مقالات ودراسات
د. منتهى طارق تكتب: الاغتراب الحديدي في عرض هاملت في المدينة

المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات
ـ
د. منتهى طارق
أكاديمية عراقية
هاملت في المدينة، مونودراما من تأليف: منير راضي، ومن إخراج : د. عبد الرضا جاسم، ومن تمثيل: جاسم محمد، أما مكان العرض فمنتدى المسرح.
الاغتراب الحديدي في عرض هاملت في المدينة، الذي يستدعى منها هاملت من اعماق شكسبير الى مدينة مغلقة بأسوار من حديد، مدينة تئن من وطأة الصمت خلف وجوه معدنية لاتنبض بالحياة.
هاملت هنا ليس اميرا دنماركيا فحسب بل انسان ولد في عالم لا يملك فيه خيارا سوى ان يراقب سقوط القيم وتشظي الحقيقة. في هذا العرض يختفي البلاط الملكي وتظهر بديلا عنه مصنعات رمزية اسوار حديدية ثابته وشخصيات بملامح رمزية تجريدية باقنعة حديدية تنعدم فيها الهوية الفردية وسط عالم اراده المخرج ضمن رؤيته الجمالية من الحديد الذي وضفه ليس كاداه ديكورية فحسب بل كفكرة حاكمة: الجدران الحديدية تحيط باحة العرض كما يحيط القهر بالفكر ، في حين وظف الوجوه الحديدية لتعكس قسوة العالم وتمنع تعبير المشاعر في تماه مع سؤال هاملت الوجودي ( اكون او لا اكون).
فكان المكان دلالة اولية اختارها المخرج والتي كانت حتما بقصدية تعبر عن فكرة فلسفية ليكون فيها بيئة العرض الذي هو ( منتدى المسرح) بباحته المفتوحة وحجارته التراثية التي تتحول يقينا الى مفارقة مسرحية عميقة، بيت تراثي يحمل في ذاكرته رائحة الناس، صار حلبة لعرض يغترب فيه الانسان عن وجهه وعن ملامحه وعن تاريخه.
المخرج استطاع ان ان يشتغل على التناقض بجعل الفضاء الحميمي مساحة لعرض بارد ، صناعي، مجوف، حيث الحديد يهيمن على العرض ليشظي العواطف ويحيلها الى شفرات ميتة، وجوه الشخصيات، الأقنعة الحديدية الثايتة، لا تتعاطف لكنها تقول كل شي عن القسوة والتشظي في هذا العالم الحديدي الذي يجبر هاملت أن يمارس الشك لا بوصفه اداة للفهم بل هو طريق وحيد للبقاء.
هاملت هنا ليس مجرد أمير مشكك، بل رمز لانسان ما بعد الصدمة، ما بعد المعنى.
كلوديوس ليس طاغية فقط، بل منظومة سلطوية فولاذية.
أوفيليا لا تموت غرقا، بل تتلاشى كضوء في نفق غير مألوف
أما الشبح، فهو لم يعد صوت الأب، بل الصدى الآلي لذاكرة لا يمكن استردادها.
الحركة المسرحية جاءت بطيئة، محسوبة، كما لو أن الجسد على الخشبة كان محبوسا ضمن اطر مصطنعة مسبقا فهو هنا ليس أداة تعبير، بل أداة مقاومة. هاملت وضع في تجسيد متقشف فهو لم يمسك الجمجمة ليبكي، بل ليحدق فيها كمن يواجه مراياه الصدئة.
المؤلف منير راضي أعاد بناء النص الشكسبيري بروح العصر، معتمدا على إسقاطات ذكية:
•الجريمة لم تعد اغتيال ملك، بل اغتيال الذاكرة.
•الجنون ليس تشتت عقل، بل وعي مفرط في نظام لا يحتمل الوعي.
•الشك لا يبحث عن الحقيقة، بل يحفر قبرها.
الإضاءة الباردة، والصوت الصناعي الخافت، وغياب الموسيقى التقليدية، شكلت معا حالة من التيه الواعي، جعلت المشاهد شريكا في الحيرة لا متلق فقط. والمكان ببعده التاريخي بدا وكأنه يقاوم ما يعرض فيه، لتتولد من هذه المفارقة طاقة جمالية رمزية عميقة.
هذا العرض ليس (هاملت) كما نعرفه، بل هو تفكيك وجودي لكل ما نظنه ثابتا في الإنسان: هويته، مشاعره، شكوكه، وحتى موته.
في مدينة الحديد، لا يصرخ هاملت ليسمعه أحد، بل ليتأكد أنه ما زال يملك صوتا.
تحية تقدير وامتنان لكادر العمل المسرحي (هاملت في المدينة)، الذي خاض مغامرة فنية، جمع فيها بين الجمال وبين الذكاء الحرفي والرؤية الفلسفية، ليمنحنا عرضا يلامس اعماق الذات الانسانية.
الى المؤلف (منير راضي)، الذي اعاد كتابة (هاملت) بروح جديدة، مستخرجا من صمته صرخة معاصرة ضد التلاشي والعبث.
والى المخرج د. عبد الرضا جاسم، الذي قاد هذا العمل برؤية واعية وعين بصرية مشبعة بالرمز، جاعلا من الفضاء والحديد والشكل طقسا دراميا فريدا.
والى الممثل جاسم محمد، الذي حمل العرض على جسده وصوته وروحه، مجسدا عذابات هاملت دون أن يطلب الخلاص، بل ليمنحه للمسرح.
شكرا لفريق العمل على هذه المغامرة الجمالية التي تجاوزت حدود النص، واختبرت فينا حدود الإنسان