د. حسين السلمان يكتب: “بنائية الحركة والصورة في المسرح المعاصر “
المسرح نيوز ـ العراق| حسين السلمان
ـ
قدمت فرقة (دوز تمسرح) المغربية مسرحية (صباح ومسا ) على المسرح الوطني ضمن عروض ايام مسرحية عراقية .تأليف غنام غنام وأخراج عبد الجبار خمران وتمثيل رجاء خرماز وتوفيق ازديو.
ضمن هذا الفضاء الذي يبدو عائما ، هامشيا ، ضبابيا تتصارع داخل فراغاته شخصيتان تحمل معاناتهما وأحباطاتهما وانكساراتهما .وفي ذات الوقت تعكس ذلك الضياع الذي تعيشانه في فراغ تدميري هائل لا يجدان فيه غير اجترار ذكريات متعبة كروحيهما المنشطرتين باتجاهات متعددة ضائعة ضمن طرق مظلمة ومعقدة بقدر ، أو أكثر، من الواقع الذي ينصهران فيه ، على الرغم من أن المكان بحقيقته هو مكان عام ويمكن أن يكون مكانا مكتظا بالبشر ، لكنه هنا دالة منحت العرض بعدا فكريا مهما للغاية .هنا يأخذ المكان دورا أساسا فاعلا في بنائية العرض مثلما تأخذ الشخصية دورها في النسق النصي والأخراجي .
هنا في هذا المكان الجاثم على روح الشخصيتين والضاغط عليهما من كل الجهات يعملان بأقصى طاقات الخلاص والأنعتاق عبر حركة تعبيرية يقدمها الجسد كعنصر احتجاجي يستمد فعله التأثيري من ذلك الوضع الانساني الكامن في داخل الجسدين لينتجا لنا خطابا فكريا ــ جماليا منطلقا من عناصر الرقص ، الأغنية ، الموسيقى ، وهي عناصر فاعلة في البناء الدرامي المسرحي .
يكمن في دواخل الشخصيتين بوح وجودي ، ربما يكون بوحا عاما ، لكنه يظل تعبيرا عن حالة أختناق كبيرة تعيشها الشخصية ضمن واقع تراه فاسدا ، قاتما وقاتلا في أغلب الأحيان ، وهذه حالة تفاعل معها النص بشكل عام دون أن يتوقف عندها كثيرا ،وهي حالة وضعية يمكن أن تأخذ موقعا أكبر بحكم الوضع العربي الراهن ، والذي كان متواجدا وحاضرا ضمن السياق الدرامي للنص .
أن هذه الأفكار تجلت بواسطة الجسد أولا واللغة ثانيا ، حيث ذهب المخرج في رؤيته الأخراجية الى توظيف الجسد بأقصى ما يمتلك من قدرات فكرية وجمالية . ولهذا جاءت كل حركة عبارة عن جملة لغوية تترابط وتتداخل ، وفي أحيان ، تتقاطع لتصنع صورة تعبيرية ، حتى وأن جاءت تجريدية في المحتوى والشكل ، تمنح متن النص حركة أضافية في التعبير الجسدي . هنا يتوارد الى الذهن ما قدمه هارولد بنتر عن عبثية الواقع وأفرازات النظام الاقتصادي والاجتماعي الانكليزي أنذاك ، وهي الموضوعة التي شغلت الفكرة الأساس للمسرحية ، ألا أنها ظلت على هامش الأحداث الكبرى للمسرحية .
هنا كما يتضح وضمن الرؤية الاخراجية التي أتخذت المسرحية شكلا ثابتا ، لكنها اعتمدت على حالتين مهمتين هما :
1ــ بنائية الحركة وتشمل (حركة الممثل (بما فيها الرقص) حركة النسق النصي ،الأفكار والأراء ، الحركة الصوتية وتشمل الموسيقى والأغنية.
2 ــ بنائية الصورة وتشمل التكوين والتشكيل البصري ( المتغير طبقا لحركة النسق النصي)، واللون الذي أصبح هنا حكاية لها من الخواص والسمات ما لبقية الحكايات الأخرى الفاعلة في العرض المسرحي. وهوــ أي اللون ــ يعد حالة تصاعدية بدأت من زي طبيعي( تجسد ضمن أزياء الممثلة ) لينتقل مع التصاعد الدرامي وتشابك الأحداث الى رموز وأيحاءات فكرية متمثلة بروابط اجتماعية ما بين الشخصيتين وتصاعدت بوتائر ذات أبعاد فكرية لتحيط وتحاصر كل الموجودات داخل الحياة العامة للشخصيتين.و أخيرا تأتي الأضاءة التي تداخلت مع بقية العناصر لتمنح المعنى العام للمسرحية متعة وتشويقا أضافيين.
هذه البنائيات جاءت عمودية في مجمل الأنساق المتداخلة والمتشابكة.هذا ما خلق تفاعلا كبيرا بين معادلتي العرض المسرحي .
فالمتلقي هنا لا يتماثل تماثلا كاملا ، كما أنه لا يمنح نفسه للشخصية لتقوم بأداء الفعل والتفكير نيابة عنه ، هو الآن يقظ ، يحتفظ بمشاعره وأحاسيسه وتفكيره .ففي تلك البنائيات ما بين المتلقي الذي ظل واعيا ،يدرك جليا أنه أمام واقع يعرض عليه ، لكنه من جانب آخر كان مشاركا فاعلا يتمتع بقدر كبير من حرية التفكير وما بين الشفرات المتتالية التي يدفع بها النص بشكل متواصل , فالحكي يعتمد على طريقة تراتيبية حيث يتم بناء حكاية ومن ثم بناء حكاية أخرى فوق الحكاية السابقة عبر طريقة الاستذكار (الفلاش باك ) والذي آراه جاء دقيقا ومفيدا للحكي لأنه شكل من أشكال التشتت لذاكرة الشخصيتين وهامش من هوامش الحياة التي يكتنفها الماضي الزاخر بالكثير من المفاجئات من دون أن تخضع لأي حركة في الزمن ، فالزمن هنا سائب يتطابق تماما مع الوضع الاجتماعي بكامل تعسفه وقهره الذي تعيشه الشخصيتين ، بمعنى عدم وجود زمن حقيقي للحدث ولا زمن لذات العرض ، بل هناك أزمنه تتداخل ضمن نسق حكائي ينتقل بنا حرا وفقا لمتطلبات الرؤية الفكرية التي كانت تضع لها التصميم المعياري من خلال الرؤية الاخراجية وما تحتاجه من حركة صورية تخدم أيقاعية العرض الذي اعد بدقة متناهية ، وهي معالجة من رحم النسق النصي على الرغم من أنها اقرب ما تكون الى ثانوية من حيث مركز الأهمية ، وهذا وليد جديد جاء بحكم فاعلية الأخراج والمهارة الفائقة للتمثيل ( خاصة فيما يتعلق بالجسد حينما يكون أنموذجا تعبيريا يمتلك خواصه ومعايره وأسسه ).
لكن هنا لا بد من ذكر دلالات وشفرات النص التي جاءت على شكل أيحاءات سيطر على توصيلها الى المتلقي عبر منظومة الجسد الذي قدم متعة جمالية وفكرية .كما اعتمدت المسرحية في بنائيتها على المشهد القصير (سواء جاء ذلك عبر النسق النصي أو النسق الأخراجي ) وهذه الخاصية مفيدة للممثل حيث ساعدته كثيرا في استرداد نشاطه وأخذه قسطا من الراحة لحركة أو مشهد آخر يتطلب منه جهدا خاصا من دون أن نراه يلهث متعبا ويفقد السيطرة على طريقة ألقاء الحوار بطريقة جيدة وكذلك الحال مع الحركة التي تحتاج الى قدر كبيرمن التحضير والاستعداد لأدائها .
هي مسرحية صعبة لمشاهد صعب !
فإلى الجهد الكبير للشخصيات التي قدّمت لنا غاية ما يمكن ان يصل اليه التعبير الجسدي فلم تتكاسل في هذا الامر ، نجِدُ موهبة الحضور او لُبْسُ الشخصية بشكل ممتاز من قبل الممثلين .
قلقُ الوجود هو عنوان هذه المسرحيةبالنسبة لي ، وسؤال المصير الذي هو في كل يوم يؤرقنا ، والسديمية المُموَّهَة التي تشكل عنواناً للرؤيا المتسلطة على حياتنا ، في اشكال المعاناة الانسانية التي تحيطنا في كل شيء : الظُّلم الفقر ، المرض ، التخلف ، الحروب ، انهيار القيم ، رفض الآخر وغيرها وغيرها مما يسجننا في احوال التشظي والاهم من كل ذلك غربة الذات . لقد قدم لنا المؤلف فصلاً مهماً جداً من غربة الذات ( العربية على الاقل ) فيما دار بين الممثلَين القديرَين من حوار درامي ، اذ نجد أنفسنا غارقين في الانكماش والتوحد ، بعيدين كل البعد عما يحضن آمالنا ويداوي آلامنا ، منفيين كل منا عن الآخر في تجسيد لحال الذات العربية اليوم .
والى ذلك نجح الثنائي غنام / خمران في اقامة علاقة نفسية موفَّقة في ربط الجمهور بالممثل . فكنا نتعب كلما تعب ذلك الممثل ونحزن لحزنه ونفرح لفرحه . أما في النص فلا أخفي رأيي المتواضع أنه بحاجة لأن نقرأهُ قبل مشاهدة العرض المسرحي . لماذا ؟ لأن في بعض جُمَلهِ التي أطلقها الممثلان رموزاً دلالية معبّرة جداً تحتاج الوقوف عندها واكتناه مغزاها برهةً ما ، وهو ما لا يسمح به الوقت بسبب العرض المتواصل ، مما يفوّتُ علينا متابعة النص والمشاهد اللاحقة .
وأحسبُ أن الاستاذين المؤلف والمخرج رُبَّما ( أقول ربّما ولا اجزم ) حاولا استيحاء بعض نظرية الروسي الفذّ ” ستانيسلافسكي ” التي تقوم على الثالوث الرائع جداً بنظري في عملهم المسرحي الا وهو الشعور ، العقل ، الارادة . وهو الثالوث الذي يسير بالتوازي في ثنايا الحدث المسرحي وصولاً الى ما يسميه ستانيسلافسكي ” المهمة العليا ” .
هي كوميديا سوداء واقعية ، تحتاجُ لاكثر مما نكتب في هذه العُجالة من البحث والتأويل ، خاصةً اذا ما توفَّرَ النص بين يدينا وقراءته.