وجوه مسرحية
د. محمد سمير الخطيب يكتب: نبيل الحلفاوي.. فنان يغرد خارج السرب

المسرح نيوز ـ القاهرة: وجوه مسرحية
د. محمد سمير الخطيب
ناقد مسرحي وأكاديمي
مصر
قليلون هم أصحاب المبادئ.. وقليلون جدا من لا يتنازلون عنها مهما عاندتهم الرياح.. وفي زمن، يشبه فيه من يحترم نفسه وجمهوره الجوهرة النادرة.. كان هو تلك الجوهرة التي صنعتها سنوات العمل الجاد والجهد الكبير اللذان وضعاه على قائمة افضل الفنانين المصرين هو الفنان القدير نبيل الحلفاوي.. الذي لم يخفت بريق عينيه قط حتي في أحلك الظروف.. لأن هذا البريق نابع من روح ووجدان فنان متفرد، ثري الفكر والموهبة.
ولد نبيل محمد الحلفاوي في الجيزة وتربي في أحد أهم احياء القاهرة الشعبية العريقة التي يمتاز أهلها بالدفء والجدعنه وهو حي السيدة زينب. مما كان له تأثير كبير على تكوينه الإنساني.
درس في كلية التجارة وحصل علي بكالوريوس إدارة أعمال من جامعة القاهرة عام ١٩٦٦ ، إلا أنه كان يري لنفسه مسارا آخر.. فتمرد على مخططات الأهل ليصحح مساره، واتجه نحو هدفه الحقيقي وهو التمثيل.
تخرج نبيل الحلفاوي من المعهد العالي للفنون المسرحية في عام ١٩٧٠ وكان ترتيبه الأول على دفعته، رفض التعيين كمعيد في المعهد حباً في فن التمثيل وتعلقا بحلم حياته.. المسرح القومي. ليواجه الأضواء التي جعلت حياته حافلة – ليس فقط بالأدوار الناجحة – ولكن بحب الناس وتقديرهم له أينما ذهب.. تلك المحبة التي يعتبرها الفنان القدير هي وسامه الأغلي.. لذلك لم يتهاون لحظة أو يتنازل مرة عن تقديم الأعمال الجادة وانتقاء الأدوار الهادفة.
التمثيل مهنة … النجومية موقع … الفن موهبة
تلخص المقولة مسيرة الفنان نبيل الحلفاوي التي تمتد لعقود طويلة قضاها محراب الفن، كما تكشف عن علاقة الفنان نبيل الحلفاوي بالمجتمع. فأي إنسان يمكن أن يمتهن مهنة التمثيل ولكن ليس كل ممثل بقادر على التأثير في الناس وترك بصمة ايجابية. القليلون هم من تذكرهم صفحات تاريخ الفن. لأن تاريخ الفن لا يحتفظ في أرشيفه إلا بفئة تمتهن التمثيل متسلحة بالموهبة الحقيقية. هؤلاء الممثلون أصحاب الموهبة، يعيدون إنتاج المهنة، ويجعلون المتفرج ينظر إلى مهنة التمثيل بشكل مختلف.
من هنا يحصل الممثل على لقب الفنان من الجمهور من جهة، ومن جهة أخرى عندما يدرك أن له دوراً اجتماعياً يتعدى منطق تقمص الشخصية التي يؤديها. وأن دوره الحقيقي هو التعبير عن أفكار المجتمع من خلال ادائه الفني وخلق شخصية فنية، تجعل المتفرج يعيد النظر في واقعه وحياته وعالمه. كأن للفنان دورا اجتماعيا في الأساس يمارسه بصوره غير مباشرة وهو الوساطة بين المهنة والمجتمع.
إذا نظرنا إلى موقع الفنان نبيل الحلفاوي في تاريخ مهنة التمثيل بمصر، يمكن له شخصية فنية يمكن أن ترسم من خلال الأدوار التي قام بتمثيلها، نلمح في معظم أدواره تجاوزا المنطق تقمص الشخصيات في مظهرها الخارجي، نلمح في أداء الحلفاوي أن مهنة التمثيل عنده رؤية للعالم تعبر عن شخصيات تكشف عن مجتمعه وأفكاره بصورة غير مباشرة. لذا يصبح أداء الحلفاوي للشخصيات المختلفة غاية في التعقيد من منظور أن الشخصية هي تجسيد لعالم معقد تتضافر مجموعة من العوامل لاظهارها للمتفرج على خشبة المسرح والتي يمكن أن نلخصها في مستويين:
أولاً: مستوى فكري منطلق من عالم النص يدرك أبعادها الخفية ويبرز تفاصيلها الدقيقة، كأن أداء الشخصية لديه مقترنا بطرح سؤال فكري حول وضعية الشخصية في مجتمع النص، وما هو تأثيرها على المتفرج؟.
ثانياً : مستوى جمالي من منطلق أن الشخصية التي يؤديها لها إيقاع خاص متشكلة عبر مجموعة من الدوافع، كما تحدد أفعالها منظومة العلاقات في مجتمع النص، لنصل إلى تناغم الأداء الصوتي مع الأداء الجسدي.
ويمكن أن نلمح امتزاج المستويين في العديد من الأدوار المسرحية التي قام بتمثيلها مثل شخصية (درش) في مسرحية عجبي حية عجبي التي اخرجها المخرج عصام السيد والتي ترصد أحوال المجتمع المصري بعد ثورة ١٩٥٢ من خلال اشعار الشاعر الكبير صلاح جاهين. وقام الحلفاوي بدور الراوي أو درش المواطن البسيط وهي شخصية ابتدعها جاهين فى رسومه الكاريكاتورية وفى مجتمع النص تقوم بالتعليق على الأحداث.
كما أنها من الناحية الفكرية تتفق مع الأفكار الأيديولوجية لنبيل الحلفاوي ولكن من الناحية الفنية هي شخصية بالغة الصعوبة فليس بها مساحات تمثيل حقيقية يستعرض من خلالها الممثل قدراته الأدائية والتعبيرية ليصل إلى الجمهور. فاستطاع من خلال ادائه الصوتي وقدرته المعروفة على التلوين الصوتى ومع تناول العرض للأحداث السياسية استطاع أن يجذب الجمهور ويشيد به النقاد .. ولكن نلمح من خلال هذا الدور أن الحلفاوي يعشق الأدوار الكاشفة عن الشأن العام وتمس وجدان المتلقي.
أما دور راضي عبد السلام في مسرحية عفريت لكل مواطن فهي شخصية معقدة تذكرنا برواية دكتور جيكل ومستر هايد للأديب الأستكلندي روبرت ستيفنسون والتي تدور حول صراع الخير والشر داخل الشخصية الإنسانية. جسد نبيل الحلفاوي هذه الشخصية المركبة التي تعاني من حالة ازدواج وكان السؤال كيف تصل هذه الحالة الدرامية لمتفرجه وتستثير عقله في ظل صعوبة تأدية شخصيتين في نفس المسرحية وفي نفس المشهد وفى نفس اللحظة.
من هنا تكمن صعوبة هذه الشخصية من خلال تكوينين مختلفين ومواصفات جسمانية مغايرة والتي تتطلب منه جهداً عصبياً وذهنياً ليبين الانتقالات المختلفة، وقد كتبت الدكتوره نهاد صليحة مقالة خاصة لتحلل أداء الفنان نبيل الحلفاوي. أشادت به وأشارت إلى أنه استطاع بقدراته التكنيكية أن يقوم بتطويع جسده وصوته لأداء الشخصيتين بقدرات صوتية وجسدية مغايرة.
أما دور «عمر مكرم» في مسرحية «رجل في القلعة» التي كتبها الكاتب المسرحي محمد أبو العلا السلاموني وأخرجها المخرج الراحل سعد أردش في عام ١٩٨٧. فقد رفض هذا الدور ممثلان كبيران، هما حمدي وعبد الله غيث مما ألقى على كاهله مسئولية ضخمة في اداء شخصية رفضها من قبله قامات تمثيلية من ناحية، ومن ناحية أخرى كيف يعطي للشخصية حياة في مجتمع النص لتعادل قوة الشخصية المقابلة لها درامياً وهي شخصية الوالي «محمد علي».
من هنا، لجأ الحلفاوي إلى اداء صوتي يبعد عن الخطابية والميلودرامية التي قد يستسهل بعض الممثلين اللجوء إليها وخاصة أن شخصية عمر مكرم تستوعب منطق هذا الأداء، ويقول الحلفاوي أنه دارت نقاشات كثيره مع استاذه ومخرج العرض سعد أردش حول طبيعة ادائه لهذه الشخصية بشكل يتفق مع وجهة نظر كليهما وتتفق مع الانطباع المعروف عنها في كتب التاريخ وتضفي في نفس الوقت حيوية على الشخصية المكتوبة في النص المسرحي.
أما شخصية المفتي في مسرحية طقوس الإشارات والتحولات» فقد كانت أيضاً شخصية مركبة ذات مظهر خارجي قوي ولكنها تحمل بداخلها نوازع واهواء تجاه الماسة. استطاع الحلفاوي كما تقول الناقدة عبلة الرويني أن يجسد الانهيار النفسي والتهدم الجسدي في أداء الشخصية.
من ثم يمكن القول إن الفنان نبيل الحلفاوي من الفنانين القليلين أصحاب المنهج التمثيلي في أداء الأدوار ، حيث جمع بين منهج ستنسلافسكي في المعايشة ومنهج بريخت بأن يكون الممثل له وعي اجتماعي في أداء الدور. مزج بين المنهجين في سهولة ويسر وهذا ما تعلمه من استاذه سعد أردش.
مما جعل تجسيده للدور الذي يقوم بتمثيله أشبه بحالة ولادة للشخصية لكي يخرجها للمتفرج من بين أفكاره ومشاعره وأحاسيسه في تشكيل جمالي ليؤدي رسالته التمثيل بالنسبة للحلفاوي قطيعة إنسانية مع شخصية الممثل الحقيقية وليس معنى القطيعة الفصل الحاد، بل يطوع مكوناته الفكرية والوجدانية للشخصية المؤداة ليستثير متفرجه ويحرضه على التفكير.
إن نجومية نبيل الحلفاوي لا يستمدها من موقع خارجي يرتبط بصورة ذهنية، يصنعها الفنان عن نفسه ويحب أن يراها الجمهور ويستنسخ جميع أدواره من خلالها. بل أن نجومية الحلفاوي تصنعها قدراته على تجسيد الأدوار المختلفة عبر قراءة متأنية لطبيعة الشخصيات المختلفة يخرجها من رحم كتابة المؤلف ويعيد إنتاجها في أداء متناغم صوتياً وجسدياً.
ما تعلمه من استاذه سعد أردش. مما جعل تجسيده للدور الذي يقوم بتمثيله أشبه بحالة ولادة للشخصية لكي يخرجها للمتفرج من بين أفكاره ومشاعره وأحاسيسه في تشكيل جمالي ليؤدي رسالته التمثيل بالنسبة للحلفاوي قطيعة إنسانية مع شخصية الممثل الحقيقية وليس معنى القطيعة الفصل الحاد، بل يطوع مكوناته الفكرية والوجدانية للشخصية المؤداة ليستثير متفرجه ويحرضه على التفكير.
إن نجومية نبيل الحلفاوي لا يستمدها من موقع خارجي يرتبط بصورة ذهنية، يصنعها الفنان عن نفسه ويحب أن يراها الجمهور ويستنسخ جميع أدواره من خلالها. بل أن نجومية الحلفاوي تصنعها قدراته على تجسيد الأدوار المختلفة عبر قراءة متأنية لطبيعة الشخصيات المختلفة يخرجها من رحم كتابة المؤلف ويعيد إنتاجها في أداء متناغم صوتياً وجسدياً.
فإذا كانت نجومية بعض الفنانين تعتمد على حضورهم العالي ومستمدة من مواصفات شخصية مثل الوسامة أو من سمات صورة متخيلة بأنه الفنان الدونجوان الذي يخطف قلوب النساء إلى غير ذلك من الصور فإن نجومية الخلفاوي استمدها من حضوره العالي عمل خشبة المسرح وصقلها بالدراسة الأكاديمية التي ساعدته في تجسيد الأدوار المختلفة فاقتسحم جمهوره اقتحماماً محبباً، يدخل إلى قلوبهم بهدوء بدون صناعة تروجها له وسائل الإعلام عن مغامرته المختلفة أو مواقفه الدعائية المفتعلة.
سجل الخلفاوي اسمه في تاريخ فن التمثيل بموهبته فقط بدون أن يلجأ إلى وسائل الإعلام ليكتسب شهرة أو اصطناع صورة ذهنية منتحلة، يخطف بها بعض فنات من الجماهير لينال إعجابهم، فانضم إلى قائمة الموهوبين في تاريخ فن التمثيل وشكل امتداداً فنياً وسلوكياً لفئة حفرت اسمائهم بحروف من ذهب في التاريخ مثل الراحل الفنان محمود مرسي ولكن بشخصيته الفنية المستقلة ليصبح الحلفاوي علامة متفردة تخطف قلوب الجماهير المختلفة، ومن القانون النادرين الذين تجمع الجماهير المختلفة على موهبته.
تجسدت نجومية الحلفاوي على خشبة المسرح وامتدت إلى السينما والتلفزيون. فقدم العديد من الأدوار المختلفة التي نالت استحسان الجميع وخاصة ادواره في مسلسلات غوايش والزيني بركات ورأفت الهجان.
لم يصنع الفنان نبيل الحلفاوي نجوميته من أداء وتقمص دور ما في مسرحية أو فيلم أو مسلسل بل اتخذ الفن كنمط حياة. فقام بأدوار متعددة في الحياة مثل المثقف والشاعر، فكان فناناً منفتحاً على العالم. نظر إلى العالم نظرة فاحصة جسدها عبر محاولات شعرية مختلفة، خطفته للحظات فأبى أن يكون أسبر آلما لكي لا تسجن ذاته فترتها سريعاً وقرر الانفتاح على العالم مرة أخرى، ولكنه لم يتخل من جوهر الشعر من خلال تكثيف رؤيته للعالم والنفاذ إلى جوهر الأشياء في كلمات قليلة تكثف الوضع الراهن كما يفعل غير موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) ….
هذه الأدوار الإنسانية المختلفة تفصح عن فنان عاش حياته حريصا على الاحتفاظ باحترام الجمهور له وللفن الذى يعشقه.
ـــــــــــــــــــــــــ
مقدمة الكتاب الذي كتبته د. محمد سمير الخطيب عن الفنان العظيم الراحل نبيل الحلفاوي والذي صدر في عام 2013



