د.رضا عبد الرحيم يكتب: استدعاء الشخصيات التراثية فى مينودراما الذئب التائه للكاتب أحمد سراج
المسرج نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
د. رضا عبد الرحيم
قراءة فى نصوص مسرحية لكتاب أحمد سراج “الذئب التائه” الحائز على جائزة محمد سلماوى للنص المسرحى التى ينظمها اتحاد كتاب مصر لعام 2022م،ويضم الكتاب أربعة نصوص مسرحية (ثلاثة نصوص مينودراما –ومسرحية متعددة الشخصيات)
– حاول الباحثون والمنظرون إعطاء تفسير أو تعريف لفن “المينودراما” ،فالكثير اعتمد على المعنى الحرفى لأصل كلمة مونودراما ،وهى كلمة يونانية تنقسم إلى Mono وتعنى الوحدة و Drama وتعنى الفعل ،ومن هنا أستقر التعريف بمسرحية الممثل الواحد ،الذى يقوم بدوره بإيصال رسالة المسرحية ودلالاتها جنبا إلى جنب مع العناصر المسرحية الأخرى ،ولكن رغم ذلك فقد اختلف الدلالات الرامية والمسرحية فى تحديد وتعريف وشرح المصطلح .رغم أننا نجد اتفاقا عاما فى النقاط الأساسية .
وتحدد الأستاذة الدكتورة نهاد صليحة ملامح هذا الفن فى النقاط التالية:التركيز على الممثل الواحد ،الذى يحتل مساحة الخشبة،والذى يقدم مونولوغات ساخرة،كما أنه يتقمص إدوارا عديدة،يحاول الممثل أن يقنع المتفرجين بعبقريتخ التمثيلية فى غياب أى تحد أو مقارنة. الزمن فى مسرح المونودراما هو زمن نفسى”لا يتقيد بلحطة تاريخية معينه لها التزاماتها الملحة عن طريق الفعل ،فالفعل يتطلب من يقع عليه الفعل فى اطار من التوتر والمقارنة .
يتمتع هذا اللون المسرحى كشكل فنى بالكثافة الشعورية الشديدة النابعة من تركيز الحدث الدرامى على شخصية واحدة تلح على وجدان المتفرج طول العرض ،وربما كانت هذه الكثافة الشعورية أحد عوامل الجذب الرئيسية بها.ترتكز المونودراما على الجانب النفسى للممثل والشخصيات التى يتقمصها من خلال تشريح الجانب السيكولوجى للشخصيات التمثيلية فالمونودراما بطبيعتها تذهب نحو الدراسة النفسية ،فهناك رحلة داخل أعماق النفس .وهو نوع من الإبداع الدرامى يستعرض مهارة التمثيل ،وفى نفس الوقت يقدم متعه فنية منفردة،
فالشخصية تكون محور الأحداث الرئيسية ،وتتطرق إلى باقى الأحداث بمونولوجات تعبر عن الوجدان الداخلى .ينظر إلى هذا الفن المسرحى بأنه سهل التأليف مقارنة بالمسرحية المتعددة الشخصيات ،كما انه لا يستوف مقومات العرض المسرحى الجيد،لذلك معظم النقاد ينظرون إليه على أنه لون مسرحى جديد يهدف إلى الأضحاك والفرجه،غير أن الأصح يتمثل فى ان هذا المسرح صعب البناء والتشكيل،ظهر نتيجة الحاجة إلى أشكال فنية تتيح للممثل التعبير عن مختلف القضايا الحياتية،والحالات الشعورية المتعددة،فهذا الشكل المسرحى يحمل رسائل مختلفة هامة جدا،وتتطلب ذكاء كبيرا من قبل الممثل ،وأداء مبهرا حتى يقنع جمهور المفرجين.
وترتكز ملامح نصوص أحمد سراج المسرحية خاصة المينودراما منها –موضوع المقال-على السرد القصصى الذاتى للبطل ،ويعبر عن مكنونات الشخصية الساردة للأحداث،سواء كانت الشخصية تاريخية مثل دياب ابن غانم فى مسرحية “الذئب التائه”،أو شخصية إجتماعية مثل “عثمان” فى مسرحية “الجميزة” ،وشخصية “نور” و”سليم” (ثنائية الخير والشر) فى مسرحية “الخصم الأخير” .
كما ترتكز على الميثولوجيا والأساطير مثل أسطورة إيزيس وحورس(توظيفا للتراث الفرعونى القديم) أو ما جاءت به السيرة الهلالية(توظيفا للتراث العربى القديم) ،وخاصة على فكرة النبوءة (وهى الأخبار عن الشىء قبل وقته حزرا وتخمينا)،ففى الوقت الذى ينكر فيه دياب بن غانم قول الرمل(النبوءة) قوةٍ وغرورا قائلا :أنا أومن بسيفى لا بالنبوءة ..برمحى لا بالوعود..وحين أقرر مقاتلة الزناتى ..سيكون ذلك بسيفى ورمحى وعلى فرسى..النبوءات ستار الضعاف..سأقول لك ما لم يقله الرمل..أنا القوى ..القوة حقيقة النبوءة..سأجز عنق الزناتى بحربتى هذه.وتتحقق النبوءة :من أراد أن يدخل تونس،فليدخل تحت رمحى،ومن يرفض ،فاقتلوه يا زغابة..أنا الفارس..لا نصر إلا بى..ولا فارس إلا دياب . ويكشف لنا سراج عن خفايا الذات المعذبة لدياب؛ بسبب شهوتا الحب والزعامة ،فى الحقيقة كانت مأساة دياب الحقيقية عشقه للجازية التى أحبت وفضلت عليه أبو زيد الهلالى.
ثم تأت مأساة عثمان فى مسرحية “الجميزة” ،الراجل الذى سرقه المجتمع فبادله السرقة بسرقه مماثلة !!الذى يصبوا إلى التطهر من ذنوبه وآثامه عن طريق الحلم البشارة او الإشارة أو العلامة عن طريق إسدعاء الجينات الفرعونية بإستلهام شخصية الآلهة إيزيس/الجدة حيث يقف (مشيرا للجميزة) هذه الشجرة المباركة التى حمت حورس حتى خرج لينتصر ويعيد الحق ..وها هى تعطينى فى الحلم البشارة..من زارتنى فى الحلم هى إيزيس ،هى من قالت لى :ازرع،وازرع،وازرع وأنا من غد ..سأطهر أخطائى. والاعتراف الإنكارى الذى يبدأ به المبرأ(المتوفى) حياته فى العالم الآخر:لن أغضب أمى ،لن ألوث مياة النيل،ولن أصد الماء فى وقت جريانه،…..ألخ. (الفصل الخامس والعشرون بعد المائة من كتاب برت أم هيرو الخروج بالنهار).
وهنا ننظر إلى دور ووظيفة الأسطورة (إيزيس وحورس) على أنها حلقة اتصال هامة بالماضى،وكثيرا ما تكون هى المصدر الوحيد لمعارفنا عن الكيفية التى نظر بها أسلافنا الأقدمون إلى العالم حولهم وكيف فسروا ظواهره العديدة ..كما أنها تحمل قصصا جميلة ومسلية مازالت تستهوى خيالنا حتى اليوم ،إذ نجد فيها نواة للحقائق المكتبة،ولكنها تقرأ لغرض التسلية ولخططها الرائعة وشخصياتها البعيدة الصيت،. يقول ليو تولستوى فى كتابه “ما هو الفن” : إن فنان المستقبل سيعى تمام أن تأليف حكاية أسطورية ،أو أنشودة مؤثرة ،أو قصة رمزية أو أحجية مسلية،أو نكته مضحكة ،أو رسم لوحة تُعجب بها عشرات الأجيال وملايين بين الأطفال والبالغين كل هذا سيكون قطعا أهم وأنفع من تأليف روايه أو سيمفونية أو رسم لوحة يتأثر بها بعض الطبقات الغنية فترة يسيرة ثم تنسى إلى الأبد..إن مجال هذا الفن المحمل بالأحاسيس البسيطة التى تمس جميع البشر هو مجال فسيح ويظل بكرا كما هو!
كما أنه يؤرخ لبعض الظواهر الإجتماعية الحديثة التى تفوق فى غرابتها وعدم القدرة على تفسيرها الأساطير القديمة مثل تعرض السلم الإجتماعى للخطر من قبل شخصيات ثانوية فى العمل الدرامى ولكنها شخصيات محورية فى النسق الإجتماعى مثل شخصية شيخ البلد ،السيد مغتصب الأرض،الأخ المغترب الذى باع عمره فى الغربة،أصدقاء السوء ،مرؤؤسو العمل(ونظام الدولاب الحكومى) فى مسرحية الجميزة ،المدير الفاسد المستبد ،زملاء العمل السيئون ،النظام التعليمى المهترىء،استخدام النفوذ فى تدمير مستقبل بعض الأشخاص فى مسرحية الخصم الأخير.
وقد جاء اختيار اسم “نور” للشخصية الوحيدة الإيجابية المتسقة مع القيم الأخلاقية فى العمل المسرحى ولا أظن أن شخصة “نور” بعيده عن شخصية الكاتب ،فالبطل نورا والكاتب سراجا ، والبطل مدرسا والكاتب مدرسا أيضا ،يقول “نور” فى ختام العمل المسرحى:شكرا لأنك-حديثه موجها إلى مدير المدرسة- جعلتنى أقرأ جرائم الوظيفة العامة كاملة؛حتى أكتشف الثغرة التى أنفذ بها إليك،والبقية كانت سهلة،تخيل أن كل مدرسة عملت أنت بها،كان فيها ثلاثون مدرسا ،وولى أمر على الأقل يسارعون بتقديم شكوى ضدك فى مباحث الأموال العامة أو النيابة،تخيل أن أقارب زوجتك لم يحاولوا التدخل..كانوا جميعا ينتظرون الشرارة ..ينتظرون سراجا يقودهم.
وليقول لنا (سواء المدرس أو الكاتب أو كلاهما) فى النهاية رغم ما يُعانى منه هذا النمط الشريف فى المجتمع من شرور إلا أنه-مستمدا من التراث- ما ينتصر له فى النهاية، دافعا فى شرايين الوطن معانى وقيم إنسانية إيجابية كادت أن تندثر!
وهو هنا يؤكد على نظرية الدكتور حسن حنفى من أن التراث هو المنقول إلينا أولا،والمفهوم لنا ثانيا،والموجه لسلوكنا ثالثا..ثلاث حلقات يتحول فيها التراث المكتوب إلى تراث حى،يقوم بالحلقة الأولى الشعور التاريخى،وبالحلقة الثانية الشعور التأملى ،وبالحلقة الثالثة الشعور العملى,ومن الملاحظ أن هذا القول يتفق مع قول د.زكى نجيب محمود عن ضرورة سريان الماضى فى الحاضر؛أى النظر إلى التراث بصورة معاصرة حتى يكتسب دلالات جديدة تعبر عن الواقع .وقد حقق بكفاءة عالية مسرح احمد سراج هذه المعادلة بإقتدار يُحسد عليه وأثبت أن االتراث هو روح الماضى،وروح الحاضر،وروح المستقبل بالنسبة للإنسان الذى يحيا به،وتموت شخصيته وهويته إذا ابتعد عنه أو فقده؛لذلك نرى الإنسان العربى-بصفة خاصة- يتمسك بتراثه بصورة او بأخرى سواء فى أقواله أو أفعاله.