د. وطفاء حمادي تكتب: “نوم الغزلان” للمخرجة لينا أبيض.. المعاناة السورية بمشهدية سينوغرافية متقنة

وطفاء حمادي*

أكاديمية وناقدة مسرح.. لبنان

ـ

لا نزال نتألم لمعاناة الشعب السوري، حين نحصي أعداده الغرقى وأطفاله الملقاة جثثهم على شواطئ أوروبا، من خلال صورهم التي تبثها شاشات التلفزة وتنشرها صفحات المجلات، الأمر الذي يجعلني أتساءل ماذا ستضيف لينا أبيض إلى مأساة الصورة البصرية، وكيف ستنقل إلينا هذه المأساة على خشبة مسرحية تفتقر إلى تقنيات الصورة الرقمية وتكنولوجياتها؟

تختار المخرجة عنوان عرضها الجديد، “نوم الغزلان”، (يستمر اليوم وغداً الثامنة والنصف مساء في مسرح “اروين” في حرم الجامعة اللبنانية الأميركية) من عبارة في كتاب سمر يزبك، “تقاطع نيران، من يوميات الانتفاضة السورية”. للعنوان دلالة عميقة. فنوم الغزلان نوم مفتح العينين. هكذا ينام السوريون، بل هكذا تنام كل الشعوب العربية، نوما لا راحة فيه، نوم القلق والحذر والخوف من السلطات المستبدة. ولم تشأ لينا أبيض أن تخوض غمار السرد لتحوله إلى دراما مسرحية، بل تجمع قصصاً لحالات نعرفها جميعا، من قراءتها للأدب السوري، وفق ما كتبت في “بروشور” العرض، وتجعلها حية بصوتين: صوت الشاعر فرج بيرقدار الشاهد على مآسي السجون السورية وصوت الكاتب والمناضل الكبير ياسين الحاج صالح الصابر على الجرح السوري العميم وعلى خطف زوجته سميرة الخليل. البداية مع الحلم بالثورة، الحلم الذي كلف حالمه السجن، ثم على طريق الهجرة والتهريب، لترحل بنا المسرحية من على شواطئ ألمانيا حيث تركز على معاناة هؤلاء الناس المزودين ذكريات الشام ورائحة الياسمين الدمشقية وشهية الاغتسال بصابون حلب، وتعرض لاستغلال المهربين لهؤلاء الناس المرتحلين، حيث يموت من يموت منهم، ويبقى من يبقى لمعاناته في هذه البلاد/الحلم. لكنه حلم الصدمة. فمن ألمانيا ومعاناة الناس وموتهم تنقلنا لينا أبيض إلى الشام وإلى “يا مال الشام”، وبدايات الثورة. وفي إشارة رمزية مكثفة وبليغة المعنى تضع هؤلاء الثوار في سجن تمتد فيه الأيدي والأكف طلبا للنجدة والخلاص.
تعتمد المخرجة في الحوار المسرحي صيغة المونولوغ “لغة المخذول الذي هجره الإله”. المونولوغ الداخلي، كونه كلاما صامتا مفتوحا، لأن الشخصيات تفتقد من تحاوره، وتفتقر إلى قدرة الكلام مع الآخرين. فالمونولوغ بحسب لوكاش هو لغة المخذول الذي هجره الإله، وتستخدمه لينا أبيض في مسرحها لتفجير المكبوت، وتتخذ منه أداة تعبيرية للتصريح بكل ما يفكر فيه هؤلاء المهاجرون الهاربون من أوطانهم، بعدما حكم عليهم بالصمت أو السكوت أو الإسكات.

المعادل الإخراجي بصري سينوغرافي. فقد كنا أمام مساءلة عن الحلول الإخراجية لتجسيد هذه الحالات. بدا لنا في الدرجة الأولى أننا نشاهد عرضا وراءه إخراج مفكر عميق. فالمخرجة تستغل الخشبة وتقسمها مستويين، مستوى الحدث الذي امتلأ بأشكال ترمز إلى الخيم والمخيمات، أما المستوى الثاني فذاك الذي يعتليه المرتحلون والمتعبون تحت ضوء قمر خافت يضفي على المشهد جمالية تجسد التعب والقهر. في هذا الحيز الفضائي تجري وقائع العرض ومشاهده، حيث الوقوف في الصفوف الطويلة والهرب ومنع الدخول إلى أوروبا والغرق في البحر. ثمة صبي وفتاتان يرمزون إلى أمل إعادة بناء الوطن أو حمله على الظهر والترحال به. وهو مستوى الحشد البشري المكتظ وحركة الممثلين المتنوعة قصصهم. تلفت لينا أبيض إلى قضية مهمة جدا تعاني منها الفتيات السوريات اليوم، هي قضية الزواج بأشكاله المتنوعة، حيث يقع الاستغلال فيها على الفتيات الصغيرات اللاتي يتاجر بهن أهلهن ليعتاشوا بأثمانهن. هي قضية إنسانية تثار في خصوص المرأة لأن المرأة في كل الحروب هي المستهدف الاول. فهي التي تتعرض للاغتصاب وللمتاجرة بجسدها.
ثمة مستوى الرواية والسرد والغناء والترحال. ففي بداية العرض يقف الممثلون ملطخة وجوههم بأوساخ الترحال، وهم ينتظرون. وما أشد عزيمة الشعوب على الانتظار والصبر. توظف لينا أبيض أدواتها السينوغرافية المتعددة الدلالة، كاستخدام العبّارة لنقل المهاجرين، ثم كباب السجن، كما توظف النايلون لاتقاء المطر، وتسلط في مشهد ثان على النايلون اللون الأزرق الفاهي الذي يوحي بالبرودة حتى الموت، وتترك كلاً من هؤلاء يسرد قصته ومعاناته، وتجعل الممثلين يحركون العبّارة بلعبة التوازن، إلى حد فقدان التوازن ووقوع المرتحلين في البحر ليبقى منهم حيا 11 عشر مهاجرا.

أما الوقوف في الصف فتستغله لكي يعبر كل منهم عن واقعه، كالبنت التي تهاجر ويخاف عليها والدها من العيب يجب ألا ترتدي الشورت، والاشتياق الى المناقيش. بإشارات لماحة تستل لينا من الحواديت كل ما له علاقة بالنوستالجيا والحنين إلى شام الياسمين، وإلى بدايات الثورة، مكتفية بالقليل اللماح لأن الكل يدرك تفاصيل هذه المأساة.

جريدة. النهار