مقالات ودراسات

د. فاتن الطائي تكتب: “الشواش” لدى أنس عبد الصمد.. في عرضه “نحن من وجهة نظر قط”


المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات

ـ

العراق: د. فاتن الطائي

 

من منطلق مقولة ميشال سير ((لكي أسمع رسالة، لا بدّ أن يكون هناك ضجيج، فالرسالة لا تظهر إلا عندما يُفصل بين الصوت والفوضى))
إن كل نظام، سواء أكان معرفيًا أم لغويًا أم اجتماعيًا، يولد من رحم الشواش؛ من ضوضاء أولى غير مفسّرة. فالمعنى لا ينبثق من الصمت، بل من القدرة على التمييز داخل الفوضى.
لذا فالشواش ليس خطأً ولا خللًا في مسرحية من وجهة نظر قط، بل هو شرط الظهور ذاته. وكما بدأ الكون من فوضى طاقية أولى، كذلك يبدأ الفكر من اضطراب أصيل، ومن خلال الفهم واللغة نرسم داخله مسارات النظام.
لم يركن التشويش داخل العرض الى هيمنة المركزية في الشخصية او الحبكة. اذ لا بد من فهم الكل اولاً, ووجود فهم فعلي لما تؤدي هذه الشخصيات قبل البدء في عملية الكشف عن النظام في الشواش لا بد من تفحص واستقصاء اجزاء العمل للوصول الى نقطة البدء ونقطة النهاية في ذلك المكون ايا كان …
وعملية الاستقصاء هذه يصفها ايضاً” ميشال سير على ان التشويش يدعو الى فك الشفرة ولابد من وجود تلك الشفرة في المكون فهي اللمسة الابتكارية او المقاومة بين القارئ والمنتج او بين المتلقي والمعروض والتي لابد من ان تتواجد في العمل حتى يصل بها الى لحظة التواجد الفعلي وليس الحضور اللحظوي لأنه “يجعل قراءة الرسالة اصعب ولكن من دونه لا توجد رسالة حيث لا توجد رسالة دون مقاومة” وان التشويش يفتح الباب الى طريق خصب للتأمل حيث ان التشويش جزء من الاتصال ولا يمكن إزالته من النظام . .
والتشويش في اللغة كما هي الحال في انظمة التواصل الاخرى له ما يعادله في فكرة النظام نفسه” إذ يؤكد سير ان التغيرات توفر بدورها حدوث نظام معين من جانب فضلا عن تأثيرها على اساليب الاتصال الآخرى من جانب آخر” إذ يتحد الفعل العام بالتشويش مع الفعل الخاص للنظام من خلال الدخول الى اسبار الشفرة عن طريق تحفيز ذهن المتلقي اضافة الى منح القارئ او المتلقي دهشة جمالية لا تتوافر في التقليدي والتداولي من التقديم المباشر غير المبهم للمنتج المسرحي .
لذا تجد ان التشويش ادى الى تحطيم القراءة التقليدية وجعل المتاهة اساس المتعة والنظام في آن واحد .
ويذهب الكثير من الفلاسفة والنقاد الى ان التشويش مرجعه الحس لانه يرتبط مع الاستجابة الحسية والايغال في عمق طبيعة الاشياء وجوهرها والفصل عن ماهو جميل وما هو اساسي ودليل كما يؤكد ليوتار, اذ يعرف ليوتار” الاحساس بالجليل بأنه تشويش للتمايزات بين الاحاسيس المختلفة مثل اللذة والالم” .فالتشويش هنا يعتمد بالاساس على نشاط المخيلة والذائقة الحسية التي تكشف عن حقيقة الاشياء في ذاتها حيث تتجلى عن ما هو نسبي او عارض .
وايضا يمارس (الشواش) لعبة التناقض واختلاف الدلالة المتغيرة واللامتمركزة ويتجاوز الى اللانهائي، محاولا خرق المعتاد والتشويش عليه وتصدير صورة أشبه بالهالة التي تحيط بالاشياء محدثة حولها ضبابية مشوشة من أجل تميزها من جهة وفصلها عن المحيط من جهة اخرى ,
هنا تتلاعب اللامركزية دورا مهما في التشويش وفي كسر المعتاد والمالوف من حيث التركيز على المختلف وتاكيده واحداث حالة من التمايزات وتتداخل مجموع الدال والمركبات الدالة في عملية توليد نظام جديد وهو النظام دال ورغم عدم خضوعه لـِمركزية الذات أي ليس موضوعاً لمركز ما لكنه يحدث فيها توازن يحمل معه قوة في كلا الاتجاهات .
وتلك هي بؤرة المركز في مبادئ ما بعد الحداثة حيث تؤكد ان كل نظام بمثابة جزيئات متشظية متفرقة ومتشعبة لا يربطها رابط لكن النظام يبقى هو الثيمة الاساس مهما بلغ التشويش تشعباته . من كل ذلك نصل الى ان الشواش في جميع أعمال أنس عبد الصمد تقوم على قصدية فكرية تتجاوز الفوضى الشكلية، فهي وسيلة لطرح الأسئلة لا لإحداث الارتباك.
يوظّف انس الشواش لكشف تناقضات الواقع وتفكيك المعنى السائد. الشواش لديه فعل وعيٍ يعيد النظر في المفاهيم الثابتة، ويحوّل الفوضى إلى أداة للتأمل لا للضياع.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock