عزت عمر يكتب: “للمسرح العُماني حكاية”.. عزّة القصّابي.. كتابة مسرحية تتماوج فيها الفانتازيا والاستعارات الرمزية التراثية.
*عزت عمر
عمان
ـ
منذ نشوئه ارتبط المسرح بالتاريخ وبالمتخيّل الحكائي الذي تناقلته الشعوب كتراث مشرق ارتبط بحياة وأمجاد الأمس، ولطالما اعتمد الكتّاب المسرحيون العرب هذا النهج لربط حاضرهم بماضيهم، نذكر منهم أبو خليل القبّاني و مارون النقّاش وسلامة حجازي وصولاً إلى ألفريد فرج وسعد الله ونّوس وغيرهم من الذين كرّسوا هذا الفنّ في بلادنا بفضل إبداعهم وصمودهم أمام معارضي المسرح الكثر وبخاصة في بداياته.
تكتب د. عزّة القصّابي مجموعة من النصوص المسرحية فضلاً عن أوبريت من وحي التراث والتاريخ العُماني، وهي الناقدة المسرحية والأكاديمية المتمرّسة في تناول العروض المسرحية في المهرجانات العربية والخليجية، وإلى ذلك فإنها تقدّم لكتابها بمقدّمة وافية وضّحت من خلالها أسباب اهتمامها بالتراث العماني قائلة: “إنّ توظيف التراث يعمّق أبعاد التجربة المسرحية لدى المبدعين، حيث يصبح وسيلتهم للتعبير عن الرؤى المعاصرة التي تواجههم” وقد ضمّ الكتاب ثلاث مسرحيات ذهبت أولاها إلى التاريخ العماني وإلى أيام الصراع مع المشروع الاستعماري في منطقتي الخليج والبحر الأحمر، فتكاثفت الأحداث حول شخصيّة محمّد بن عقيل السقّاف حاكم ظفار في مستهل القرن التاسع عشر ميلادي وقد سمّت المسرحية “قلعة السور” تتبعت فيها الخطّ التاريخي للأحداث وفق بنية “ميتامسرحية” بذائقة جمالية زاوجت ما بين خشبة المسرح والشاشة، بما تتطلّبه اللحظة التاريخية من عرض مشاهد مؤفلمة، فضلاً عن تفعيل الخيال وإضافة شخصيات جديدة: بغرض تعزيز الفعل على الخشبة، وتقديم مزيد من الإضاءة لهذه الشخصية العُمانية الفذّة، وأخيراً تصحيح الصورة التي اعتمدتها بعض المصادر الشحيحة حوله وبخاصة المصدر الغربي، فضلاً عن “المغالطات والزيف الذي ورد بحادثة مقتله.”
أما المسرحية الثانية “شذا الكيذا” فهي عبارة عن نقلة استعارية رمزية تذهب في الجانب الاجتماعي والصراع الدائم بين الخير الشرّ مُمَثلين بالأنوثة والذكورة، حيث ثمّة زهرة تضوع بعطورها تسمّى “زهرة الكيذا” وانزياح نسبي تجلّى في فاعليتها ونشر شذاها حيثما حلّت، وكذلك هي “عروس الكيذا” التي ينبغي موضعتها المكانة التي تليق بها.. مكانة الحبيبة أو مكانة الأمومة وأثر حضورها الإحيائي، وفي هذا الصدد سوف تركّز الكاتبة على تعزيز رؤيتها المسرحية لكي يتكامل العرض بمزيد من الرقص التعبيري والغناء الجماعي الشجي إلى جانب الحبكة الصراعية المعتمدة على غزارة سردية تتناعم فيها مع جموع الأصوات:
ـ سعادة (بحزن وأسى): ما سمعت يا ريما أن أمّك نعيمة كانت تعشق الكيذا، وأنها من حبّها له زرعته في روجها، وسقته بأحلامها وأشجانها، ويوم الكيذا ذبل واختفى ضاعت حكاياتها وأحلامها، وصار لازم تعرفي أنّ شذا الكيذا، أطيافه، رحلة حياة وذكريات أمّك الغالية.”
فثمة نقاء كلّي يتمثّل بالزهرة، وثمة ذكورة لا تأبه بكلّ هذه الخصائص الأنثوية، لأنها من حيث الأساس لا تكترث إلاّ لذاتها وأناها، والمؤسف أنه مع تصاعد الأحداث يقتل الزوج جابر، كما في مسرحية عطيل، زوجته نعيمة ويدفنها في حوض الكيذا، وإذا كان عطيل قد فعلها بدافع الغيرة الحمقاء، فإنّ جابراً فعلها انتقاماً لأناه الشريرة، فتذهب نعيمة شهيدة للظلم الذكوري غير أنها ستتموضع مع زهرتها في الذاكرة كأسطورة جميلة وحزينة ما فتئت النساء تحتفلن لذكراها من خلال طقسيّة إحيائية تسمّى “الزفّة” وهي خاصّة بنعيمة المتماهية بزهرتها، وليست بزواج أحد ما.
ومن هنا تأتي أهمية هذه الطقسية المرتبطة بزهرة عطرية دأبها نشر عطورها كرمز للعطاء والخير عموماً، وكذلك هنّ النساء اللاتي جابهنَ عنف الذكورة وشروها بإحيائية الأرض بالنبات، بزراعة البذور لإطعام الأطفال، حيث لكل نبتة حكاية قد تذهب في الأسطورة بحيث تتموضع في الوجدان الجمعي، أو تشكّل رمزاً لمشترك المكان، وفيما أظنه أن عُمان وحدها قد استأثرت بزهرة الكيذا كرمز وكطقسية نسائية مازالت حاضرة في الفولكلور الشعبي وقد قدّمتها المؤلّفة على شكل فرجة جميلة:
“تظهر مجموعة من النساء وهنّ يرتدين الزيّ الشعبي، كما تظهر نعيمة و سعادة بينهنّ، ويمتلأ المكان بالزغاريد وأدخنة البخور والعطور و زهرة الكيذا التي تقوم النسوة بتزيينها والغناء الجماعي:
لو داني دان.. يو داني
يوم الكيذا.. يالله يو عين”
والزهرة المغطاة بقماش أخضر تبرز جلية من خلال حلقة النساء اللاتي سيقمن بطقسية الزفّة، وهنّ يرددن يرددن:
“قدّام بيتكم فلج يسقي البستاني
يسقي السفرجل ويسقي الموز والتيني”
بما يؤكّد ما ذهبنا إليه من الممارسة الإحيائية التي تدركها النسوة وتناقلنها جيلاً بعد جيل وملخّصها أنه كلّما أحيينا الأرض كلّما كانت الحياة أفضل وكاستجابة فطرية لسيرة الخير والخيرات.
المسرحية الثالثة “حكايات وأمثال عُمانية” تعاود المؤلّفة ما يمكن تسميته بالبنية التناصية للقصص الشعبي العُماني، فتؤسس لعرض فرجويّ ينهض على الكوميديا “فيما يؤدّي الخيال دوراً مهماً في تشكيل أحداثها وبناء شخصياتها” على حدّ تعبير د. عزّة، ونحن، كناقد ومتفرّج، نتّفق مع هذا التوجّه الجامع بين عناصر الفرجة والقصّة المستوحاة منها، لتعزيز البعد الدرامي واستعادة زمان الفرجة بعدما أسقمنا المسرح النخبوي بعروضه ومقترحاته الجمالية المتكررة وفضاءاتها السوداوية.. أن نذهب إلى المسرح لنضحك، لنفرح، ما المانع؟ ثمّ ماذا يمنع في أن يكون لمثل هذا المسرح صالة في “المول” يقدّم عروضه فننحاز له بدلاً من السينما؟!
يتأسس النصّ المسرحي “حكايات وأمثال عُمانية” على قصّة تراثية اسمها “أرضية سماوية” وهي تحكي حكاية رجل ثري اسمه “الشيخ سالم”، “يحبّ المرح ورواية القصص الخيالية، ولذلك فإنه كان يدعو الناس لمجلسه لأجل سرد الحكايات”، بما يشبه المسرحية داخل الحكاية وبما يشبه التأليف الجماعي أو إدارة التأليف في مستوى جلسات السمر، حيث تبتدع مخيلة الجماعة حكاية تتمّ مسرحتها للتوّ، كتسلية وفرجة في آن، ولذلك فإنّ المؤلّفة عملت على تعزيز هذا الجانب بلوحة راقصة مستوحاة من التراث العُماني في استهلالها للحكاية وكمقترح جمالي أوّلي أعدّ خصيصاً لجمهور المشاهدين، إذ إن التفاعل مطلوب في هذا النمط من المسرحيات التي تأتي من عالم السرد الجميل.
ثمّ يأتي أوبريت “الفارس و المجهول” المستوحى بدوره من التراث الشعري العُماني، عملت المؤلّفة على مسرحته في عدد من المشاهد التي تتخللها فواصل غنائية شعبية، وتؤكّد المؤلّفة في تقديمها للكتاب أن هذا النمط الاحتفالي ما يزال حاضراً في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية والوطنية. وحكاية الأوبريت تتكاثف حول شخصية سيزيفية تعيش في بلدة صغيرة وتسمّى “مرهون” وهو شاب ثلاثيني، إلى جانب “شيخ الحظ” الخمسيني المتّصف بالهيبة والوقار وشيخ البلدة وعائلة مرهون المؤلّفة من زوجة توفّيت وأخرى جديدة وأبنائه الثلاثة وأمّه.. فضلاً عن عدد آخر من الشخصيات التي ستدخل الأحداث المتلاحقة، ويخرج غيرها. لهذه الشخصية التراجيدية التي ما سمّيت (مرهون) عن عبث لاسيّما وقد كُتب عليها الشقاء والتعاسة لغرض تشويقي ومغامراتي في الوقت نفسه، بالرغم من الطيبة والتضحية والشهامة وكافة القيم النبيلة التي تحلّى بها وتليق بكينونة الإنسان، ليأتي السؤال: لمَ إذن هذا العقاب؟ وإذا كان سيزيف قد خالف الآلهة فاستحقّ العقاب، فما الذي فعله مرهون كي يعاقبه القدر على هذا النحو؟
يخلص لزوجته وأمّ أولاده لكنها تمرض وتموت، ثمّ يتزوّج بأخرى لترعى أبناءه اليتامى، وها هي تهملهم تاركة الحمّى تجتاح الصبي الصغير دون أن تكترث له، الأمر الذي سيحدث بينها ومرهون مشكلة كبيرة سوف تتفاقم لا سيّما بعد موت الطفل بسبب مرض الطاعون وانتقال العدوى إلى البقية، ثمّ ما يلبث أن يختطفهم واحداً تلو الآخر فلا يبقى سواه، وفي تلك اللحظات الشديدة الوطأة يقرر إنهاء حياته فيعاوده شيخ الحظّ، الرجل الذي التقاه في السوق وأخبره بسوء حظّه وطالعه.
وفي هذه اللحظة الخطيرة ما بين الموت والحياة تأتي المصادفة مصطحبة معها العجائبي لتحويل قدر أو طالع مرهون من السلب إلى الإيجاب، بمعنى أن يتحوّل النحس إلى حظّ سعيد وفق آلية التخييل الشهرزادي للبطل، فتبدأ المصادفات تفعل فعلها في حياته وتوجهها من حافة اليأس إلى نجاحات متتالية: ينقذ شيخ المدينة من عملية اغتيال، والشيخ يكرمه وبدرجه في حاشيته ويجعله مسرولاً عن بيت المال، والشيخ إلى ذلك لديه ابنة مدللة اسمها جوهرة، فضلاً عن اللغز الأوديبي الذي يطرحه الشيخ، وتمكّن مرهون من حلّه، وكلّ ذلك مُعزز بفواصل من الغناء والرقص والأهازيج الماتعة التي تضفي على النصّ جوّاً احتفالياً جماهيرياً، وكأن كلّ ذلك تمهيد لعرس فخم سيتمّ بعد قليل، إلاّ أن الأقدار تعود للوقوف ضدّه وتخيّب أمله في الزواج من جوهرة، ولربّما هذه المفارقة المؤلمة لذات البطل ولمشاعره مقصد سرديّ شهرزادي لاستكمال حكاية “الفارس المجهول” أو البطل الشهرزادي وهو يزور بلاداً أخرى وفق تقنية الحكاية الإطارية.
ــــــــــ
*للمسرح العماني حكايته، نصوص مسرحية وأوبريت من وهج التاريخ والتراث العماني،
د. عزّة القصّابي، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط، 2015.