مقالات ودراسات

د. أحمد محمد يكتب: مفهوم المسرح الحركي “Physical Theatre ” ..أسلوب التعبير في المسرح الصامت


بقلم: د. أحمد محمد

كلية الفنون الجميلة ـ بابل| العراق

ـ

المسرح الجسدي هو نوع من الأداء المسرحي الذي يسعى إلى القص من خلال الوسائل المادية الجسدية في المقام الأول . العديد من التقاليد أداء جميع تصف نفسها بأنها المسرح الجسدي ، لكن الجانب الموحد هو الاعتماد على الحركة المادية لجسد المؤدي للتعبير عن القصة . المسرح الحركي أو الجسدي ( Physical Theatre ) من أواخر الانجازات الأدائية المعاصرة ما بعد العقد السابع من القرن العشرين ، كشكل من اشكال فنون الاداء الرائجة نوعا واصطلاحا ، ليعيش هذا المصطلح الآن في أجواء ومناهج التعبير الجسدي الراقص في أوربا تحت مسمى ( الرقص الحر ) كباقي فنون الاداء الاخرى : البانتومايم ، والمايم بأنواعه مايم شوارع ، مايم تماثيل ، مايم خيال الظل ، مايم قماش ، ورقص شعبي حديث : street Dance ، Hip Hop…

انما المسرح الحركي / الجسدي من مجموعة متنوعة من الأصول التمثيل الايمائي الصامت وعروض التهريج والسيرك ، مثيل لتجارب الفرنسي ( جاك ليكوك )، إذ كان لها تأثير كبير على الحديثة والمعاصرة للمسرح الحركي / الجسدي في أوربا ، سبقتها تجارب ( اتيان ديكرو) و( جان لوي بارو )، ( مارسيل مارسو ) وبالطبع كان إرث ( ديكرو ) أكثر عمقا على إنتشار أنماط الاداء الصامت الذي تطور وظهر في مدرسته الشهيرة وكان بجدارة اب المسرح الحركي الصامت ومهد الطريق لولادة مصطلح المسرح الحركي .

ووجوده في الباليه والرقص الدرامي فتح المجال واسعا لتطور استخدام المصطلح كما حدث في التجارب المعاصرة للراقصة الألمانية ( بينا باوش ) التي سنركز عليها الان في مقالنا هذا . ولا بد من الاشارة الى دور تقاليد المسرح الشرقية على مستوى عال من التدريب البدني على عدد من الممارسين الذين أثرت تجاربهم على المسرح الحركي / الجسدي. التقاليد المسرح اليابانية، لا سيما وقد تم الاعتماد عليها كثيرا في تجارب المسرح الحديث ، كما حصل في اثر التدريب البدني للياباني ( سازوكي ) مدرب فن البوتو الراقص على التدريب البدني للفرنسي ( جاك ليكوك ) في استخدام الاقنعة الحيادية ..

تتميز عروض هذا الأسلوب المعاصر ، باشتغالها على مفهوم الإيحاء بالمعنى دون التصريح المباشر به ، أي الابتعاد عن التصوير الايقوني للمعنى، كما إن تحميل الحركة درجة من التجريد الشكلي في أدائها المسرح، أضفى عليها حرية واسعة من التعبير والقراءة في آن واحد . مما ترتب عن ذلك ، شكلا فنيا غرائبيا مثيرا للقراءة الحدسية والوجدانية والذهنية الحرة، يستفز خيالات المتلقي وخبرته الفنية والبصرية والمعرفية معا ، إذ تعطي تلك التجريدات الإيمائية بعدا جماليا للعرض ، ينقل فيه الواقع بصورة لا واقعية ويكشف عن أبعاده المضطربة ، ويحوّل الانفعال إلى صورة جمالية تدرك حدسياً، وتعبر بشكل ما عن قهر الإرادة على المستوى المعرفي / الفكري، والجمالي / التقني على حد سواء ،

وإحدى سبل التعبير عن الحرية، كما يعد طريقة دؤبة في البحث عن آليات التعبير الشعري للجسدي عبر تحليل ردوده الفيزيائية ضمن مجاله الجمالي _ مع ضرورة الإشارة إلى إن الدراسات الحديثة تشير إلى ارتباط الفعل الجمالي للجسد وإيماءاته بالنشاط الهرموني للإنسان كما في هرمون ( الأدرينالين ) المتحكم والمنشط للفعل الإيمائي .. كما أنها ترد للمسرح حضوره واعتباره أمام القفزة التقنية التي امتلكها وتطور بها باقي الفنون الأخرى على حساب عروض الخشبة التي بقيت محاطة بذاتية ووجدانية الفنان ، ولذا نجد احتواء بعض المشاهد على شكل أدائي خالص يبغي المتعة البصرية التي تخلوا من المعنى، إلى جانب التوافق والانسجام الحركي والإيقاعي ، والتكرارات المرنة والجامدة معا والقطوعات الإيقاعية والبصرية المقصودة ،

إذ تظهر في علائقية تشكليه تتابعيه وتراكبية حينا واستبدالية حينا أخر، وأحيانا ما توظف توظيفا نفعيا ( توظيف الشكل والمضمون ) للتأكيد والتوضيح معا، وتارة أخرى للترميز والإحالة إلى موضوعات ما معينة، كما تأتي تلك الأشكال الحركية محرفة أو متغيرة دلاليا، لتسمح بتحريف مكان أو زمان العرض نسبيا ونقله إلى عوالم خيالية مفترضة، الحلم مثلا. لذا عادة ما يوحد الشكل الحركي في العرض مع فكرة ما خيالية أو وجودية : كالزمن ، الإيقاع ، الحب ، الوجدان ، الصراع . فالإيقاع تارة متزايد أو متناقص أو حر أو رتيب . أما ما يميز العمل ككل فهو تسيد وهيمنة الشكل وإيقاعه على الموضوع هيمنة كاملة، إذ تأتي الاهتمام بالجسد وقدرته الفيزيائية محورا هاما في البحث المتواصل، وأحيانا ما تكون تلك الموضوعات والأفكار عناصر ثانوية غير مهمة، وذلك لغياب الرؤية الواضحة لدى الفنان تجاه قضايا عصره الكبيرة وعدم اكتراثه بها، هذا من جانب، ومن جانب أخر عدم اكتراث فنون الحركة الإيمائية الصامتة بالموضوع، لألا تتسيد وتتفرد على التصوير البصري ، كما إنها نزوع هروبي من قول أو الإخبار عن أي شيء بشكل مباشر. مما يجعل من تلك الأعمال الغرائبية الفريدة نمطا مثيرا للجدل حول أهميته وضرورته الفنية والأكاديمية للممثل / الراقص / المؤدي والتي لا تشاهد إلى في الورش والفرق والمهرجانات الدولية،

ومصداق انتشاره وقبوله من قبل المتلقي في المنطقة العربية في هذه الآونة، على مستوى المهرجانات المسرحية، هو حصول فرقة ( كامب الصامتة ) الدنماركية (Mute Comp ) في عرض ( الأرضية خلف رأسي the floor with the back of my head ) على جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل في مهرجان القاهرة التجريبي 2008 ، إذ استخدم في هذا العرض آلات النقر الموسيقية التي دخلت بشكل مستمر كشريك مع الموسيقيين والراقصين ، والمغنية التي غنت مقاطع رافقت الأداء مشابه لدور الراوي، وكان لآلات النقر بطاقمها الموسيقي ( الكورس ) وجود شكلي جمالي دال مشارك في بناء العمل، أعطا حيوية وانسجام فريد بين العناصر المتباينة البنائية للعمل، كما ساهم في الإيحاء بالقدرة الارتجالية والمهارة العالية لكادر العرض من راقصين وعازفين ومغنية. واتسم الأداء بالجمع ما بين فنون الأداء الحركي الصامت وفنون الرقص ومنها الشعبي الحديث (street Dance ، Hip Hop ) وفنون البهلوان ( acrobatics)، إذ أذاب العرض حدود التجنيس الفنية بصورة غرائبية نقلت لنا الواقع بشكل لا واقعي ( غرائبي )، في محاولة للتجريب في الصور الذهنية والمجازية في ما لم يمكن الوصول إليه عبر فيزيائية الجسد الراقص، ولتقريب التجربة من الشكل القديم للمسرح الكلاسيكي الجامع لكل الأنشطة الفنية المتعددة.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock