مقالات ودراسات
حمه سوار عزيز يكتب: C4.. و الصرخة الاحتجاجية على الموت!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
حمه سوار عزيز
فنان من العراق
ضمن موسم البنفسج قدمت الفرقة الوطنية للتمثيل التابعة لدائرة السينما و المسرح، مسرحية (سي فور كلواذا ) على مسرح الرشيد لمدة ثلاثة أيام.
المسرحية من تأليف ماجد درندش و اخراج ابراهيم حنون و تمثيل ماجد درندش و اسراء رفعت و سعد محسن، الديكور محمد نقاش و الاضاءه كامل تتر. ذهب النص للمؤلف ماجد درندش إلى منطقة الموت و القتل و الدمار من جراء الحروب المتتاليه الداخليه و الخارجيه التي تعرض لها العراق بشكل مستمر و خاصة بغداد،
تلك المدينة التى أسست قبل اكثر من 1200 عام، المؤلف واصل على منواله الاحتجاجي في كتابة النصوص المسرحيه التي تحتج بشكل صارخ على الاوضاع المأساوية القائمة التي جعلت من العراق ساحات دائمة للقتل و الحرب و الاستشهاد، في هذه المسرحية لم يحتج المؤلف على الدمار و عمليات القتل و الاستشهاد للشباب العراقي في تاريخه الاني و القريب،
بل تعرض الى عمق التاريخ و منذ نشوء و بناء بغداد و هي تتعرض بشكل دائم لعمليات القتل و شبابها مشروع دائم للأستشهاد، فأطلق المؤلف و العرض صرخة قوية احتجاجيه بوجه الموت و القتل و الاستشهاد و أنتقد الوطن الذي يضمر الموت لأبنائه، الموت ليس فيها بطولة و الارض التي تروى بدماء ابناءها هي أرض بائسة غير قادرة على أن تكون خضرة بالحياة و الجمال، أدانة المؤلف و من بعده العرض للموت تحت شعار يافتات الشهادة و التضحيه،
هي الصرخة الحقيقيه من أجل الحياة و الاستمرار و الحلم الانساني بالتمتع بالحياة و جمالها، فتصدير الموت و القتل و تجميله داخل المغلفات الوطنيه و القوميه و الدينيه و الانسانية، لاتغير من بشاعة الموت و القتل في مقابل سمو الحياة و متعة معايشتها. النص أعتمد التحاور و اللهجة الشعبيه المحكيه في البناء الدرامي و خلق شخصيات نمطيه قريبه للواقع تمثل الماضي و الحاضر و المستقبل، فالام هي الوطن المفجوع التي لاتتحمل فقدان أبناءها بأي حجة وطنيه و أنسانيه واهيه تمزق جسد أبناءها و تقتل فيهم الحياة و الاحلام الورديه ببناء البيت و العائلة والزواج و إنجاب الاطفال ، الشاب هو نموذج للشباب العراقي الذي فتح عينيه و هو يواجه الموت و يستشهد من أجل وطن يريده ميتا و شهيدا، وطن لايزرع فيه غير الموت و القتل و الانسان فيه مخير بين الخساره أو الخساره حصرا،
أما شخصية الموت فتمثل الحضور الاقوى في التاريخ العراقي القديم و الحديث، لهذا نرى هذه الشخصية هي الشخصية الاقوى في المسرحية و هي صاحبة القرار الاخير و حضورها يطغي على حضور الشخصيات الاخرى التي تمثل الحياة، الحياة التي لم يتبقى فيها سوى بعض الاوهام و الخيالات و الاحلام السرياليه و هي تواجه الموت بالصرخات و الرفض و لكن دون فائدة تذكر. أستطاع المخرج ابراهيم حنون أن يسحب العرض من المنطقه الشعبيه الواقعيه للنص الى فضاءات أكثر أبتكاريه من خلال خلق لغة مختلقه تعتمد التشكيلات البصريه و المؤثرات المرئية و الفضاءات اللاتقليديه لكسر الايقاع السردي في النص و التغلب على اللغة المحكيه الممتلئه بنوع من الشحن العاطفي و النسق الخطابي المباشر من خلال أستنكار الموت و القتل و الشهادة عن طريق الـتأثيث الحواري المشهدي الذي دفع بالعرض نحو منطقة التواصل الحسي و العاطفي مع الجمهور،
لذلك تدخل المخرج كمصصم لجسد العرض و فضاءاته البصريه بشكل كبير في المنظومات السينوغرافيه و الأدائية التي خلقت منظومة بصريه استطاعت أن تخلق نوع من التوازن بين خطاب النص الذي أعتمد الشعريه و اللعب على الشجن و التواصل الحسي و خطاب العرض الذي تجسد في خلق المنظومة البصريه من خلال جسد الممثل و تشكيلاته الجماليه و ادخال المجاميع البشرية التي أدت مشاهد تعبيريه تعتمد أستنطاق الجسد و الحركات الادائيه التجسيديه من خلال مشاهد اعتمد فيها المخرج على مصصم كريوغرافي لكسر الحالات الإيهامية و المنظومة الأدائيه الحسيه الداخليه في كثير من أوقات العرض، حتى الاضاءة و المؤثرات المرئية و الديكور عملت كمنظومة سينوغرافيه حاولت كسر التقليد و البناء الدرامي الواقعي من خلال الاداء في المنطقة الشعبيه اليوميه للعرض و قدمت المغايرة البصريه من خلال عناصر ممسرحه بعيدة عن الايقونية و الأحادية في التأويل و التفسير.
الإضاءة كان لها الحضور الاكبر في رسم الجسد اللاتقليدي للعرض من خلال مجموعة من الاستخدامات السيمولوجيه أضافت كثيرا للعرض و تأويلاته و سحبته من المنطقة الواقعيه للنص و منظومته البنائيه من خلال العمل على مجموعة من الاشكال المتنوعة من المربعات و المستطيلات و الدوائر و الخطوط الجانبيه و الافقيه و العموديه رسمت من خلالها منظومة بصريه سينوغرافيه تعتمد كسر المألوف و العمل على إرساء و ترسيخ لغة مختلفة للعرض جاورت اللغة الشعبيه الدارجه و تفوقت عليها في بعض الاحيان من خلال التشكيلات الجماليه و الابداعيه في جسد العرض و كونت مع جسد الممثل صور و فضاءات تجريديه قادرة على تحريك رؤية المتلقي نحو المناطق غير سمعيه في العرض لكي تسحبه الى منطقة تجسيدية ممسرحة بشكل فني راقي يقدم المتعه البصريه و الدهشه الجماليه و يوسع المسافة الجمالية للعرض مع المتلقي و يكسر أفق توقعه في التصادم مع النص المحمل بالثيمات الشعبيه و الواقعية.
استطاع المخرج أن يلعب بين منطقتي الوهم و الحقيقة بشكل مبتكر من خلال رسم مجموعة من المشاهد بين شخصيتي الام و الابن، المشاهد التكرارية التي قدمت نسق تجسيدي مغاير للعرض من خلال لعب على مخيلة الشخصيات و خاصة شخصية الام، الحضور و الغياب لشخصية الابن في هذه المشاهد قدمت نوع من الدهشه الجماليه المرتكزة على التبريرات الدراميه لخلق هذه المشاهد التى رسمت الفضاء السريالي لشخصية الام و انشطارها و تشذيها بين الوهم و الحقيقة، فأجاد المخرج العمل في هذه المنطقة البصريه المهمة في رسم الصورة و الفورمة الفنيه لشخصية الام المحورية في العرض و سحب من خلاله العرض من المنطقة المتوقعة الى المناطق أكثر إبداعية و ابتكارية. يحسب للمخرج أيضا العمل على اثراء العمل بمجموعة من التشكيلات الجسدية المنضبطة التي أدت الحالات السايكولوجيه و الميتافزيقيه للشخصيات و بيئة العرض من خلال اللعب على المزاوجة بين البيئات الأدائية المختلفة التي خدمت منظومة العرض بشكل كبيرو جردتها من الإحالات التقليديه الواقعيه باتجاه فضاء تجسيدي مغاير حاولت العمل على الخلط بين الواقع و الحلم، بين الحقيقة و الوهم، بين الخيال و الوجود،
كل هذا تجسد من خلال مجموعة من المشاهد غايرت الفضاء الواقعي القاسي و الصلب للعرض و قدمت للمتلقي فسحة جماليه بصريه و مناطق تأويليه كسرت الخطاب الحسي المباشر للعرض، فقدمت مشاهد على أعلى طراز أبداعي منها مشهد التحيه و مشهد الملفات التي اغرقتها الغبار و مشهد غسل الموتي و مشهد التفسخ و التشكيلة الجسدية الاخيرة حين شكل الممثلون بأجسادهم نحت جسدي حي يجسد نصب الحرية الذي يمزق تحتها أرواح الشباب و يسلبهم أجمل مايمتلكون في سبيل اعلاء نحت حجري اسمه الحرية، و كنت أتمنى أن تكون هذا المشهد هو المشهد الختامي للعرض لان المشهد الذي تلاه و أطفأت فيها الام الشموع لم تضيف للعرض شيئا يذكر مقارنة بالمشهد السابق. الديكور و المصطبات ساعدت العرض كثيرا في تجريده من المنطقه الواقعيه التقليديه، فأجاد المصصم رسم الابعاد التاريخيه للعرض من خلال مجموعة كبيرة من الملفات المهترئة اغرقت بالغبار، فالتاريخ و البطولات الماضية لم تبقى منه الى مجموعة من الملفات متعفنه تحفظ هذه البطولات في بطون خزانات مهمشه و منسيه أصبحت تحت الاقدام و لايلتفت اليها الاحد، حتى أن اختم احاله للموت حجمه كبير بشكل لايمكن اخفاء أثاره و الافلات منه، هذه الجزئيات البسيطة خدمت العرض في منظورها التجسيدي البصري لكي يكسر الاحالات الايهاميه للعرض من خلال المنظومة الحوارية.
حاول المخرج توظيف منظومة أدائية و تجسيديه قريبة من منطقة النص بواقعيتها و اللهجه الشعبيه الدارجة، فذهبت المنظومة بأتجاه الاداء و التجسيد الحسي الداخلي و خاصة من خلال شخصية الام التي أدتها (اسراء رفعت) باقتدار و حس جمالي راقي من الغور في مكامن شخصية الام العراقية الممتلئة بالألام و الاوجاع، فقدمت نبرة صوتيه معبرة و حساسة للحالات الدراميه المتعددة التي أدتها من خلال حس مرهف بالحب و العاطفة الصادقة من أم لاتريد أن تفقد أبنها، اسراء رفعت رغم اختلاف سنها مع الشخصية و عدم تدخل المخرج بالمكياج و التغيير في الفورمة الخارجية للممثلة، إلا أنها تفوقت على نفسها في رسم هذه الشخصية بشكل منضبط دون أية زيادات و المبالغات و التأكيدات،
فقدمت بصدق الشجن العاطفي للأم العراقيه عاشت الويل بفقدان أعز ما تملك وهي كممثلة قادرة بشكل رائع أن تتحكم بنبراتها الصوتيه و تنويعاتها الالقائيه بحيث أغنتها الصوت الدافئ الملئ بالحب و الالم عن الفارق العمري مع الشخصية. سعد محسن أدى في منطقة أدائية مغايره نوعا ما في شخصية الابن، فحاول أن يكسر الايهام الحسي من خلال أداء واقعي أعتمد فيها السخريه و نوع من الاداء الجروتيسكي لكي يتوازي مع الشخصية الشبابية التي فرضت عليها القتل و الفناء بحجة الشهادة و البطولة، بأداءه الجروتيسكي العامل للسخرية استطاع أن يقدم الممثل نوع من التمرد على الشخصية و على القيم الدعائيه الوهميه التي يقتل من أجلها الانسان، بهذا الأداء المغاير خلق سعد محسن ثنائية أدائية ممتعه مع اسراء رفعت لخلق نوع من المشاحنه و المشاكسه الادائية في التجسيد و التعبير،
كأنما ثنائية الموت و الحياة تجسدت من خلال المنظومة الادائية لكلا الممثلين و تناوبوا على اللعب المغاير للشخصيات، فعندما كان اسراء رفعت تنادي بالموت من خلال شخصية الأم، كان سعد محسن ينادي بالحياة و تمسكه بالحياة من خلال شخصية الابن، تغيرت هذه المعادله في نهاية المسرحية فتبادلوا الادوار، فأستسلم الابن لشبح الموت و تمردت الأم عليه من خلال رفضها و تمسكها بحياة أبنها، هذه الانقلابات الدراميه أديت بشكل واعي من قبل الممثلين و خلقوا نوع من ثنائية رائعة تفوق فيها الحس العالي للشخصيات كالام و الابن على اداءهم فقدموا العلاقة الصادقة بين الام و الابن في أروع صورتها. أما الفنان ماجد درندش في أداء شخصية الموت، حاول أن يكون متوازنا في اداءه بين كلا المنطقتين العقليه و الحسيه، فلم يؤدي الموت بالطريقة التقليديه المخيفة و المهيمنه و البشعة، بل حاول أن يرصد شخصية الموت كحقيقة عاريه بين الوهم و الواقع و استفاد من حضوره الجسماني و مظهره الخارجي لكي يقدم هذه الشخصية دون أضافات أدائية كبيرة، حيث تفرد في رسم هذه الشخصية بثباته و قدرته على الاقناع و هيمنة سلطته على الكون و العالم،
حتى انه في بعض الاحيان تمرد على وظيفته القاسيه من خلال ابداء بعض المشاعر و لكن سرعان ما يعود الى أصله القاسي و المحتم. في النهايه يمكن أن نأخذ على العرض التفاوت في المنظومة الادائية مع المنظومة البصريه للعرض، أعتقد ان المنظومة الادائية كانت تحتاج الى مساحات أدائية خارجيه تعتمد نوع من الاداء الممسرح على حساب المنظومة الحسية الداخليه التي قدمت نوع من التكرار الحسي خاصة من خلال شخصية الام المتجسدة عميقا في هذه المنطقة، المخرج كان يحتاج الى نسق أعلى من مسرحة الفضاء و المنظومة الادائية لكي يعلي الخطاب العقلاني على التماس الحسي و العاطفي للعرض من خلال كسر الايهام و اللعب على المزاوجة بين اللعبه المسرحيه و المنطقة الواقعيه للنص.
أهم من هذا اسجل عتبي على الكثير من العروض العراقية سواء كانت محترفة أو شبابيهةعلى تجسيدها لمنطقة القتل و الموت و الدمار و التفجيرات و الداعش و كثير من المشاهد القاسيه و المؤلمة التي أمتلئ بها المسرح العراقي بشكل مبالغ و أصبحنا لانرى عرض عراقي الا وهو يذهب الى هذه المساحه الاليمه و يقدم للمشاهد ماعاناه سابقا من الفواجع و الانكسارات، بعضها تقدمها في شكل تماثلي و قريب مما حدث عن طريق خطاب مسرحي ملئ بالبكائية و الالم و الشحن العاطفي و الخطاب الحماسي المباشر، البعض الاخر يحاول أن يقدمها بشكل مغاير و من خلال واقعيه ابداعيه مفترضه و فرضيه جماليه يقدمها الفنان المسرحي و المعالجات التجسيديه التي تضمن المتعة و المسافة الجماليه و كسر أفق التوقع للمتلقي و هذه هي المرجوه في تجسيد هذه المنطقة المؤلمة.
المسرح العراقي ينقصه التنوع الموضوعي و الادائي من خلال حصره في مساحات معينه اغلبها تمثل التاريخ القريب و البعيد، في حين المشاكل اليوميه البسيطه التي تهم المتلقي أكثر من التاريخ و البكاء على الماضي، أهملت بشكل كبير في الصنعه المسرحيه و حتى الكوميديا و الاشكال المسرحيه لم تعد تشكل الصورة الكبرى في المسرح العراقي و هذا ما أدى به الى حضور نوع من التكرار في المتن و المواضيع المتناوله و تشابه في المنظومات الأدائية بسبب تقارب النصوص في سياقها الموضوعي و التقني و غياب المغايره الموضوعيه و الخروج عن المألوف في تقديم ثيمه مسرحية أكثر حياتيه و تتحدث عن الحياة و مشاكل الاحياء و لاتولول على الماضي و من مات ظلما و قهرا فيه.