د. حسن عبود النخيلة يكتب: العرض المسرحي “المربع الأول” جدل اللا نظام والمُعادل الفني المسرحي

المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات
ـ
أ.د. حسن عبود النخيلة
قدم المخرج العراقي ( علي دعيم ) في خامس ايام مهرجان بغداد الدولي المسرحي في دورته السادسة . عرضاً مسرحياً يكشف للمتفحص الدقيق ، عن زوال صفة الانسان ، وهو اقصى ما تشكله ذروة هذا العرض المسرحي .
فالعرض المسرحي يقوم على مجتمع فقد هويته ، بعد ان الغيت فيه صفات الانسان المستنير والفاعل والمتحضر ، وما يُقدم عبر هوية الاداء التمثيلي لا يكشف الا عن انسان بدائي متوحش ، مفتقر لما يمنحه صفة السلوك الانساني ، وتأكيد زوال المدنية . فيُكشفُ للمتلقي عن ممثلين عراة الا من لباس يستر عورتهم ، لا ينطقون بحرف واضح ، ولا نفقه منهم سوى الصراخ والهمهمة والاصوات الغريبة ، واشد ما يجمعهم التناحر الدائم ، واحالة بيئتهم المحيطة الى فوضى مستتبة .
إلى جانب وجود رجل يعمل بوتيرة متصلة على محاولة تحقيق تواصل معهم ومحاولات اخرى في ضبط جلوسهم ، او بالاحرى تعليمهم كيفية الجلوس على الكراسي ، وفي الوقت ذاته يتضح عبر الاداء التمثيلي صفة التطابق التي تجمع بينه وبينهم في اصدار ذات الاصوات التي تعود الى الانسان البدائي الأول .هذا الرجل الذي يمكن ان نصفه بانه المروض لهؤلاء الذين غلبتهم عليهم الهمجية ، عمل على اداء دوره التمثيلي المخرج ( علي دعيم ) .
وقد سعى المخرج ان يكرس منظومة العرض للعمل على مستويين ، الاول مادي حاضر عبر شخصيات الممثلين ، والثاني افتراضي تجسده الشاشة التي تفصح عن صور متوالية تهيمن في عمق المسرح ، وهي تكشف عن مركزية السلطة التي اضطلع باداء دورها الممثل ( حسن هادي) .
عمل المخرج ( علي دعيّم ) على طرح عالم كابوسي يشتبك فيه الافتراض الذي تفصح عنه الصور المبثوثة عبر الشاشة ، وهي تمنح رؤية لرجل السلطة الذي لا يتحكم فيه سوى شهواته ، واللا تركيز في اتخاذ قرارت لا تمت للواقع بصلة ، جموع من الناس تفصح شاشة العرض عن سيل حركتهم اليومية ، يخضعون بلا نظام الى الى مركزية شخص اطبقت عليه الغريزة – التي يصورها المخرج عبر متحرك ( الايروس اللاهب ) ، الذي يجسده عبر الشاشة بتلميح يستحضر ظل شخصية زعيم السلطة وانثى شبقة تعمل معه في مشروع التحكم بمصائر الاخرين، باداء تمثيلي يفصح عبر الاداء الجسدي عن خطة العمل المكرس لاستهداف العالم البدائي ، الذي اختار المخرج مكانه خشبة المسرح .
إن العالم الافتراضي عالم فوقي ، شبقي ، مسرف ، متسلط ، منطو على ذاته ، لا يدرك الا غرائزه ، في عبارة نادرة وسط خطاب الصورة هذا ، تصدر عبارة ملفوظة نادرة عن احد الممثلين :
(( النظام يدون والشهوة تمحو ))
وازاءه العالم البدائي ، الذي يكرس له المخرج موضع التأمل ، وهو عالم بلا نظام : لا لغة تنتظم فيه ، ولا شكل سوي يعبر عنه .عبر الممثلون بملبسهم وحركاتهم واصواتهم ، عن اللا نظام هذا ، وكأنهم يخبروننا ان العالم بات متراجعا ، همجيا ، لا وجود لما يبعث فيه على الامل .
وقد ذهب المخرج ( علي دعيم) الى اغناء خطاب العرض بصور مضادة ، ونقيض ادائي يؤكد بلاغة هذه الصور ، عندما بنى مفردات الخطاب البصري على مفردات ، مثل : ( الكراسي ، الورق الابيض ، الاقلام ، البذلات المعلقة )
وخلق الاداء الضد ؛ بأن جعل الممثل لديه لا يتعامل مع هذه المفردات بسلوك يجعله منتمياً اليها ، او يألفها ، او يحيلها الى نظام يتوافق معها ، بل يتضح كيف يحاول الممثل ( المروض) للمجموعة والضابط لسلوكها ان يصل الى نظام لا يمكن ان يتحقق.
فاللا نظام محور بارز للاداء التمثيلي الذي اشتغل الممثلون عليه ، ومفردات الوعي والنظام تتبدد وتصبح ضمن نسيج اللا نظام ، فلا يرتدي الممثلون البذلات ولا تفصح ذواتهم اللا عن كائن متدنٍ يتقاطع مع اي معنى ، ويصبح بلوغه امرا عصيا ، حتى مع وجود ( المروّض – الاستاذ – المربي ) الذي ادى دوره المخرج نفسه ( علي دعيم ) وكأنه هنا يريد ان يحيلنا الى عبثية ( يونسكو) في افول شخصية الاستاذ ، بعد ان يكشف في نهاية المطاف الدرامي عن جسد تكسوه ثياب فارهة لاستاذٍ لا يمتلك رأساً ! .
ليس ( المروّضُ ، والاستاذ ) في موضع الاداء التمثيلي باوفر حظاً ؛ فهو متخم ببدائية متراجعة ، وهو ليس باوفر حظاً من عينة الممثلين الذين تطغى عليهم همجية اللا تواصل فلا لغة تجمعهم بالمرة ، وما يجودون به همهمات واصوات وصراخ هو الحال نفسه الذي يترجمه اداء الممثل ( علي دعيم ).
ُيحتسب للمخرج تركيزه على تناسق الصورة ، وتشعبها بمستويات متعددة تدعم فكرة العرض لديه ، وتمنحه مقدرة التعبير دون اللجوء الى ديكور مادي ، و تحقيق سينوغرافيا رقمية تملاُ فضاء العرض ، ووضع ممثليه ضمن حدودها بانسجام ، ولذا نجد عمليات الانتقال من العالم الافتراضي الاول الى العالم المادي الذي يجسده ممثلو المستوى الثاني ، يمنح تلاحماً حيويا لتأكيد فكرة العرض ،
فالممثلة التي ترجمت لنا مشهد الايروس في المشهد الافتراضي عبر الشاشة ، تذهب الى تحقيق مستوى تمثيلي اخر لهذا المشهد ، في انزياحه من الافتراض الى الواقع ، عبر حركات تعبيرية تتموضع في المستوى الثاني المندمج مع الممثلين الذين يترجمون في ادائهم هيمنة العالم البدائي واللا نظام ، عبر اداء جمعي ايروسي راقص وبحركات تترجم الموقف عبر التلميح الدلالي ، لينتهي هذا المشهد التعبيري ، بظفر كل ممثل بقطعة من ملابسها .
ثم يكشف العالم الافتراضي في المستوى التمثيلي الاخر الذي تفصح عنه الشاشة في عمق المسرح عن ثناء وتكريم للمبعوثة من السلطة العليا لهولاء الهمجيين. بانها قد ادت مهمتها الاغوائية الاسقاطية بنجاح .
يعمد المخرج ايضا ان يزج قبل انتهاء العرض المسرحي بعالم مصغر ادق ، يلقي عبره الاضواء الكاشفة على فكرة الحيوانية ، والاستلاب الانساني ، فيعتمد قطعة ديكورية تمثل قفصاً زجاجياً كبيرا ، وضع فيه الممثلين ، وهم يعبرون عبر اداءهم عن صراع مع المكان الضيق الخانق الذي احاط بهم ، وكأنهم حيوانات جرباء ، وهو هنا يضاعف في تأكيد الهمجية والحيوانية التي يعبر عنها الممثلون بضرب جدران القفص الزجاجي الذي يكشف عنهم جميعا .
والمفارقة الاشد التي يحملها العرض المسرحي ، ان يكون في هذا القفص قد تم تعليق بذلات ، يخرج هؤلاء المتوحشون وهم يرتدونها .
ليكشف بعد ذلك عن اقتياد الممثل ( محمد هادي) الذي يمثل دور السلطة المتمركزة في العرض الى القفص الحيواني وهو مقيد ذليل .
الرسالة التي يفصح عنها العرض المسرحي ( المربع الأول)
لن تجد الانسان الا في جوهره وليست المظاهر سوى بضاعة لمن لم يخرجوا من صومعة البدائية .
وإن تبادل الادوار قائم ، ما دام لا فرق بين من هو عار ٍٍ ، ومن هو مرتدٍ لافخر الثياب .
فلا فارق سلوكي يميز بينهما !