د. خالد عاشور يكتب: جودر.. العلاج بالحكي والخيال والفن.
المسرح نيوز ـ القاهرة| سينما وتليفزيون
ـ
د. خالد عاشور
كاتب وناقد مصري
من بداية المسلسل ومن أول كادر كانت لدى صناع مسلسل جودر خصوصية ان يكون العمل اصيلاً في مصريته مختلفاً عن اي تناول سابق لحكايات ألف ليلة وليلة الشهيرة في جغرافية الحكاية ومصريتها..
صحيح أننا عشقنا حكايات الف ليلة وليلة في المسلسل الأذاعي الأشهر والذي استمر لـ 26 عام بصوت “زوزو نبيل” الحالم و”عبد الرحيم الزرقاني” القوي وكتابة القدير “طاهر ابو فاشا”.. لم يتجاوز أحد حاجز هذا المسلسل الذي تربينا عليه رغم المحاولات الكثيرة التي تناولت حكايات “ألف ليلة وليلة”..
لكن ما فعله مسلسل “جودر” هو قدرته على تجاوز الخيال المسموع بجسر من الخيال المرئي الممتزج بواقع جميل به كثير من ذكاء الصنعة وحرفيتها وابداعها في دلالات النص المكتوب أولاً لدى مؤلفه الكاتب الكبير “أنور عبد المغيث” ثم ترجمتها الى دلالات وسميولوجيا الصورة وكونها لوحات فنية مرسومة والتي ابدع فيها المخرج “اسلام خيري” ومدير التصوير “تيمور تيمور” وباقي فريق العمل المتميز في كل ركن من اركانه.
دلالات النص.. ودلالات الصورة.. ورائعة الجغرودراما في جودر.
أولاً: دلالات المصرية الخالصة.
في كل حلقة يتعمد المخرج ومدير التصوير ومهندس الإضاءة والديكور والملابس على ان تقع الكاميرا على ما يؤكد مصرية الحكاية دون صخب او اعلان صارخ.. فقط يترك الكاميرا كميكروسكوب راصد لمواطن المصرية في كل ما تراه عين المتلقي تاركاً للمشاهد متعة المشاهدة ليتعلق بالعمل ويراه مرة أخرى..
المرة الأولى يكون مهتما ًبسحر الصورة ونقائها وتحولها الى لوحات فنية تشبه ما رسمه رامبرانت او دافنشي دون مبالغة.. في المرة الثانية سيري بواطن الدلالات التي اشار اليها بنعومة الساحر في خفته وحركاته.. فمثلا في بداية الحلقة 12 وفي المشهد الأفتتاحي تجلس “شهريار” على مقعد بجوار اختها وحولها الجواري.. الكرسي في خلفيته نقش “جعران” مصري.. وهو نوع من الخنافس تسمى “خنفساء الروث” و
هي واحدة من اقوي الكائنات الصغيرة على وجه الأرض لأنها قادرة على جمع كمية من الروث ودحرجتها امامها بكل سهولة.. هذه الخنفساء عند المصريين القدماء رمز الخير والخصوبة والقوة.. دلالة على مصرية الحدث والمكان.. ثم اسقاط على قوة الأنثى بداخل شهرزاد “الفنانة ياسمين رئيس” ودفعها للملك “شهريار” الفنان “ياسر جلال” الى محبتها وخير للمملكة ذاتها بإيقاف قتل النساء كل ليلة حتى وهي تكيد لتودد “الفنانة سامية الطرابلسي” محظية الملك.. فهي تكيد لها بمكر ناعم بلا عنف فيه أو ابتذال.
نذهب الى دلالة مصرية أخرى في أصالة العمل كدراما خيالية من الملابس.. فملابس الفنان “ياسر جلال” في شخصية “جودر” كفلاح مصري بسيط طيب يبدو ساذجاً ولكنه ليس غبياً.. عمامة مصرية تشبه عمامة الفلاحين في محافظات الدلتا والصعيد.. فلا هي بالطويلة الرفيعة كعمامات اهل فارس.. ولا هي مستطيلة كطرابيش الأتراك.. ولا هي منبعجة لتدل الى طائفة دينية بعينها…
ثم تأتي ملابسه الكتان والسديري القديم لدى فلاحين مصر وقميصه الكتان كأول قماش مصري استخدمه المصري القديم مع تحكم كامل لدى الفنان ياسر جلال في تقاسيم وجهه وجسمه كاستاذ تشريح يشرح لطلاب الطب عضلات الوجه وكيف تعمل وتعبر ليستخدمها في التعبير عن ابعاده الثلاث كممثل “البعد النفسي الداخلي..
وكذلك البعد الخارجي الظاهر لجسمه ووجهه.. والبعد الفني للشخصية” يفعل ياسر جلال ومعه فريق العمل ما فعله “رامبرانت في لوحته العظيمة “درس التشريح مع الدكتور تولب”.. هذه ادوات الفنان التي يجب ان يدركها ويعمل على اظهارها بعيدا عن ممثلي التخشب والتحجر الداخلي والخارجي والفني وهي ولادة جديدة للفنان ياسر جلال نفسه ولكل من شاركه المسلسل.
الشمعيين.. اسقاطات دينية وتاريخية ذكية دون مباشرة.
الفن لا يشرح.. الفن وجهة نظر.. وكل متلقي يراه من منظوره ومن ثقافته ومن بصيرته.. ولكي نصل الى البصيرة دون مبالغة في سرد صراع الخلافات الدينية والعدائية لأعداء تاريخيين بعينهم يتربصون بمصر والعرب ويحتلون جزءاً عزيزاً من وطننا العربي “فلسطين” جاء اسقاط الشمعيين..
وللغرابة ان الشمعيين اسم شديد التكثيف والدلالة.. فهم مجرد شمعيين من “الشمع” يكره الضوء ويعيش في المؤمرات والخبث والمكر والدهاء.. شمعيين سيذوبون مهما طال صراعهم مع الخير المتمثل في جودر وعالمه.. عالم الشمعيين دائما تكون الأضاءة فيه معتمدة على النار وكثير من الظلمة..
وهي مفارقة اخرى لها دلالة.. فهم سيحرقون انفسهم بانفسهم.. حتى اللوحات في عالم الشمعيين لها اسقاطات كهنوتية ودينية دون افصاح مع ان الأسم نفسه ذكر في التوراة.. وهذا ذكاء يحسب للسناريو والأخراج والديكور والأضاءة.. قل ما تريد.. دون ان تتكلم.. فالصورة وحدها تتكلم دون مباشرة.
ثم نأتي الى دلالت الأسماء كما في “شواهي” فهي الشهوة.. الشهوة في التربص والأنتقام والغدر والخيانة.. أما اخوتها الشمعيين الفنانين “مجدي فكري وعابد عناني ومحمد على رزق” فوشم العنكبوت دلالة اشد تعبيراً واسقاطاً وذكاءاً.. العنكبوت هو صاحب اوهن البيوت..
والمفارقة ان اخوتها الذكور فقط هم من رسم على وجوههم وشم العنكبوت.. والأنثى في عالم العنكبوت تقتل الذكر بعد ان تنال غرضها منه ويكون عشائها الأخير قبل ان تعتكف لحراسة بيضها.. عناكب ستموت قريباً مهما طال ازمن.. وذكر العنكبوت لا ينسج خيوطاً لأن الأنثى وحدها هي التي تنسج.. وهذا ما كان ذكيا في شخصية “شواهي” الفنانة “نور اللبنانية”.. فلا يوجد وشم “عنكبوت” على وجهها لأنها هي في الحقيقة انثى العنكبوت التي تجذب اخوتها الذكور وتلقي بهم الى التهلكة فيما بعد في صراعها مع عوالم جودر والمغاربة والنحاسيين.
ثم نذهب الى رحلة جودر”ياسر جلال” مع الشيخ عبد الأحد الفنان “أحمد بدير” ورحلتهما من بحيرة قارون الى المغرب.. بحيرة قارون مصرية وهي بداية الرحلة..
ثم يقف الكادر على البغلتين.. وهما في الأصل ماردين.. بغلة منهما تقف على ثلاثة ارجل تعبيرا عن الأجهاد ليبين المسافة التي قطعتها دون ان يشعر جودر والتي يمتطيها الشيخ “عبد الأحد” حامل العلم والنور.. أما جودر فبغلته هي الأخرى يبدو عليها الأجهاد في وقفتها وابعاد قدميها الخلفيتين عن بعض.. ثم “كلوز” على البغلتين ليبدو على اعينهم الأجهاد والغرابة وتصديق انهما ماردين.
وحين نذهب الى اسقاط أخر وهو البومة التي ظهرت لجودر والشيخ العارف “عبد الأحد” واختيار نوع من البوم “ذات القرون” الأتي من الشمال والمستوطن مصر فيما بعد.. هذا النوع من البوم المقرن “ذو القرنين” يسمى عند العامة من المصريين بـ “أم قويق”.. وهي نذير شؤم وحذر..
وقبل هذه اللقطة كانت لقطة كاميرا المخرج “اسلام خيري من زاوية ” عين الطائر” كأشارة الى كونها “داهش” الجني الذي كلف بمراقبة “جودر” و”الشيخ عبد الأحد” جني لا يخيفك ولا يرعبك بقدر ما به من بساطة وخفة وسذاجة للفنان الشاب “على صبحي”..
ذلك الجني الذي لخص خلاف الأديان وتصارعها فيما بينها في حوراه الرشيق والمعبر مع جودر.. حتى ان المسلسل كان بديعاً في تميز ادوار نجوم شاركوا في اعمال أخرى كتب لهم المسلسل ولادة جديدة مثل القدير “رشوان توفيق وعبد العزيز مخيون و أحمد بدير ووفاء عامر ومحمود البزاوي” وحتى الذين غابوا لسنوات اعادهم المسلسل وكأن غياباً لم يطالهم مثل الفنانة “هالة أنور” والفنانة ” مُهجة عبد الرحمن”.. وابطال حارة سعد السعود “جيهان الشماشرجي ووليد فواز و محمد عبد العظيم وياسر الطوبجي وأحمد كشك” .
في كل كادر من كادرات المسلسل يظهر ابداع فريق عمل جودر بداية من دلالات النص والسيناريو ثم دلالات الصورة والإخراج لتأكيد مصرية العمل في الأكسسوار لدى جميع الشخصيات والإضاءة في الأماكن التي يتواجد فيها الأبطال سواء الفخامة والسلطة في عالم الملك شهريار والمحظية “تودد/ سامية الطرابلسي” والوزير قمر الزمان/ محمد التاجي و”مسرور السياف/ أحمد فتحي” او “جودر/ ياسر جلال” أو حتى مدينة النحاس وعالم الشمعيين..
وللغرابة ان هناك حالة طبية يعرفها الأطباء وهي الأطفال الشمعيين وهم الأطفال الذين يولدون بوجه يكسوه جلد كثيف يشبه الشمع لا يسطيعون تحريك عضلات وجههم وطيلة حياتهم يظلون بعيداً عن الضوء والحرارة وفي جو يلزمه رطوبة لا تعجل من موتهم السريع.. هكذا كان عالم الشمعيين مهما كان شرهم وشر ما يدبرون..
ويبقى جودر عملا مصريا متميزاً بابداعة في الكتابة والأخراج والإضاءة والديكور والملابس والتمثيل.. والأهم أفتخارنا كمصريين وعرب باننا صنعنا عملاً ابداعياً سيتعلم منه الجميع كيف يكون الأبداع المنافس للغرب بأصالته وجودته في “جودر”.