده دخول علاء في المشاهد المتعددة و بسياقات أدائية قابلة للانماء و التصاعد في كل مشهد، أما الممثلة هديل سعد فكان توظيفها تنم عن ذكاء كبير من المخرج عندما رسمها في فورمة أدائية واقعية صلبة، معبرة عن الشراسة المكنونة في هذه الشخصية بوصفها القوة المحركة للأحداث و الشخصية التي تتحكم في البيت أو المستشفى الخاص بالأمراض العقلية.
الملاحظة السلبية على العرض هي اختيار المخرج لمكان العرض و العلاقة الجدلية بين العرض و المتلقي، هذا التواصل التقليدي نوعا ما بين العرض و المتلقي لم يخدم منظومة العرض التي عملت على جذب المتلقي و اخراجه من المنطقة السلبية للتلقي لكي يكون مشاركا في العرض بشكل اكبر من خلال خلق التأثيرات المتبادلة بين العرض و المتلقي، لو عمل المخرج على كسر منظور المشاهدة للمتلقي و وظف المكان بشكل مغاير و عمل على خلق نوع جديد من العلاقة التواصلية بين العرض و المتلقي من خلال جعل المتلقي في فضاء العرض و جعله جزء من منظومته الادائية و البنائية و انهاء العلاقة التقليدية بين الصالة و العرض بشكل يجعل من المتلقي مصدرا و مشاركا في العرض بدل أن يكون علاقة عمودية جعلت من العرض المرسل و جعلت من المتلقي مستقبل سلبي للعرض.
مسرحية حياة سعيدة، تأليف علي عبدالنبي الزيدي ، إخراج كاظم النصار، تصميم الديكور و دراماتورج سعد عزيز، مصمم الاضاءه عباس قاسم، الموسيقى و المؤثرات محمد فؤاد، ادارة الانتاج سهيل البياتي، المسرحية من انتاج نقابة الفنانين العراقيين بالتعاون مع دائرة السينما و المسرح، التي قدمت العرض لمدة ثلاثة ايام على خشبة المسرح الوطني.