مقالات ودراسات

د.رضا عبد الرحيم يكتب: بين النص والحياة.. ماذا يحدث فى حجرة مارفن؟


المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات

ـ

د.رضا عبد الرحيم

 

يتجلى فى هذا النص المسرحى(فى حجرة مارفن) للكاتب الأمريكى سكوت ما كفرسون ، ما دعا إليه الناقد العراقى القدير حسن ناظم فى كتابه النص والحياة، فى أن تتحول الحياة إلى نص بليغ، بلاغة الواقعية التاريخية  دون أن يكون وثيقة، بمعنى أن تتحول تجربة كتابة النص من شفرة جمالية إلى شفرة مفهومية؛ وأن تتم تلك العملية(إبداع النص) برمتها بهدف السعى إلى تكوين معرفة إنسانية حول إنتاج الخطاب الأدبى، وتفسير أو إدراك هذا الخطاب المنطوى على تعقيدات أسلوبية ضرورية.

إذ أن الصلة بين النصوص والوقائع تتأرجح على مستويين:

مرة بتنوعها وثانية بضعفها أو قوتها ..ويبقى التنوع مهما كان منحاه على ضرب من الوشائج بينهما. أما ضعف هذه الوشائج فأمر قد يعود  إلى الكاتب نفسه، وما يتبناه من رؤى فكرية.

وليس من قبيل المصادفة سرعة تأثير السياقات الثقافية والجمالية بظروف الحياة- الكتابة نفسها تستند إلى الخبرة ليس فى مجال الإبداع فقط، لكن الأهم الخبرة فى الحياة-  فهذا قانون تخضع له هذه السياقات برمتها..فكلما أطبق  زمان جديد فغير تضاريس المكان فصارا جديدين كليهما. والخبرة فى السياقات الثقافية والجمالية  تستند إلى الخبرة فى الحياة بما يحيط بها من ظروف مادية واجتماعية.

والثقافة دائما تُضمن بعدى الزمان والمكان المتدفقين ضرورة من مجرى مشترك تمتزج فيه الأشياء وتأملها ثقافيا وجماليا.

وسأحاول فى هذا المقال النظر إلى الكيفية التى تناول بها الكاتب موضوع النص من خلال علاقة النص بالحياة، ولن أتوقف كثيرا عند الإطار المعرفى(الطبى) فحسب، وإنما أتخطاه إلى إطار وقائعى ممزوج بتأمل نفسانى لشخوص العمل.

رسم الكاتب السمات الشخصية والنفسية لأبطال العمل ببراعة وإتقان، من خلال حوار كاشف، يستطيع معه القارىء تكوين صورة كاملة عن الطبيعة البشرية أولا والعلاقات الاجتماعية ثانيا والتى تربط بين أفراد الأسرة الواحدة .

وتعرض مسرحية”حجرة مارفن” للصدع فى العلاقات الأسرية ، وفقدان التواصل الإنسانى ، وتتخذ المسرحية من عائلة مارفن التى تعيش فى ولاية فلوريدا أنموذجا لذلك؛ فـ “بيسى” الأبنة الكبرى  والتى أفنت عمرها فى رعاية والدها المُقعد”مارفن” وعمتها العجوز”روث” تكتشف إصابتها بـ” سرطان الدم”، فتتصل بأختها الصغرى”لى” لتسألها إجراء بعض الفحوص الطبية للكشف عما إذا كان فى إمكانها التبرع لها ببعض من نخاعها العظمى، وتلبى  “لى” سؤال أختها ، وتأتى بعد سنى فراق طوال من ولاية أوهايو بصحبة ابنيها (هانك وتشارلى)، لكن الأختين تبدوان غريبتين كل منهما عن الأخرى، ولا تشعران بأى ألفة فيما بينهما، كذا فإن العلاقة بين “لى” وابنيها لا تبدو حميمية .

ففى حين يظهر الأب “مارفن”  جد هزيل ، كغصن شجرة عجفاء يسهل كسره ،على فراش فى آخر المسرح، وهو يُرى بصعوبة من خلال جدار من الطوب الزجاجى؛ يكشف الحوار بين “بيسى” وعمتها “روث”حبيسة الكرسى المتحرك(لديها فقرات ثلاث مهشمة فى عمودها الفقرى)  تحتفظ المشاهد الأول والثانى والخامس من الفصل الأول برسم صورة من قريب للأب،والأبنة الكبرى ،والعمة (وهذا الثالوث يُمثل الجانب الإنسانى المثالى).

فـ” مارفن” يعانى من جلطة دماغية، ومصاب بسرطان القولون، وبعمى فى إحدى عينيه، وإحدى كليتيه لا تقوم بوظيفتها، كل هذا ويبقى لمارفن شعره الغزير! على حد قول العمه “روث” مصدر السعادة والبهجة فى هذه العائلة، وبالتالى فى المسرحية .

الأبنة الكبرى”بيسى” كشخصية مسؤولة أمام نفسها عن رعاية أسرتها (الشعور بالواجب) ، شخصية قلقة، لا تملك خيالا ، تعانى من فوبيا الحشرات ، تتحلى بمكارم الأخلاق .العمة “روث” عجوز فى السبعين من عمرها ، تصف نفسها بالحمقاء ؛ لأنها تحب أن تكون بكامل زينتها قبل متابعة مسلسل رومانسى فى التلفاز! تحمل منهجا فلسفيا دينيا  تفسر به  كل ما يحدث لها ولأسرتها ، تؤمن بأن لا شىء يقع فى الكون من دون أن تكمن حكمة الخالق وراءه، وأن الله يريد أن يعلمنا أمورا ، يريد أن يهزنا من الأعماق، وينفض عنا غبار الجهل. نجدها تقول لـ” بيسى”: إن الله جعلنى كسيحه لحكمة ما، هو يريدنى أن اتعلم شيئا ما.. لعله الصبر أو التحمل، أو لعله كيفية ارتداء ثيابى وأنا جالسه.إن الله لا يخبرك بذلك الشىء ، ولكن عليك أن تدركه وحدك.

فماذا يحدث فى حجرة مارفن؟

فى الحقيقة أن دقة وصف المؤلف لما يحدث فى حجرة مارفن تبهر كل من قرأ العمل ، وهى مبنية على تجارب المؤلف الحياتية مع أقاربه المسنين الذين عاشوا فى فلوريدا فيصور لنا حالة مارفن المرضية : بأنه يهمهم أحيانا، ويتحرك كثيرا على السرير؛ كأنه يتصارع مع الملاءات!!يلهو بوضع الأشياء فى فمه حتى يكاد أن يخنق نفسه، يفرح بمتابعة حركة الأضواء وانعكساتها على الجدران من مرآة زينة اخته”روث”، يتخيل أنه طائر، كلما حملته الممرضة من على السرير إلى الحمام، يُخيف نفسه أحيانا حتى ينام.

وفى المشهد الرابع من الفصل الأول نتعرف على شخصية الأبنة الصغرى لمارفن، وتدعى “لى”، وابنها الأكبر “هانك”، والأصغر” تشارلى” ( هذا الثالوث الثانى فى المسرحية وهو يمثل الجانب الإنسانى بكل عيوبه ونقائصه) ، وبهذا تقوم فكرة المؤلف على نقد الثنائيات المتعارضة؛ ليظهر أن هذه التصنيفات الجامدة غير ثابتة، وباستخدام التفكيك( منهج نقدى طوره الفيلسوف الفرنسى جاك دريدا) كأداة نقدية يمكن الوصول لفهم أعمق وأشمل للماضى والحاضر.

فـ ” لى” عكس شخصية اختها الكبرى فى كل شىء، فهى أنانية، متسلطة، مدخنة شرهه، كافحت من أجل الحصول على شهادة عليا فى مجال التجميل، تهتم بمستقبلها؛ وتسعى إلى الارتباط برجل يكون زوجا لها فى المستقبل ..أدخلت ابنها الأكبر”هانك” ذو السابعة عشرة عاما إلى مصحة نفسية، ربما بهدف التخلص منه؛ لأنه يفسد أى علاقة بينها وبين أى رجل قد يقدر لها النجاح. تقدم بعض المساعدات للراهبات يوم السبت مقابل استضافتها وابنها الأصغر”تشارلى”(المولع بالقراءة).. لا أجد وصفا أدق لشخصيتها إلا ما جاء على لسان ابنها” هانك”: إنها لا تبالى بأحد البتة!(ص 113)

أما “هانك” الماهر فى إصلاح المحركات ، ربما كانت مشكلته النفسيه ترجع إلى العلاقة بينه وبين امه، ومع ذلك فهو يتحلى بالحكمة التى تجرى على لسانه ، فتصيب كل من حوله بالصدمة، والعجز عن الإجابة  ، يظهر ذلك جليا فى أحاديثه مع امه ومع خالته بيسى، أذكر هنا فقط حديثه مع خالته التى لم يكن يعلم بوجودها إلا عند مرضها واستدعاء الأسرة للسفر إلى فلوريدا :

بيسى: ولم إذن قضيت أنا العشرين سنة الأخيرة من حياتى هنا؟ ألأنى كنت مستمتعة بذلك؟ ألأنى نلت شيئا فى المقابل؟

هانك: أجل، وإلا لما كنت قد قمت بذلك.

بيسى: كلا يا هانك كلاا. أحيانا أكاد ألا …كلا….

هانك: إن المرة الأولى التى سمعت فيها بك كانت حين احتجت إلى شيء ما.

بيسى: هانك .

 

ويأت المشهد الأول من الفصل الثانى، لطرح  فكرة الواجب الأسرى ،رؤية الأختين له(المغزى من العمل) وعلى الرغم من اختلاف الرؤى بينهما، وهذا أمر طبيعى فالحياة قائمة على الاختلاف أكثر من الاتفاق، إلا أن المؤلف يدهشنا عندما يشى الحوار بين الأختين بأن كليهما على صواب!

فبعد إن اقتنعت الأختين بضرورة وضع الأب والعمة فى دار المسنين – بسبب مرض بيسى وعدم قدرتها صحيا على رعايتهما – والتى جاءت اللائحة فيها برفض طلبهما ،لأسباب متعلقة بوضعهما المالى ؛ فدور المسنين المجانية  فى أمريكا للطبقات الفقيرة والأقل دخلا ، حاولت بيسى حث اختها على البقاء فى منزل الأسرة ، وعدم المغادرة ، ودار بينهما هذا الحوار الرشيق المنصف :

بيسى: أعطنى سببا وجيها واحدا

لى: كلا فقط

بيسى: لم؟

لى: لأنى لا أريد ذلك(فترة صمت) لقد اتخذت هذا القرار من قبل. اتخذته حين أصيب أبى بجلطة دماغية للمرة الأولى، فما كنت لأضيع حياتى سدى.

بيسى: أتظنين أنى أضعت حياتى سدى؟

لى: بالطبع لا.

بيسى: أنا لا أتصور طريقة أفضل من تلك لأقضى بها حياتى.

لى: إذن فكلانا قد اتخذ القرار السليم.

بيسى: أنت أكثر شخص….

لى: فلتقولينها، فلقد قلتها مرارا بطرق مختلفة منذ جئت إلى هنا.

بيسى: لا، لم أفعل. لقد أحجمت كثيرا لأتجنب تلك المناقشة معك.

لى: أى مناقشة ؟

ويفاجئنا المؤلف فى المشاهد الثالث، والرابع إلى السابع  من الفصل الثانى مرة أخرى بالتقارب والحميمية بين الأختين ، وكأنهما يتعارفن من جديد ، كأختين ناضجتين ، نذكر منها هنا حديثين شديدى الروعة والعذوبة أيضا:

الأول: الحوار

لى: أتعلمين أنى أستطيع إصلاح باروكتك.

بيسى: هل تبدو كريهة المنظر؟

لى: لا، ولكن إذا كانت لك باروكة فلا بد  من أن تستمتعى بها وتحاولى تغيير شكلها لتبدين بطًلات مختلفة.

بيسى: أوه !

لى: فورمة مناسبة لقضاء السهرات.

بيسى: إنى فقط أمشطها بين الحين والآخر.

لى: ولدى علبة ماكياج كاملة هنا أيضا.

بيسى: أنا لا أبالى بتلك الأشياء كثيرا.

الحوار الثانى:

لى: كان يجب عليك إخبارى بذلك.

بيسى: إذا كنت لم أخبر أحدا أن لدى صديقا يعمل فى الملاهى، فلن أخبرهم أنه قد غرق.

لى: بيسى، كان يجب عليك أخبارى على أى حال

بيسى: لم نكن قريبتين كل منا من الأخرى كما نحن الآن.

لى: ألم نكن؟

بيسى: لم نكن(فترة صمت).

اختار المؤلف نهاية منطقية،  لسير الأحداث، حيث نرى علاقة الحب التى تربط بين بيسى ومارفن والعمة وما يقابلها من علاقة “لى” بابنيها  فى مشهد سينمائى فينالى للمسرحية شديد التقليدية والروعة أيضا، انقله فقط هنا بلا تدخل منىً ولو بكلمة واحدة تاركا لخيالكم القيام بدوره فى الحكم على هذا العمل المسرحى عظيم القيمة ورسائله الاجتماعية التى تناسب كل زمن وتنطبق على الأسر فى كل مكان وليس فى بلاد العم سام فقط بيسى: هلا تركتنى وخرجت من هنا؟(يخرج تشارلى.

تقرأ بيسى الورقة ثانية: خالتى بيسى. لقد ذهبت إلى مكان آخر، إلى اللقاء وحظا سعيدا، أحبك.هانك.يتهدج صوتها وتوشك أن تنهار وعندها يتقلب مارفن فى فراشه) أبى! ما الخبر؟ إنه أنا، ليس ثمة ما يُخيف( يهدأ مارفن) ليس ثمة ما يُخيف( تترك الورقة على المنضدة وتذهب إلى حجرة مارفن. تدخل”لى”وترى الحبوب وقد تناثرت على الأرض، تلتقط زجاجة الحبوب.تتجه صوب المنضدة لتضع الزجاجة عليها.

ترى رسالة هانك وتقرأها فى صمت.بعد لحظات قليلة تكرمش الورقة وتقذف بها على المنضدة وتهم بالخروج،وقبل أن تغادر يدخل هانك حاملا حقائبه من دون أن يراها. يتجه صوب الكرسى ويُنزل حقائبه على الأرض ويذهب لينظر داخل حجرة مارفن، ثم يتوقف ويعود أدراجه إلى الكرسى فيرى أمه”لى”. ينظر كلاهما نحو الآخر، يخلع هانك عصابته.

روث: ( من خارج المسرح) فلتسرع يا تشارلى، سيبدأ المسلسل.(يسير هانك مارا بـ لى ويغادر خشبة المسرح بينما تتجه لى صوب الكرسى لتلتقط حقائب هانك)

بيسى: ( من حجرة مارفن) دعنى أقم عنك بذلك( تبدأ لى فى عكس الضوءفى أرجاء حجرة مارفن، ثم تخرج، يخفت الضوء  عدا بقعة مسلطة على بيسى ومارفن، ثم يسطع الضوء بشدة فى الحجرة ، وبعد لحظة يخفت ثانية عدا تلك البقعة المسلطة على بيسى ومارفن اللذين يسمع ضحكهما.ثم يسود ظلام مطبق. ستار.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock