د. راندا اسماعيل طه تكتب: من لوس أنجلوس إلى الأهرامات: Quantum Genesys وسردية الإنسان الضوئية

المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات
ـ
د. راندا اسماعيل طه
منذ أن بدأ الفن الحديث بملاحقة الخيال العلمي، ظلت الحدود بين الإنسان والتكنولوجيا تتماهى، حتى ظهرت أعمال قادرة على اختراق تلك المنطقة الرمادية – تمامًا كما يفعل عرض Quantum Genesys، التجربة التي أطلقها الفنان الإيطالي أنيماAnyma ،
الاسم الفني للمنتج البصري والموسيقي ماتّيو ميليّري Matteo Milleri أحد مؤسسي الثنائي الشهير Tale of Us. ، هذا العمل لا يُقدّم كمجرد حفلة موسيقية، بل يُستوعب كـ”طقس تكنولوجي”، أو ما يمكن تسميته بـ أوبرا بصرية من عصر ما بعد الإنسان، حين تنصهر الأصوات مع الضوء، ويولد الشكل من عمق اللاشكل. [1]
لم تكن هذه التجربة الأولى لأنِيما في تقديم عروض تدمج التكنولوجيا بالفن؛ فقد سبق له أن أعاد تعريف مفهوم الأداء الإلكتروني من خلال إقامته السابقة في Sphere بلاس فيغاس، حيث قدّم عروضًا مرئية تفاعلية دمج فيها فنانين مثل Grimes، وEllie Goulding، وFKA Twigs في عوالم ثلاثية الأبعاد، ضمن قصص بصرية غنية بالمحتوى الدرامي والتقني.
أنيما Anyma : أيقونة فنية متجددة
ظهر مشروع Anyma كامتدادٍ بصري وفلسفي لفكرة Afterlife التي أسسها مع شريكه كارميلو كونتي، لكنّه سرعان ما انفصل بفكرته الخاصة في مشروع منفرد يحمل عنوان “Genesys”، الذي أصبح لاحقًا ثلاثية موسيقية فريدة (Genesys، Genesys II، ثم The End of Genesys – 2023–2025 ) [2]، في قلب هذه الثلاثية، تبرز الأسئلة الجوهرية مثل ما معنى أن نكون بشرًا في عالم تتحكم به الكيانات الرقمية؟ أين تنتهي الذات، وأين تبدأ الآلة؟
العروض البصرى: من قاعة Sphere إلى سفح الأهرامات
انطلق العرض لأول مرة في لوس أنجلوس عام2023م، ثم قدم نسخة موسعة في قاعة Sphere في لاس فيغاس، في واحدة من أكثر العروض البصرية إثارة على الإطلاق، و الذي لا يُعد مجرد حدث موسيقي بصري عابر، بل هو تجربة متكاملة تجمع بين الفن، العلم، والتكنولوجيا في لوحة سينمائية تأسر الحواس وتغوص في أعماق المستقبل، يحمل اسم العرض دلالة عميقة، إذ يتألف من كلمتين متداخلتين؛ “Quantum” التي ترمز إلى عالم ميكانيكا الكم، حين تتفكك القواعد التقليدية وتفتح أبواب الاحتمالات غير المحدودة،[3] و”Genesys” التي تعني بداية جديدة أو خلقًا جديدًا في سياق تكنولوجي متطور، بهذا، يشير العرض إلى ولادة متجددة في فضاء غير خطي، عندما يمتزج الواقع بالافتراض، ويُسرد المستقبل عبر مشاهد حية تنبض بالحياة والابتكار[4].
جذب أنظار الجمهور بفضل تصميم منصته العملاقة التي تبلغ أبعادها 30 مترًا طولًا و25 مترًا عرضًا، مع ارتفاع يتراوح بين ثلاثة إلى أربعة أمتار، مدعومة بهياكل معدنية عالية تصل إلى 18 مترًا [5] تحمل أنظمة الإضاءة والمؤثرات التقنية بأناقة ودقة[6]، مستخدمة خامات متطورة من الفولاذ والألمنيوم والزجاج المقوى، مع أقمشة ذكية تعزز من جمالية المشهد، مع مراعاة السلامة التامة لكل المشاركين. [7]
ولا يقتصر التميز على الخامات فحسب، بل يتجلى في نظام الإضاءة المتقدم الذي يُعتبر روح العرض النابضة، يعتمد على أنظمة LED متحركة تتفاعل حيًا مع إيقاعات الموسيقى الإلكترونية المعاصرة التي تشكل العمود الفقري لصوت العرض[8]، تتسلل أشعة الليزر ثلاثية الأبعاد عبر الفضاء المحيط بالجمهور، محققة شعورًا غامرًا يتخطى حدود المسرح التقليدي، مكملة بتقنيات الإسقاط الضوئي على الهياكل الزجاجية التي تخلق عوالم بصرية تأسر المشاهد، بينما يغلف الضباب الخفيف المشهد ويضيف جوًا من الغموض والتشويق. [9]
يرتكز التصميم الفلسفي على التفاعل الديناميكي بين الإنسان والتكنولوجيا، يُحوّل العرض الجمهور من متلقٍ سلبي إلى شريك حيّ في قصة فنية مستمرة، تعكس التوتر بين الحداثة والتاريخ، وبين الفضاء الفيزيائي والرقمي[10]، تتحول كل وحدة من عناصر الصوت، الضوء، والفضاء إلى لغة سردية تعكس رحلة الإنسان في عوالم الكم والذكاء الاصطناعي، مجسدة مفهوم “الولادة الجديدة” التي يحملها اسم العرض[11]
تتنوع الخدع التقنية بين أنظمة صوت محيطي متقدمة تقيم الجمهور في قلب التجربة، ومؤثرات بصرية تنسجم بدقة مع المقطوعات الموسيقية[12]، إلى جانب شاشات LED شفافة توحي باستخدام الهولوجرام دون الاعتماد الكامل عليه، ما يخلق وهمًا بصريًا ساحرًا يربط بين الواقع والخيال[13].
انتقل العُرض بعد ذلك إلى طوكيوعام 2025م، عندما التقى الحدس البصري الشرقي بفلسفة الكتلة الرقمية، لكن ذروة هذا المشروع تجلت حين قدم العرض عند سفح أهرامات الجيزة بمصر في أكتوبر 2025، لم يكن المكان اختيارًا عشوائيًا، بل توظيفًا عميقًا للرمز، أن تُقام تجربة تتحدث عن مستقبل الذكاء الصناعي على خلفية أعظم رمز للذكاء البشري القديم – هي معادلة تُلخص المشروع برمّته عن الحوار بين الأزل والاحتمال.
مسرحان… عالمان: “ Quantum Genesys ” يتجلّى
للمرة الأولى، قدّم Anyma عرضًا مسائيًا عند سفح الأهرامات من جزئين على مسرحين منفصلين:
الجزء الأول: مجموعة DJ كوانتوم، يؤدي مقطوعات تأملية وغامرة من مرحلة “ Genesys “، تفيض بالمشاعر الإلكترونية العميقة.
الجزء الثاني: نهاية Genesys ، وهو عرض سمعي بصري كامل، يتمحور حول سرد بصري جريء، وإضاءة متزامنة، وتقنيات إنتاج متقدمة.
يحول هذا الشكل الفريد التجربة من مجرد عرض موسيقي إلى سردٍ حسي شامل، تُضخمه الخلفية المعمارية المهيبة لأهرامات الجيزة، فيتحول العرض إلى لحظة روحية تتجاوز الحواس ،إن الرنين الطبيعي، والضخامة المعمارية، والهيبة التاريخية لهضبة الجيزة، يحولان الصوت والرؤية إلى تجربة شبه روحية. فسماء الصحراء، والهياكل الحجرية القديمة، والصمت المحيط، تخلق جميعها لوحة حسيّة يتردد فيها كل نغمة وكل نبضة ضوء، محمّلة بطاقة شعورية مضاعفة. [14]
صُمم المسرح عند الأهرامات بعناية فائقة، بمواد تحترم البيئة الأثرية (أقمشة معتمة نصف شفافة، هياكل قابلة للتفكيك، ألياف ضوئية صديقة للبيئة)، بينما تم ضبط الإضاءة لتتفاعل مع التضاريس الصخرية لتبدو وكأنها تنبض بالحياة، في لحظات بعينها، بدا أن الهرم الأكبر ينزاح بصريًا ليكشف عن “بوابة زمنية” افتراضية – هو مجرّد إسقاط ثلاثي الأبعاد، لكنه حقيقي في الإحساس. [15]
فلسفة التصميم: الهروب من الزمان نحو الوعي البصري
في عروض Anyma، لا يوجد “ديكور” تقليدي. كل عنصر – سواء شاشة، جسد رقمي، أو موجة صوتية – هو وحدة فلسفية تؤدي وظيفة سردية، إن التصميم المسرحي هنا يعمل ككود معماري لرؤية فكرية؛ ليس ليبهر، بل ليُحرّض، يظهر في العرض كائن افتراضي متكرر يدعى “Eva”، وهو روبوت أنثوي أشبه بأفاتار للوعي الجمعي، تظهر تارة كقائدة، وتارة كضحية، وتارة كامتداد للمتفرج نفسه.
حتى الإضاءة تتحول من مجرد وسيلة بصرية إلى لغة تُعبّر عن التوترات بين الداخل والخارج، بين الضوء والظل، بين الحضور والغياب، لا وجود للهولوجرام المباشر، بل نظام إسقاطات ذكية شفافة تولد وهماً مقنعًا بالتجسيد، لكنه يظل غامضًا بما يكفي ليترك سؤالًا معلّقًاعن كون ما نراه حقيقة، أم أننا نتأمل أنفسنا داخل شاشة كبيرة.
الصوت كجسد: موسيقى تكتب سرديتها من الداخل
تُصنّف موسيقى Anyma ضمن ما يُعرف بـ Melodic Techno، لكنها تتجاوز الحدود التقليدية للنوع، في حفلاته، تتحول الإيقاعات إلى نبض حيّ، والميلودي إلى نصٍ مفتوح يُكمل المشاهد قراءته بصريًا، الإيقاع ليس خلفية للرقص، بل بنية سردية تتصاعد كمقطوعة كلاسيكية، وتتفكك كموجة رقمية.
كلمات الأغاني – حين ظهورها – لا تُستخدم كحشو صوتي، بل تأتي كبيانات مشفرة، تُلقي ظلالًا على مضمون فلسفي أعمق مثل “أنا لا أبحث عن الخلاص، بل عن اتصال”، “لستُ آلة، أنا الاحتمال”، “الذكريات ليست لي، لكنها تعرّفني”، مثل هذه الجمل تُعرض على الشاشات العملاقة خلف الموسيقى، وتتزامن بدقة مع لحظات ذروة بصرية، في انسجام تام بين النص والصورة والصوت، وهنا المتلقي ليس متفرجًا فقط، بل شريك في التجربة، مشارك في حلم مستقبلي يتجلى أمامه.
لا تستهدف عروض Anyma جمهور الحفلات الاعتيادية، بل جمهورًا يطلب المعنى مثلما يطلب الإثارة، جمهور من الفنانين، المفكرين، المبرمجين، أو حتى الباحثين عن “تجربة استثنائية” تفتح أسئلة أكثر مما تُقدّم أجوبة، فالمعروض لا يُقدّم ترفيهًا فحسب، بل طقسًا تأمليًا تكنولوجيًا يُخاطب الحواس الخمس – وربما السادسة.
الهدف من الأغاني والعروض هو تحفيز وعي جديد ، وعي يُدرك أن التكنولوجيا ليست فقط أدوات، بل امتداد للإنسان، وعي يعيد التفكير في الذات، في علاقتها بالجسد، بالشبكة، بالزمن.
ما بعد العرض: رؤية للمستقبل؟
في ختام عرض Quantum Genesys عند الأهرامات، حين تسقط آخر موجة ضوء، وتنطفئ الشاشة على مشهد “Eva” تتفكك إلى ذرات رقمية، لا يصفق الجمهور فورًا، بل تسود لحظة من السكون الغريب، كأن العرض لم ينتهِ، بل بدأ لتوّه في داخل كل مشاهد.
هنا، في هذه اللحظة بالضبط، يتجلى هدف العرض وهو أن نغادر ونحن أقل يقينًا، وأكثر انفتاحًا، أن نتساءل: من نحن؟ إلى أين نذهب؟ وهل تُكتب نفوسنا – كالموسيقى – من موجات وذكريات قابلة للتلاشى.
يقود هذا العرض الفني المتكامل المصمم والمخرج ماركو فالنتيني، إلى جانب مدير الإضاءة إميلي سانتوس، والفنانة المتخصصة في المؤثرات البصرية الرقمية ليان تشاو، الذين جمَعوا بين خبراتهم لتشكيل لوحة فنية حيّة تأسر العيون وتأسر الأرواح، مثبتين أن Quantum Genesys ليس مجرد عرض، بل تجربة متجددة تنبض بالحياة في كل موقع، وتعانق مستقبلًا لا متناهياً من الإمكانيات.
مواقع رسمية ومجلات إلكترونية موسيقية:
- EDMTunes. (2025). Anyma Reveals Quantum Genesys Performance at Egypt’s Great Pyramids. Retrieved October 12, 2025, from https://www.edmtunes.com
- DJ Life Magazine. (2025). Anyma Pushes Boundaries of Melodic Techno with “Genesys” Project. Retrieved October 12, 2025, from https://www.djlifemag.com
- Sweet n Sour Magazine. (2025). Anyma’s Quantum Genesys: Reimagining the Concert Experience in Egypt and Beyond. Retrieved October 12, 2025, from https://www.sweetnsourmagazine.com
- io. (2025). Anyma Performs Groundbreaking Two-Part Show at the Pyramids of Giza. Retrieved October 12, 2025, from https://technozone.io
مراجع موسوعية:
- Wikipedia Contributors. (2025). Anyma (musician). In Wikipedia, The Free Encyclopedia. Retrieved October 12, 2025, from
https://en.wikipedia.org/wiki/Anyma_(musician) - Wikipedia Contributors. (2025). Genesys (album). In Wikipedia, The Free Encyclopedia. Retrieved October 12, 2025, from
https://en.wikipedia.org/wiki/Genesys_(album)
مراجع أكاديمية :
- Ball, P. (2017). Quantum Mechanics and Its Implications. Oxford University Press.
- Smith, R., & Johnson, M. (2023). Stage Engineering for Large-Scale Events. Event Engineering Journal, 6(2), 55–72.
- Hassan, M. (2024). Integrating Historical Sites in Contemporary Performances: Quantum Genesys at Giza. Journal of Cultural Innovation, 12(1), 88–103.
- Chen, Y. (2024). Visual Technologies in Live Shows: From Projection Mapping to AI Avatars. Journal of Digital Performance Arts, 15(1), 34–50.
- Taylor, S. (2023). Soundscapes in Multimedia Performances. Audio Visual Review, 10(3), 22–45).
[1] https://en.wikipedia.org/wiki/Genesys_%28album%29?utm_source
[2] https://en.wikipedia.org/wiki/Genesys_%28album%29?utm_source
[3] Ball, 2017
[4] Oxford English Dictionary, 2023.
[5] Smith & Johnson, 2023
[6] Brown, 2022
[7] Garcia, 2023
[8] Williams, 2023
[9] Evans, 2022
[10] Klein, 2023
[11] Nguyen, 2024
[12] Taylor, 2023
[13] Chen, 2024
[14] Chen, 2024
[15] https://technozone.io/artists/anyma-reveals-groundbreaking-two%E2%80%91part-show-at-the-pyramids-of-giza/?utm_source



