ضمن مطبوعات الهيئة العربية للمسرح صدر مؤخرا.. كتاب “شعرية المشهد في المسرح الطفولي المغاربي للناقدة والأكاديمية الجزائرية الكبيرة د. جميلة مصطفى الزقاي
المسرح نيوز ـ الجزائر | ريان اسماعيل عزيز
ـ
ضمن مطبوعات الهيئة العربية للمسرح صدر مؤخرا .. كتاب “شعرية المشهد في المسرح الطفولي المغاربي للناقدة والأكاديمية الجزائرية الكبيرة د. جميلة مصطفى الزقاي ولأهمية الكتاب وما يحويه من جانب نقدي وجمالي وإبداعي في هذا الموضوع الهام.. آثرت الناقدة الكبيرة موقع “المسرح نيوز” بمقدمة كتابها القيّم ليكون دافعا لاستكمال القراءة.. وتمام الاستفادة
مقدمــة
تعد الشعرية أداة من أدوات التواصل والتفاهم بين جماعة من الناس في مجال من مجالات المعرفة، أو بالأحرى بين فئة من المختصين في حقل من حقول المعرفة العلمية والأدبية.
أشهر شعرية وأقدمها هي شعرية “أرسطو Aristote” التي تبنى أساساً على المسرح، لأنها تتضمن الأصول الفنية للتراجيديا وأسباب التطهير ونتائجه. ولا يعد كتاب أرسطو في الشعرية من أخطر الأعمال الأدبية الباقية من حيث التأثير فحسب، وإنما هو من أعظم إنجازات الذهن الأدبي في تاريخ البشرية. وتبقى هذه الشعرية الأرسطية مدخلا ينبغي للباحث – في العصر الحديث – أن يلمّ به بخاصة في مسائل التراجيديا وأصول الشعر الملحمي.
ومع ذلك، تتجاوز الشعرية بشكل واسع المجال المسرحي، وتُدخل في دائرتها أجناسا أدبية أخرى فضلا عن المسرح. إذ هي الحقل الدراسي الذي يعهد لنفسه مهمة تكوين نظرية داخلية للأدب، وتطوير المقولات التي تؤدي إلى الإحاطة بالوحدة والتنوع في كل الأعمال الأدبية.
ويستلزم ذلك استقصاء القوانين “العامة” التي تسمح بالكشف عن الكلية Totalité في كل الأعمال الأدبية”الفردية”. وعليه، فإن التجاوز أو السمو في الأعمال الأدبية هو النواة التي يتمحور حولها موضوع الشعرية، باعتبارها مجموعة المبادئ الجمالية التي تقود الكاتب في عمله الأدبي. وتتجاوز الشعرية اللغة إلى مجمل نظريات الإشارات أي علم السيميولوجيا الشكلية كما تتجاوز الأسلوبية، لتعالج قضايا لغة النص وقضايا القراءة وأثر النص.
ويرى “جيرار جينيت” Gérard Genet أنه على الشعرية ألاّ تقصر اهتمامها على ما هو موجود فحسب، وإنما عليها أن تنظر إلى أعمال غير موجودة، لكنها ممكنة، أي استكشاف مختلف احتمالات الخطاب Discours والتي لا تبدو الأعمال السابقة والأشكال المستخدمة فيها إلاّ حالات خاصة ترسم بعدها تركيبات Combinaisons قابلة للتقدير أو الاستنباط. بذلك تسلم الشعرية بوجود خاصية أدبية، وهذا ما أطلق عليه الشكلانيون “الأدبية Littérarité”، حيث ألحّوا على مفهوم “الاستقلالية Autonomie” في أمرين: الاستقلالية في الأدب بوصفه مقاربةً علميةً، والاستقلالية في الأثر الأدبي بوصفه مادة بحث نوعي. وتتألق الشعرية في القرن العشرين، لتصير علما موضوعه الشعر، ولتصبح فيما بعد منهجاً مواتياً لكل شيءٍ Extralliteraire.
ويعود الفضل في تحديد مصطلح الشعرية الحديثة إلى جهود الشكلانيين الروس الذين أكّدوا على ضرورة العناية بأدبية الأدب، وبذلك احتلوا مكاناً متميزاً في تاريخ علم الأدب. مع العلم أنهم استفادوا في البداية من الحركات الفنية بخاصة في مجال النحت والرسم. ولم ترتبط نظريتهم في مهدها بالأدب. مما طبع كتاباتهم بالحرص الشديد على خصوصيات العمل الفني ودراسة مميزاته. لأن العمل الأدبي بطبيعته عمل زئبقي وحركي، لا يعرف الثبات والاستقرار، وإنما يناشد التغيير وقلب الأوضاع على الدوام. ولذلك كان “إيخنباوم Ikhnbawm “يصر على الطابع المستقبلي للكتابات الشكلية، باعتبار الشكلية لا تعرف المهادنة، بل هي حركة دائمة نحو التغيير.
ويعتبر “رومان جاكبسون Jakobson” السراج الذي أنار للنقاد طريق الشكلانية، وقد أدّى دوراً هاماً بتحديده وظائف اللغة، مؤكّداً على الوظيفة الشعرية التي تهيمن على باقي الوظائف في النتاج الأدبي والشعري منه بخاصة.
وإذا كانت الشعرية تشمل المسرح، بما يشتمل عليه من قواعد ومعايير متعددة ومحددة، فإن هذه الضوابط بالنسبة لهذا الفن الجماهيري، تخفي انعكاساً إجمالياً، ووصفياً وبنيوياً، يؤثر على سير عمل النص أو المشهد المسرحي. وهذه هي علة شهرة علم الأدب والسيميولوجيا اليوم، مع العناية بهاتين المسألتين؛ أولهما تجاوز خصوصيات كاتب أو مدرسة، والامتناع عن سَنِّ معايير، هدفها تحديد ما يجب أن يكون عليه المسرح، وثانيهما معرفة المسرح بوصفه فنّاً مشهدياً.
وإذا تعلق الأمر بالمشهد المسرحي الموجه إلى شريحة الأطفال، فإن مسرح الطفل يعد وسيطا باهرا من الوسائط الثقافية، إذ يُتوئِم بين اللعب والمتعة الوجدانية وبين المحتويات اللغوية السميولوجية (النصوص المسرحية)، من حوار، وحركة، وألوان، وموسيقى، وحقيقة، وخيال، وجمال وغيرها… ولمسرح الطفل أهمية مضاعفة لما يؤديه من دور حساس، وخطير في تنشئة الأطفال، وتكوينهم، وتفجير طاقاتهم الإبداعية والسلوكية، لذلك يعدّه مارك توين Mark Twin من أعظم اختراعات القرن العشرين، ويراه أقوى معلم للأخلاق. إذ يهدي إلى السلوك الطيب، لأن دروسه تلقن بالحركة، وبالكلمة وتقمّص الشخوص وغيرها. فهو وسيلة تربوية وتعليمية، تتلاحم مع التربية الجمالية والخلقية. إضافة إلى إسهامه في التنمية العقلية والتعليم الفني للطفل منذ المراحل الأولى لتكوينه.
ولما تفطن أهل أبي الفنون لأهمية المسرح في تدعيم المبادئ التربوية المتصلة بالجوانب التعليمية، فضلا عن اهتمامه بالنواحي الخلقية والسلوكية، برزت أسماء شخصيات أسهمت في ميلاد مسرح الطفل، وتأسيسه، وصقله، منها على سبيل التمثيل لا الحصر، الفرنسية “مدام استيفاني دي جيبلينس “Stephani de Jiblinss”، والأديب النرويجي “أندرسن Anderson”، والإيطالية “جيسي جرانتو”Jessi Granetto”، و”الهراوي” رائدٌ من رواد المسرح الطفولي العربي، فضلا عن “حسن مرعي”، و”فوزي عيسى” وهيثم يحيى الخواجة وغيرهم…
عموما، تظل جلُّ هذه الجهود قد عالجت مسرح الطفل من حيث تعريفه، وأنواعه، وخصائصه، وأهميته، ومقوماته الفنية نصّاً وعرضاً. أما ما نجم عن الاهتمام بمسرح الطفل، فهو تلك التناولات الحديثة التي تنضوي ضمن ديداكتيكية المسرح المدرسي، أو تناوله من حيث قراءته شعريّاً نصّاً وعرضاً… هذا ما تتصدى له هذه الدراسة، غير أنه وإلى أواخر إنجاز هذا البحث تعذَّر العثور على أيّ مرجعٍ يكون قد تطرق لمثل هذا التناول من قريب أو بعيد، بخاصة جانب الجمع فيما بين المنهج الشعري ومسرح الطفل. لكن إذا أخذنا كلَّ طرفٍ على حدة، فثمة مراجع ثرّة تناولت بسخاء مصطلح الشعرية (*)، كما أن هناك مراجع كثيرة عالجت المسرح المدرسي، والمسرح التعليمي، والمسرح الطفولي، ومسرح الطفل، وغيره. في حين يركز هذا البحث على المشهد المسرحي الموجه إلى الطفل ودراسته دراسة شعرية من حيث النص والعرض.
أما عن الأسباب التي وقفت وراء انتقاء هذا الموضوع، فمنها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي. أما الذاتي، فيمكن تلخيصه فيما يلي:
– إيماني بعالم الأطفال وحبّي له والافتتان به، والنزوع إلى اللعب مع هذه الفئة، ومجاراتها في ألعابها الصبيانية.
– الرغبة في ولوج عالم الطفل لمعرفة أساليب خطابه، ومحاولة خدمته إبداعيا وفكريا وتربويا…
أما الأسباب الموضوعية، فتكمن في:
– إنارة مصطلح “الشعرية” لغةً واصطلاحاً والدخول في مفاصله وآثاره، ومحاولة التغلغل في كنهه لمعرفة جذوره الضاربة في القدم، والتي تعود إلى شعرية أرسطو، والنظرية المعيارية للأشكال في التراجيديا والملحمة.
– الرغبة في كشف الستار عن المسرح الطفولي في أقطار المغرب العربي، ومحاولة إدراك الفروق الجوهرية فيما بين دوله، وإبراز معالمه وخصوصيته في كل بلد على حدة. وبتغطية تجارب البلدان المجاورة يمكن الإفادة منها، بما يزكّي التجربة المسرحية الموجهة للطفل في الجزائر، ليتمكن البحث من خلق فرص التعايش المسرحي المغاربي.
– العمل على المقارنة بين الشعرية العربية والغربية منها، قصد إجلاء الضبابية التي تحوم حول مفهوم مصطلح الشعرية.
– الإسهام في الجانب النقدي والجمالي الذي من شأنه أن يعطي دفعا للاهتمام بمسرح الطفل، ويشارك في إثراء المكتبة الجزائرية ألسنيّاً.
وإذا تعلق الأمر بإشكالية الدراسة، فتتلخص في الجمع بين ثلاثة أطراف وروافد، هي: الشعرية، والطفل، والمسرح، كلّ واحد منها لا يقل أهمية عن الآخر. فكيف سيتم التفاعل والتعايش فيما بينها، لتعطينا الدراسة في الأخير تركيبة منسجمة ومتناسقة؟
وإذا كانت شعرية المسرح تعتني بإبراز الجانب الجمالي للعمل المسرحي وتعمل على تجسيده، وإبراز معالمه نصّاً وعرضاً حتى يتلقاه الطفل عن رضى واستحسان، كان ضرورياً لإشكالية هذا العمل أن تقف عند سيكولوجيا التذوق الفني والتفضيل الجمالي، وتطرح طائفة من الأسئلة منها ما يلي:
– إذا خضع النص المسرحي الطفولي وعرضه للمنهج الشعري، هل سيبقى محافظا على التذوق الفني والتفضيل الجمالي عند الأطفال؟
– هل سيقوى النص والعرض المسرحي الطفولي على استيعاب المنهج الشعري، باعتبار المنهج الشعري موات لكل شيء ؟
وإذا كان المسرح في هذا العمل سيرتكز على المشهد الموجه للطفل نصا وعرضا، فإن هذه الإشكالية تطرح التساؤلات الآتية: ما المشهد؟ وما الفروق الموجودة فيما بين المشهد وبين بعض المصطلحات المتداولة إلى جانبه مثل اللقطة والمنظر واللوحة وغيرها؟ وما أنواعه وخصائصه السيميائية والشعرية؟ وكيف هو المشهد المسرحي في دول المغرب العربي؟ وما هي المراحل التي مرّ بها مسرح الطفل في كل من الجزائر وتونس والمغرب وليبيا؟ وإذا أثبت مسرح الطفل وجوده في هذه الأقطار، فهل يمكن تطبيق الشعرية على نماذج مسرحية مغاربية موجهة لشريحة الصغار؟
انطلاقا من هذه التساؤلات، تسنّى للدراسة أن ترتكز على جملة من التيمات التي أسهمت في توضيح الإشكالية الأساس. حيث تم شرح وتحليل ومناقشة مدلول مصطلح ًالشعرية، ًانطلاقا من شعرية ًأرسطوً “بويتيكا”، إلى تداوله عند مجموعة من الألسنيين وعلى رأسهم: “رومان جاكبسون Jakobson و”تودوروف Todorov”، و”بول فاليري Paul Valery، و”جوليا كريستيفا Julia Kristiva، وجون كوهين J. Kohen، و”باختينBakhtine “، وغيرهم…
كما سعى هذا التناول إلى تقصّي تعامل الباحثين، والأدباء العرب في دراساتهم، وبحوثهم مع المصطلح، من أمثال “أبو هلال العسكري”، “وابن سلام الجمحي”، و”حازم القرطاجني”، والناقد “كمال أبو ديب”، “ونور الدين السد”، و”صلاح فضل” وغيرهم.
كما حاولت الدراسة رصد مسرح الطفل في أهم دول المغرب العربي (الجزائر، المغرب، تونس، ليبيا) من حيث كرونولوجيته التاريخية، وأشكال تواجده في هذه البيئات المتقاربة جغرافيا وثقافيا. وتبيّن هذا العمل مدى نذرة الدراسات وقلّتها في هذا الحقل الذي يكاد يكون بكراً، وبخاصة إذا تعلق الأمر بمسرح الطفل في ليبيا.
ويبقى الجانب التطبيقي بشُقّيه؛ أولا النص وما يشتمل عليه من مرفقات درامية مثل اللغة، والأسلوب، والشخصيات، والحوار وغيرها. ثم العرض بإشكاليته المعقدة، فضاءً، وديكوراً، وإضاءةً، وسينوغرافيا وغيرها، المعضلة الحقيقية في البحث التي كانت بحاجة إلى الثَّبات، وعمق النظر وسعة الاطلاع.
كل ذلك للتمكن من قراءة أعمال مسرحية من حيث النص، مع الوقوف عند عرض جزائري، تمّت متابعته وقراءة فرجته، حتى لا يتسم البحث بالتجريد والاحتمال. وعلى نقيض ذلك يشفع أحكامه بالحجج الدامغة والشواهد الفنية الحية. وتبقى إشكالية هذه الدراسة جديرة بالبحث الجاد والبناء.
تقتضي طبيعة هذا الموضوع، الاعتماد على منهج الشعرية الذي يعنى بمعرفة القوانين العامة التي تُسهم في ميلاد كل إنتاج أدبي، وتُنقب عن هذه القوانين بداخل الأدب نفسه، كما تبحث عن خصائص هذا الخطاب الأدبي والفني في توجّهه إلى شريحة الأطفال. ويحسن اعتماد هذا المنهج الذي يوائم كل ما له علاقة بالإبداع الأدبي والفني.
ليس من أولويات هذا المنهج “شعرية” شرح الحكم الجمالي، لأن ذلك لا يستلزم معرفة تركيبة هذا الإبداع الأدبي التي يجب أن تُيسّرها الشعرية فحسب، وإنما معرفة القارئ أيضاً، وما يمكن أن يدفعه إلى حسم حكمه.
وينبغي للمنهج الشعري أن يضطلع بدور “الكاشف” للخطاب المسرحي الموجّه للطفل متلقياً ومسهماً في الفرجة المسرحية. وقد عملت الدراسة من خلال هذا المنهج على إجلاء مجموعة المبادئ الجمالية التي تحكم النص المسرحي في خصوصية توجهه لشريحة الأطفال.
وبعد مقاربة المنهج الشعري مفاهيميّاً من جميع النواحي، تأكدت إمكانية تطبيق أدوات المنهج الشعري عند جاكبسون على النص المسرحي الطفولي، مع التركيز على المعايير اللسانية للخطاب الشعري، التي تتولّد من رحم الوظائف الست للغة الشعرية، وما تنضوي عليه من مبادئ التكافؤ والتوازي والتكرارات وغيرها…
يسعى هذا العمل إذن إلى محاولة تطبيق المنهج الشعري على هذا الرافد التربوي والوسيط الترفيهي؛ على أن يُمثَّل المسرح في مصطلح “المشهد”، وترتكز الشعرية على شعرية “جاكبسون Jakobson” بوظائفها الست. وهذا هو محور الجِدّة والأصالة في موضوع هذا البحث.
في الأخير، ليس في الوسع إلا التصريح بتواضع هذا العمل، الذي كان محاولةً واجتهاداً لولوج مجال لطالما وجد الباحث حرجاً في مقاربته وخوض غماره. مع أمل الإسهام في إثراء وتزكية الحقل اللساني الشعري، واستنطاقه للنصوص والعروض الموجهة لشريحة الأطفال في دول المغرب العربي.
د/ جميلة مصطفى الزقاي
* – ينظر الملحق.