المسرح نيوز ـ القاهرة| د. أحمد يوسف عزت*
ـ
*مدرس الأدب العربي الحديث
كلية الآداب، جامعة بورسعيد
منذ أن حَبَّر أديب نوبل والمسرحي البريطاني: هَارولد بِنتَر [المولود في العاشر من تشرين الأول أكتوبر، عام ثلاثين وتسعمائة وألف للميلاد، والمتوفى في الرابع والعشرين من كانون الأول ديسمبر، عام ثمانية وألفين للميلاد] مسرحيته الفَذة: (الغُرفَة)، عام سبعة وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد، والتي قُدِّمَت لأول مرة، بغرفة من غرف المسرح بجامعة (بِريستُول) البريطانية في العام نفسه؛ بدأ الاهتمام بما يُسَمَّى (مسرح الغُرفَة)، وهو المصطلح الذي يشير إلى التجارب المسرحية الخاصة، التي يؤديها مبدعوها في (أضيق) حيز مسرحي ممكن.
وتشير الدراسات النقدية إلى أن (الغرفة) بوصفها مكانا مسرحيا، له قدرة إيحائية فنية قصوى؛ إذ إنها (أعني الغرفة) تجعل المشتغل بحيزها المُلهِم، أكثر قدرة على (البَوح الدرامي) بأسراره، والإعلان عما يشبه خبايا النفس البشرية، وفك طلاسمها وأدق صراعاتها خصوصية؛ مما يُحَوِّل (سينوغرافيا) المكان إلى فِعل مُصَارَحة، مشفوع بخصوصية شديدة الإيحاء. بعض البحاثة في تاريخ الفن المسرحي أرجع فلسفة (مسرح الغرفة)، إلى (عهد الفراعنة) مما يتصل بما أسماه النقاد: (غرفة الأسرار)، أو (بيت الكهنة). وكان يقوم (في مُجمَلِه) على الإنشاد الديني المنتظم والمُوقع، الذي يقوم على أساس علاقات مُكَاشَفة خاصة جدا، بين رب الأرباب والكهنة وخُلَصَاء البلاط الفرعوني.
ومن النصوص التي وصلتنا (في السياق المذكور) ذلك النص المسرحي، المُدَوَّن بمعبد (حتشبسوت)، أو المعبد الجَنَائِزِي لحَتشِبسُوت (Mortuary Temple of Hatshepsut). وهو معبد من الأسرة الثامنة عشر المصرية، وأفضل ما بقي من المعابد الجنائزية، التي بُنِيَت منذ نحو (3500) سنة، في الدير البَحرِي. ولقد بَنَتهُ الملكة حتشبسوت، في الضفة الغربية للنيل، وهي الضفة المقابلة لطيبة (عاصمة مصر القديمة ومقر عبادة آمون). يتميز معبد حتشبسوت بتصميمه المعماري الخاص، المتفرد مقارنة بالمعابد المصرية التي كانت تُبنَى في الضفة الشرقية من النيل. ويتكون المعبد المذكور من ثلاثة طوابق متتابعة على شرفات مفتوحة. بُنِيَ المعبد من الحجر الجيري، ونُصِبَت أمام أعمدة الطابق الثاني، تماثيل من الحجر الجيري للإله أوزوريس والملكة حتشبسوت في توزيع جميل (إضافة إلى إبداع تصميم بيت الكهنة أو بذرة مسرح الغرفة في المعبد المذكور).
فإن الملكة الفِرعَونِية حتشبسوت (واسمها كاملا: غنمت آمون حتشبسوت) ابنة الملك تحتمس الأول، وزوجة أخيها غير الشقيق تحتمس الثاني، كان لابد لها كيما تتبوأ عرش بلادها باقتدار؛ أن تَرسَخ في وجدان الشعب، على خلفية ركيزة عقائدية تبرر حكم امرأة. وربما كان مستشارها ومهندس مجمع معابدها (سِن جِم) أو (سنموت)، الذي كان لغزا مثيرا في حياة حتشبسوت، والذي منحته الملكة ثمانين لقبا شرفيا وفخريا، وكان يتولى تربية وتعليم ابنتها الأميرة الصغيرة (نفرو رع)، المهندس الذي بلغ من حبه لمليكته، أن حفر نفقا بين مقبرتها ومقبرته؛ ليكون قريبا منها في الحياة الأخرى، كما كان قريبا منها في الدنيا، أقول إن (سنموت) هو الذي أَوحَى إليها أن تشيع أسطورة؛ فحواها أن الإله (آمون) وقع في غرامها، فأعد كهنة معبد حتشبسوت، نصا دراميا يسرد تلك الأسطورة، للعرض على غرفة الأسرار (كانت تَستَمِيلُ الكهنة قبل العوام)، وذلك قبل مِهرَجَان (حِب سِيد)، وهو مهرجان إعادة تنصيب الملك. وإلى حضراتكم نص الأسطورة، كما أوضحها الدكتور (صبحي شفيق): “ولنر سويا كيف أعد النص الدرامي الذي يسرد تلك الأسطورة…
البداية، إنشاد مُنفَرِد يقوم بدور الراوي :
منشد آمون: لقد أرسل توت رسول الآلهة إلى معبد كرنك؛ كي يجد جميلة الجميلات التي أغرته بفتنتها”. يلي ذلك مشهد دخول توت إلى حجرة العرش الإلهي.
توت: هذه الشابة التي حدثتني عنها تلك التي تشع هالاتها وسط النبيلات! إنها ابنة القمر (أهموس)، إنها أجمل بنات البلد كلها، وهي الزوجة الكبرى لجلالة الملك تحتمس الأول، وجلالته شارب في عنفوان.
آمون: إذن… قدني إليها (توت يصحب آمون إلى حيث تجلس الشابة) وتتلاشى اللوحة الأولى؛ لتظهر لوحة ثانية اتخذ فيها آمون هيئة الزوج، يتجه توت إلى المشاهدين ليحكي ما يحدث)…
توت: وعندئذ جاء آمون، ذلك الإله الشامخ، سيد عرش البلدين، جاء وقد اتخذ هيئة زوجها. وبينما هي نائمة في أبهة قصرها، أيقظها عطر الإله، وارتسمت على وجهها ابتسامة وهي تبصر جلالته، وذاب حبها في قلبه، وما إن اقترب منها حتى استطاعت أن تراه في هيئة الآلهة، وغمرتها سعادة بالغة، وهي تتأمل جماله، وتغلغل حبه في جسدها، وفاض عطر الإله ليغمر القصر كله، ومنحها جلالته كل ما ترغب فيه، منحها فرحة رؤيته واحتضنها (وتختفي اللوحة الثانية، لتجيء اللوحة الثالثة، التي نرى فيها حتشبسوت ممسكة بمبخرة، وتضمخ بالعطر جسد جلالته، ونعود إلى المنشد ليحدثنا بما يدور في قاعة الاحتفالات)…
المنشد: هاهي جلالتها تقوم بالعمل بيديها، بأنقى أنواع الريحان تضمخ جسده، وعطره يختلط بعطور مدينة بونت، مدثر جسده بالذهب، وهاهو يتألق كما تتألق النجوم في قاعة الاحتفالات بكل أعياد البلاد”.
النص المسرحي السابق، وعلى النحو الذي عرض نصه الدكتور (صبحي شفيق)؛ يعمل على محو (تحتمس الثالث) من ذاكرة المشاهدين؛ فلا يروا سوى هذه الملكة حاكما، ونسوا ابن زوجها الملك، فإن الأخير ابن محظية؛ بينما حتشبسوت تشيع (عبر النص المسرحي الآنف) حتمية حكمها؛ بناء على وحي من آمون، واختيار الإله لها لتكون زوجته. وعندئذ لا يستطيع أي إنسان أن يتفوه ببنت شفة، أو ينبس بكلمة احتجاج أو اعتراض؛ لأن رفض ما يوحى به آمون هو عين الكفر. وبذلك تكون (الغرفة، أو غرفة الأسرار، أو بيت الكهنة) ركيزة مهمة من ركائز المسرح الفرعوني، منذ الحقب الأولى…
