سلطة الأشكال البصرية في “سجادة حمراء”.. جماليات الشكل وفرضيات الإطاحة باللغة النصية!
صميم حسب الله
كاتب وناقد مسرحي عراقي
مقدمة
تنوعت الفرضيات الأخراجية التي شكل المكان جزءً من تكوينها الجمالي لاسيما تلك الأمكنة التي تشكلت خارج النسق التقليدي لمعمار مسرح العلبة الإيطالي ، وتاتي تلك التنويعات بوصفها مقترحات جمالية تسهم على نحو خاص في تغيير نسق التلقي التقليدي الذي تم فيه تحديد وضعية المتلقي التي إحتكمت على فعل الضبط الإجتماعي ، من جهة أخرى فإن مغادرة العرض المسرحي جدران العلبة الإيطالية أسهم في إنتاج أشكال مغايرة للتلقي ، تعود فرضياتها على نحو اساس إلى المتغيرات الإجتماعية التي لم يعد المسرح فيها فاعلاً وقادراً على التأثير في المتلقي ، وتأتي أسهامات كل من (بسكاتور ، و بريخت) في تقديم عروض مسرحية تنسجم مع تطلعات الطبقة العاملة عن طريق البحث عن مقترحات مكانية تنسجم مع المنظومة الفكرية لتلك الطبقة ، الأمر الذي دفعهم وبخاصة (بسكاتور) إلى تقديم عروضه في المصانع لكي يكون قريباً من المتلقي ، حتى انه لم يعتمد على ممثلين محترفين بل إختار ممثلين هواة من الطبقة العاملة نفسها، إلا ان المنطلقات الفكرية التي إعتمدها كل من (بسكاتور ، وبرخت ) لم تعتمد الشكل المسرحي بقدر إهتمامها بالمضمون الفكري من اجل التفاعل مع المتلقي والتعبير عن قضاياه ، وتأتي تجارب كل من(شاينا ، وكانتور، وغيرهما) على نحو مغاير عن طريق إعادة الإعتبار للنسق البصري في المسرح ، ويعود ذلك إلى رغبتهما في تقديم الفنون التشكيلية على نحو مسرحي ، ويعود ذلك إلى رغبتهما في القضاء على الشكل الثابت الذي تنتهي إليه اللوحة بعد الإنتهاء من رسمها، الأمر الذي دفع بهما إلى مغادرة الرسم التقليدي والعمل على تقديم لوحات بصرية هي عبارة عن لوحات تشكيلية متحركة في فضاءات مسرحية، وقد عمل كل منهما على خلق تنويعات مكانية تنسجم مع طروحاتهما الجمالية والفكرية، حتى وصل الامر بهما إلى تحويل النصوص المسرحية إلى لوحات بصرية ، كما في مسرحية (موت دانتون) للمؤلف ( جورج بوخنر) التي قدمها المخرج والسينوغراف والرسام البولندي ( تاديوش كانتور) ضمن رؤية إخراجية بصرية مغايرة للمتن النصي الذي سطرّه المؤلف ، ولم يقف الأمر عند التشكيل البصري للمكان بل تعداه إلى إنتاج مقترحات مكانية مغايرة ، تأتي بضمنها فرضيات (بيتر بروك) الذي يؤكد في كتابه المكان الخالي على ان ” أي مكان خال يقف فيه رجل وينظر إليه رجل أخر ” يقع ضمن إشتغالات العرض المسرحي الامر الذي إنتهت معه المقترحات المكانية القارة والمحددة في مسرح العلبة ، وبات من الضروري الكشف عن فضاءات لم تخضع لإشتراطات العرض المسرحي التقليدي ، لاسيما مايرتبط بتوظيف الساحات العامة ، او محطات السكك الحديد ، أو الأماكن الأثرية،وغيرها،إلا ان المخرج (جبار جودي) لم يعتمد أحدها في توصيف إختياره للشكل البصري الذي قدمه في (سجادة حمراء) والذي جاء في كتيب العرض تحت عنوان ( عمل فني) على الرغم من توافر عناصر العرض المسرحي فيه ، سواء على مستوى التشكيل البصري أو المضمون الفكري ، مستفيداً من مشاركة عدد من المسرحيين والسينمائيين الشباب منهم ( تحرير الأسدي ، غسان إسماعيل ، ياس خضير ، هشام جواد ، احمد مونيكا ، ملاك عبد علي ، ضرغام البياتي ،مهند ستار , وآخرين ) فضلا عن مشاركة (د. رياض موسى سكران ) بوصفه دراماتورج العرض كما هو مبين في كتيب العرض والذي تضمن قراءة دراماتورجية بعنوان: (جبار جودي .. يكابد /يماهي/ يعايش/ يواجه .. سجادة حمراء .. غواية السينوغرافيا ) كان قادراً على خلق توصيفات دراماتورجية تسهم في تحديد ماهية الصيغة الفنية المقدمة، الجدير بالذكر أن العرض قد تم تقديمه على قاعة (المتحف الوطني للفن الحديث – كولبنكيان) مؤخرا .
المكان والرؤية الإخراجية :
لو إفترضنا جدلاً ان المخرج إختار تقديم (سجادته الحمراء) في معمار مكاني مغاير عن قاعة (كولبنكيان) ؛ هل سيختلف التوصيف بحسب المكان المقترح ، وهو ماذهب إليه المخرج على الرغم من ان جماليات (المكان / القاعة) لم يكن لها دور في الرؤية الأخراجية كما بدا واضحاً من الأفكار البصرية التي توزعت في فضاء القاعة ) ؟
فضلا عن ذلك فإن المخرج لم يعمد إلى وضع بصماته الإخراجية على قاعة المتحف الوطني ، بالسعي إلى تحويلها إلى فضاء مسرحي ، بل إنه إختار التعامل معها بوصفها فضاءً مجرداً من المرجعيات المعرفية ، وكأنها بلا ذاكرة بصرية في تأريخ الفن العراقي التشكيلي الحديث، بإستثناء (لوحة السجادة الحمراء) للفنان (محمد مسير) التي لم يكن موضعها فاعلاً في النسق العام للعرض ، ويعود ذلك إلى موضعها في طريق المغادرة ، لتتحول إلى خلفية تلفزيونية تنسجم مع اللقاء التي تجرى مع نجوم السجادة الحمراء الإفتراضيين، الأمر الذي لم تتشكل معه خصوصية المكان بما ينسجم مع فرضيات العرض البصري الذي أخترق المكان/ القاعة عن طريق تنويعات بصرية تحتكم إلى متن معرفي منسجم .
جماليات النسق البصري :
بدا واضحاً ان المخرج عمل على توظيف مفاهيم (مابعد الحداثة) التي ترتكز على أسس عدة ، منها مايتعلق بتهشيم المركز البصري والعمل على إنتاج مجموعات غير متجانسة على المستوى البصري/ الفكري، والسعي إلى خلق تنويعات بصرية ضمن منظومة متعددة البؤر، وقد بدا ذلك واضحاً عن طريق الاشكال البصرية التي بدت معزولة عن بعضها ، وإن على مستوى المسافات بين شكل وآخر ، أو على مستوى المفردات المستعملة في الاشكال البصرية، إلا انها إتفقت على مغادرة الملفوظ النصي والإعتماد على الشكل البصري في إنتاج المعنى ، الذي بدا مباشراً في مواضع عدة ، ومنفتحاً على التأويل وتعدد المعنى في مواضع أخرى .
المعنى.. وفرضيات السبب والنتيجة:
إن إعتماد المخرج / السينوغراف على تقطيعات مكانية داخل فضاء العرض أسهم في خلق تشكيلات بصرية مستفيدا من توافر العرض على تقنيات متنوعة أسهمت في إلغاء الحواجز بين الفنون بما يتفق مع تقنيات (مابعد الحداثة) ، وقد بدا واضحاً ان المخرج أفاد من تقنيات السينما ، (والبيرفورمنس) ، والإعتماد على عناصر بصرية في الكشف عن الشخصية الدرامية ، التي يأتي في مقدمتها توظيف الألوان في الأزياء، والإكسسوارات التي أسهمت على نحو فاعل في التعبير عن افكار العرض، على الرغم من إختزال الاداء التمثيلي على نحو واضح بما يسنجم مع الطروحات البصرية التي إعتمدها المخرج ، بمعنى آخر فإن تنوع المشاهد البصرية أسهم في إنتاج متوالية فكرية كشفت عن معنى منسجم وقائم على مبدأ السبب والنتيجة على وفق فرضية بصرية أسهمت الإشارات التي إختارها المخرج داخل فضاء العرض في التأكيد عليها، إبتداءً من المشهد الاول: (صراع الأبيض والأسود) وقد إعتمد المخرج في تقديمه على الفلم السينمائي ، حيث تتصارع فيه الشخصيات، وهي إشارة بدت واضحة حيث أن كل من (الأبيض والأسود) يحتكمان إلى العنف في التعبير عن أفكارهما ومعتقداتهما عن طريق إستعمال اداة القتل (المسدس) الامر الذي يفضي إلى قتلهما ، وإختلاط اللونين معاً عبر تقنية سينمائية أسهمت في التعبير عن الصراع الطائفي الذي يفضي إلى موت جميع الاطراف ، وياتي المشهد الثاني (السياسي / رجل الدين / اللون الاحمر) بوصفه احد إفرازات الفكرة الاولى (الأبيض والأسود) ، وفيه صورة واضحة للتعبير عن اشكال المتصارعين وآلياتهم في التزييف الإجتماعي ، وقد جسّد هذه الفكرة الممثل (غسان إسماعيل) ، وتنقسم إلى (المرحلة الاولى) : ويكون اللون الاحمر مهيمناً على الشخصية ، وحاملاً دلالات عدة تتكشف تباعاً في المراحل اللاحقة ، (المرحلة الثانية) : السياسي الذي يرتدي الازياء الرسمية وفي داخله دماء الضحايا الذين يتساقطون عبر خطبه السياسية وتحريضه المزمن على إقصاء اللون المختلف معه ، (المرحلة الثالثة) : رجل الدين (المزيف) والذي عمل المخرج على تاكيد زيفه عن طريق تغيير أزياء الشخصية من السياسي إلى رجل الدين مستفيداً من تقنيات التغريب البريختي في تنبيه المتلقي إلى مضمون الفكرة ، وقد بدا ذلك واضحاً عبر (اللحية ) المزيفة و(عمامة الرأس)، وغيرها من اداوت الخدعة التي يتم عن طريقها تفعيل الصراع الطائفي بين ألوان الشعب المتنوعة .
المشهد الثالث : وهو تعبير عن دور المثقف السلبي في المجتمع ،إذ إختار الركون إلى اوراقه وعزلته المعرفية بعيدا عن إحترابات الألوان وصراعاتها الطائفية ، وهو تعبير دال على العلاقة بين المتصارعين السياسيين وشرائح المجتمع ونخبه الثقافية .
المشهد الرابع : ويأتي ضمن توصيف مشهد النتيجة ، وقد إعتمد فيه المخرج على المزج بين السينما والعرض المباشر ، عن طريق فكرة الطفل في المجتمع المتقاتل ، وهو يشاهد عبر التلفاز شريط من الذاكرة يتضمن مجموعة من الاطفال قتلوا بادوات متنوعة ترك المخرج إختيارها للمتلقي ، اما السبب وراء قتلهم فيعود إلى تلك الصراعات التي كشف عنها في المشاهد السابقة ، الامر الذي جعل من الطفل شاهداً على نتيجة ماحصل في بلاده وهو ينظر إلى المستقبل بعيون حائرة.
ولم يقتصر العرض على هذه المشاهد المتوالية على مستوى السبب والنتيجة بل تعداه ، عبر تقديم مشاهد اخر ، جاءت تعبيراً عن معاناة الإنسان ، كما في مشهد (عازف الخراب) الذي جاء تعبيراً تناصياً مع المقترح الجمالي الذي قدمته المايسترو(كريم وصفي) وإصراره على تقديم مقطوعات موسيقية في مواقع عدة من بغداد شهدت حدوث إنفجارات واعمال عنف ، وقد إختار المخرج تكويناً بصرياً منسجماً مع (كريم وصفي) مع إضافة شخصيات تتصارع على ثنائية الضوء والظلمة ، فاحدهما يشعل الشموع من اجل تحويل المكان إلى طقس للصلاة على الضحايا ، والاخر يتحرك مسرعاً لإطفائها ، معلناً ان زمن الظلمة يجب ان يستمر .
وفي مشهد آخر إختار المخرج من خلاله التعبير عن كرسي السلطة الذي بدا ثلاثي المعنى ،عن طريق اللون ، إذ أن اللون (الأسود) يغلف الكرسي ، تاركاً احد أركانه يحتفظ بنقاء اللون (الابيض) ، وكأنه بقايا أمل أو حلم تكون السلطة الحاكمة فيه قادرة على إنقاذ البلاد والعباد ، على الرغم من ان الإرضية كانت باللون (الأحمر) في إشارة إلى ان الصراعات السياسية التي إستطاعت ان تكون ارضاً خصبة للقتلة والمجرمين والطائفيين والإرهابين وغيرهم من تجار الحروب وصناع الموت ، لن تترك فسحة أمل لحضور اللون الابيض إلا عبر أكفان الضحايا.