المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص
ـ
عنكبوت السرك
تأليف: سعاد الوافي
الملخص
النص المسرحي هو عبارة عن مونولوغ لشخصية وجدت نفسها مجبرة على الجلوس في البيت وعدم مغادرته خوفا من عدوى قاتلة تفشت في البلاد .الشعور بالعزلة و الإحساس بالوحدة تخلق اضطرابا نفسيا حادا لدى الشخصية تجعله يبوح بأسرار و اعترافات تؤدي به في النهاية إلى محاكمة نفسه بنفسه.
الشخصيات:
رجل في منتصف العمر.
مهنته : يعمل في السيرك (مروض حيوانات و ساحرو بهلوان)
اللوحة الأولى:
يظهر عمر و هو يقفل النوافذ بإحكام و يتأكد من إقفال الباب الخارجي المؤدي إلى الشارع. يظهر القلق و الانزعاج عليه .يجلس و ينهض مرات عديدة، و يعبر الغرفة يمينا و يسارا و يجوبها طولا و عرضا و كأنه يقيس مساحتها.يلتفت إلى جدران الغرفة و يتلمسها جدارا، جدارا، واحدا تلو الآخر، ثم يقف جامدا يبحلق في الجدران و كأنه يراها لأول مرة في حياته.يحاول أن يقيس طول و عرض الجدران المحيطة بالغرفة باستعمال يده .و يكرر العملية مرات متتالية .يشعر بالخوف ويبدأ في الهروب و كأن أحدا يطارده .يجري في الغرفة و يرتطم بالجدران و يحاول فتح النوافذ و لكنه يتراجع عن ذاك ،و يتوجه صوب الباب و يحاول فتحه و لكنه يتراجع عن ذلك أيضا .يعود و يجري في الغرفة في خوف شديد و ارتباك يشل حركته فيسقط على الأرض.يرفع رأسه عاليا و يبحلق في سقف الغرفة و كأنه يراه لأول مرة .ثم ينهض بسرعة و يجلب سلما و يصعد عليه و يمد يده محاولا لمس سقف الغرفة ، و يلفت نظره عش عنكبوت تدلت خيوطه بالقرب من لمبة الإنارة فيسعد لرؤيته و يبتهج و يصرخ بأعلى صوته و كأنه وقع على كنز، ثم يضحك ضحكات متتالية و هستيرية يفقد معها توازنه فيسقط على الأرض . يتوقف عن الضحك و يشعر بنوع من الألم في جسده فيتحسس جسده بيده و كأنه يطمأن عليه و يتأكد من سلامة كل عضو فيه . و يعاود النظر إلى السقف من جديد و كأنه يبحث عن شيء ما هناك ثم ينهض بسرعة و يصعد السلم من جديد و يتفقد خيوط العنكبوت فيجد العنكبوت مازالت باسطتا خيوطها فيطمأن لوجودها هناك و يتتبع حركاتها و هو يحرك رأسه في كل اتجاه و يتنهد بعمق و يقول:” آه يا صديقتي ،كم يسعدني أنك هنا معي في هذه الغرفة”. ثم يصمت قليلا و هو ينظر إلى شبكة الخيوط المنسوجة حول العنكبوت و يقول:”ترى، كم تستغرقين من الوقت لتنسجي حولك كل هذه الخيوط ؟ أقصد لتبني لك بيتا؟ لابد أن ذلك يتطلب منك وقتا طويلا و جهدا كبيرا أيضا.” يصمت قليلا و يتابع النظر إلى عش العنكبوت المنسوج بعناية فائقة ثم يقول:”بيتك جميل ، حقا جميل و منسوج بعناية فائقة.شيء مدهش، مدهش . تبدين مسيطرة على الوضع تماما و أنت تتسلقين الخيوط من الأسفل إلى الأعلى و من الأعلى إلى الأسفل و تتمايلين يمينا و شمالا و تتبخترين في حركاتك. لعلك فخورة ببيتك الذي نسجته من حولك لتحتمي به ، و ليكون فخا لمن يدنو منك، أليس كذلك؟ يا لك من داهية ، شيطانة أنت، بل و ماكرة و خادعة.تعتمدين الإغراء لتجذبيه إليك، و توهمينه بالأمان ليسكن إليك، و تفرشين له جسدك لينغمس في لذة الجسد و تخنقينه بعدها بخيوطك و أنت تتلذذين بموته و ترتعشين من نشوة الحب.(‘يصمت قليلا،ثم يبدأ في النزول ببطء من على السلم و هو يقول:”لم أكن محظوظا في الحب ، ربما لأنني لم أصادف الحب الذي ترسب في ذهني من القصص و الحكايات التي سمعت و قرأت عنها ، و ربما لأنني لم أعرف معنى الحب، و ربما لأني عشقت من المرأة الجسد، ذلك الجسد الملتهب الذي يفيض حرارة تحرق كل من يدنو منه .(يصرخ) هكذا عشت حياتي أحترق مرات عديدة بين نيران الجسد و عذاب الضمير،أغدو رمادا و أصحو من جديد على أنفاس تحييني لتقتلني.(يصمت قليلا ثم يتابع) نقطة ضعفي أنني عشقت النساء، (تتغير نبرة صوته و يتخللها نوع من الضعف و الخضوع ) عشقت ضحكاتهن،عشقت همساتهن، و غنجهن و دلالهن، كل ذلك كان يضعفني و يسلبني عقلي و يشل تفكيري فلا أقوى على كبح شهوتي و لا إخماد ناري إلا بنار تحرقني و تحولني إلى رماد.(يصعد السلم من جديد)هكذا أنت أيتها الأنثى،تعملين في صمت و تخططين في هدوء،و تخفين وراء ضعفك قوة، وجبروتا، و انتقاما و شهوة تخفينها وراء انشغالك بنسج هذه الخيوط من حولك، و التي تخنقين بها كل من سولت له نفسه الاقتراب منك. أترين ، أترين كم أنا تعس و حزين و مهزوم أيضا؟ لعلك تسخرين مني الآن و تقولين عني مجنون. و لكن لا ، لن أسمح لك أن تسخري مني و لا أن تقللي من شأني.” (يصمت قليلا و يتابع) ”أ لست خائفة مني؟(يرفع صوته عاليا) أستطيع أن أنسفك نسفا و أمحوك محوا فقط ،فقط بأصبعي هذا، أو بنفخة واحدة مني ،و لكن (يخفض صوته) ا طمأني ،اطمأني لن أفعل بك هذا (يضطرب صوته و تحس من نبرة صوته أنه منهزم و ضعيف) ليس لأنني بحاجة إليك، أو بحاجة إلى من يؤنسني في وحدتي و عزلتي بهذه الغرفة الباردة، و لكن لأنني (بنبرة مليئة بالمكر و النفاق) رجل طيب ،و عطوف، و حنون، و شهم، و لهذا لا يمكنني بتتا أن أؤذيك، أو حتى أن أجرؤ على التفكير في ذلك.( تتغير نبرة صوته و يشوبها نوع من الغضب) لا بد أنك تسخرين مني في نفسك و تقولين عني أنني (يبدأ في النزول من السلم ،درجة بدرجة و هو يتكلم)إنسان أناني،و مخادع ،و كذاب ،و منافق، و ظالم، و مغرور،و خائن (يصل إلى الأرض) و مريض . أجل أنا إنسان مريض، أعترف و أقسم أنني مريض، مريض و جبان أيضا، و لكنني( يتغير صوته و يتخلله نوع من الزهو و التكبر و يرفع رأسه و كأنه يخاطب العنكبوت) مروض جيد،و بهلوان ناجح، و ساحر محترف، أجل أنا ساحر محترف و مرموق و الجميع يعترف بمهارتي في اللعب بالأوراق،و يصفق بحرارة ،أجل بحرارة (يتحمس و يبدأ يصفق) على الخدع ،الخدع السحرية التي أبهرهم بها ، أجل ، اجل تلك الخدع السحرية هي المفضلة لديهم و المفضلة لدي أنا أيضا .إنهم يصفقون على جهلهم و عجزهم للقيام بمثل ما أقوم به من ألعاب لأسحر أعينهم بها،و يصفقون على غبائهم أيضا.هم يدركون جيدا أنني أخدعهم بخفة الحركة التي تخطف الأبصار و تجعلهم يحذقون في كالبله بعيون جاحظة و أفواه مفتوحة دون أن يفقهوا شيئا مما أقوم به أمام أعينهم (يضحك بسخرية ههههه) أغبياء،أغبياء،و لكن لا بأس ، المهم أنهم يضحكون و يلهون و قد جعلوا مني نجما و أسطورة الكل يحكي عنها(هههههه).( يصعد على السلم من جديد و يبحلق في الخيوط المنسوجة حول العنكبوت و يقول)”أين أنت ؟(يبحث عن العنكبوت و يدور رأسه في اتجاهات مختلفة )”أه ، ها قد عثرت عليك، أما زلت تنسجين خيوطا حولك؟ لقد صار عشك بيتا فسيحا، لا بل قصرا فخما.إنك لا تكفين عن العمل ،تشتغلين ليل نهار لتبني هذا البيت من حولك .(يصمت قليلا وهو يتأمل شبكة الخيوط المنسوجة حول العنكبوت) لا بد أنك خائفة من شيء ما، و تحصنين نفسك وراء هذه الخيوط،أليس كذلك؟ (يتنهد ) أنا أيضا خائف،خائف ، و مرعوب و لا أشعر بالأمان(ينكمش على نفسه ثم ينزل بسرعة من على السلم و يتوجه صوب الباب و النوافذ و يتأكد من أنها ما زالت مقفلة و يأخذ صابونا و يبدأ في غسل يديه مرات تلوى مرات و هو يفركها فركا و كأنه سينتزعها من مكانها و بعدها يغسل وجهه، و ينظف أنفه بطريقة مقرفة ،ثم يفتح فمه و يخرج لسانه و يظل يبحلق في فمه المفتوح أمام المرآة و بعدها يأخذ فرشاة و يغطيها بمعجون الأسنان و يبدأ في تنظيف فمه و أسنانه و لسانه بطريقة مثيرة للإشمئزاز،و يفرش أسنانه بعنف و يبصق،و يخرج لسانه و يفركه بالفرشاة و يبصق ،يدخل أصبعه في فمه و كأنه يريد أن يقتلع ضرسا من فمه أو شيء ما عالقا بحلقة ، يتعب من فرط التنظيف و يملأ فمه بالماء و يتمضمض مرات عديدة و بعدها ينتهي بتنشيف يديه و وجهه.يجلس بعدها ثم ينهض بسرعة يلتفت حوله ، و ينظر يمينا و يسارا ثم يتطلع إلى الجدران و الأرضية و الطاولة الصغيرة التي بالغرفة .يسرع و يأخذ سطلا صغيرا و يملأه بالماء و الصابون وجميع أنواع المطهرات و المعقمات ثم يأخذ منشفة و يبدأ في تنظيف البيت بجدرانه و أرضيته و أسطح الأشياء الموجودة بالغرفة).يشعر بالتعب فيسقط على الأرض )” اللعنة على هذه الحرب،منذ أن بدأت و نحن على هذه الحال تنظيف،تنظيف،تنظيف،تنطهير،تعقيم، تنظيف،تعقيم،تطهير،لقد سئمت من الماء و الصابون و اشتقت إلى القذارة . القذارة أريح و رائحتها ألطف بكثير من رائحة هذا المعقم الذي يكاد يخنقني.لقد تعودت أن أفترش لي مكانا بين القرود و الكلاب ، مكانا ارتاح فيه بعد عناء القفز على الحبال و اللعب مع القرود.السرك عالم جميل و لكنه قدر. إنه يخفي وراء الأضواء و الفرجة أنين و صراخ حيوانات باتت سجينة في أقفاص حديدية. ليس في السرك مكان للضعيف .الضعيف يقتل و يرمى خارج الحلبة.
(يصرخ بأعلى صوته) .أتذكر جيدا ذلك الفيل العجوز الذي قضى جل عمره في خدمة السرك، و إطاعة الأوامر و إسعاد الناس و عندما مرض قصف برصاصة أسقطته جثة خامدة.(يبدو عليه التوتر) و أذكر جيدا ذلك اليوم الذي فقدت فيه توازني و أنا أقفز من حبل لآخر و سقطت على الأرض و تكسرت قدمي و لكني وقفت عليها رغم الألم و تابعت العرض كي لا أقتل.السرك عالم مزيف و خادع، يخفي وراء الابتسامة أنيابا و مخالب شرسة لا تعترف بالرحمة. (يأخذ سوطا كان معلقا على الجدران، و يتخيل نفسه أنه في السرك يروض حيوانات) ،(يرفع السوط عاليا ثم يهوي به على الأرض و كأنه يجلد أحدا. يكرر العملية مرات عديدة و هو يردد بصوت مرتفع:”هيا ، هيا أيها الفيل لابد أن تركع ،أريدك راكعا، منحنيا، مستسلما، خاضعا،مطيعا لأوامري( يهوي بالسوط على الأرض محدثا ضجيجا قويا) ،هيا، هيا ، ضخامة جسدك هذا لن تشفع لك إن لم تنفذ أوامري، أنت تعلم جيدا القانون هنا فإما أن تكون أو لا تكون،و لا أظنك تريدني أن أقتلع لسانك مثلما اقتلعت أنيابك العاجية من قبل.( يضحك بصوت مرتفع هههههه) ” هكذا ، هكذا، جيد ، جيد، أيها الفيل.أنت الآن فيل مطيع و تستحق أن أطعمك السكاكير التي تعشقها بيدي هاتين( يمد يده في جيبه و يخرج قطعا صغيرة من السكر و يتخيل نفسه أنه يطعم الفيل ).( يعاود الضرب من جديد بالسوط على الأرض و هو يقول:” و أنت أيها الأسد الشجاع ،أظن أنك قد تعود العيش داخل هذا القفص الجميل ، أليس كذلك ؟ هههه، لقد صرت مدمنا عليه و تقبل عليه بكل طواعية و حب بعد أن كنت تقاومه بكل عنف و تنفر منه .(يعاود الضرب بالسوط على الأرض. يتنهد بعمق) ” حسن، هكذا أفضل، أفضل لي و لك أيها الأسد الشرس ههههههه، لم تعد شرسا، أنت الآن جميييييييل، و وديييييييع،و حنوووووون، أرأيت ؟ أرأيت كم هي الحياة جميلة و مريحة داخل هذا السرك العجيب و داخل هذا القفص الجميل؟ أليست أفضل من تلك الغابة الموحشة التي تركض فيها خلف فريستك و تعرض فيها حياتك للخطر؟(يصمت قليلا) الحرية، الحرية جميلة، و لكنها أيضا متعبة، متعبة جدا يا صديقي الأسد (يهوي بالسوط على الأرض) إنها تكلفك أحيانا حياتك، وأنت هنا و كما ترى في أمان تأكل،و تشرب،و تنام و من دون أي مجهود،( تتغير نبرة صوته و تصير أكثر حدة و غلظة) فقط ،فقط أريدك أن تفعل ما أريده منك أنا ،أنا و لا أحد غيري أنا .(يلتفت يمينا و يسارا و كأنه يبحث عن الحيوانات التي كان يكلمها ، و ينظر إلى السوط الذي يحمله في يده و يستغرب لوجوده في يده ثم يرميه بعيدا عنه و كأنه كان في حلم و يستفاق منه على حين غفلة ثم ينظر إلى السقف و يصعد السلم بسرعة و يبحث عن العنكبوت محركا رأسه في اتجاهات مختلفة) ” أين أنت ؟ آه ، أما زلت تنسجين خيوطا و توسعين دائرتها. أه، يا إلهي، لقد أصبحت شبكة ضخمة تسع الملايين من العناكب .لابد و أن غنائمك قد زادت أيضا،أليس كذلك؟ لا أصدق، عنكبوتا بحجمك المهين هذا يبني بيتا ضخما كهذا؟(ينزل من السلم بسرعة و يتوجه جهة النوافذ المغلقة و كذلك جهة الباب المقفل المؤدي للخارج) اللعنة على هذه الحرب، ألم يحن الوقت بعد لتضع أوزارها؟(يصمت قليلا) و لكن عن أي حرب أتحدث؟ كل الحروب كانت تدق لها الطبول، و تشحد لها الجنود، و تسن لها السيوف، و ترفع لها الرايات ،إلا هذه الحرب ،(يقترب من النوافذ و يلصق أذنه عليها محاولا التصنت على الخارج ،و يكرر نفس العملية مع الباب و الجدران المحيطة بالغرفة) ”لا شيء ، لا شيء سوى الصمت.صمت رهيب، و أفواه مكممة، و قلوب مرتجفة،و عيون جاحظة،و عقول معطلة،و أبواب مقفلة، و شوارع فارغة،و أزقة باردة،و بيوت كئيبة،و مساجد مسدودة،و كنائس حزينة، و بضائع مركونة، و أموال مشلولة،و مدارس مهجورة،و صمت رهيييييييييب.اللعنة على هذه الحرب .و لكن عن أي حرب أتحدث؟ أي حرب هذه التي نعيشها الآن؟ حرب ضد مجهول، حرب ضد متخف، حرب ضد شيء و هو لا شيء ، حرب ضد لا شيء و هو شيء.( يتخيل نفسه و كأنه يبارز عدوا بالسيف) السيف أرحم بكثير،و عدو ظاهر خير من عدو خفي ( يتوقف و يسقط على الأرض و هو يردد) ” عدو ظاهر خير من عدو خفي،عدو ظاهر أرحم من عدو مجهول. (ينهض) حضارات عظيمة لم تهزمها حروب و لكن أسقطها عدو خفي تسلل إليها في صمت و خفاء فأسقطها فريسة سهلة تنهشها الكلاب.( يعلو صوته عاليا) الخيانة، الغدر،الجشع، الطمع، السلطة،المال،الأنا اللعينة، ما زلنا نأكل من نفس الشجرة الملعونة و نتلذذ بثمارها المسمومة، ثمار أشقت آدم و أخرجته من نعيم الجنة إلى جحيم الأرض . أليس هذا جحيما؟(يركض في الغرفة مذعورا، ينظف يديه بالماء و الصابون و يكرر العملية مرات عديدة،و بعدها يعقم يديه و سائر جسده بمعقم) إنها لعنة، لعنة الخوف،الخوف من الشارع،الخوف من الناس،الخوف من المشي ،الخوف من الهواء، الخوف من جسدك، الخوف من نفسك على نفسك.إنها لعنة و رب السماء لعنة.الساحة فارغة تماما ،و الكل منكمش في ركنه يسترق السمع و ينظر في توجس عبر ثقب الباب، و ينتظر.(يسرع جهة الباب و يلقي بسمعه كمن يحاول التقاط صوت أو سماع شيء) و لكن لا شيء،لا شيء على الإطلاق،فقط هناك صمت و صمت رهيييييييب.إنها حرب الخفافش،و الأفاعي، حرب لا تسمع فيها إلا همسا، و وشوشة ،و لا ترى فيها من أحد سوى الفراغ.فراغ قاتل،و خواء يصدح صداه في الأفق معلنا حالة استسلام . (يصعد السلم من جديد ) ”أوه ،يا إلهي،ما هذه العناكب الصغيرة؟ لقد صارت لك عائلة أيضا،لابد و أنك قد تخلصت منه بمجرد أن تحقق مرادك،يا لك من داهية ،لا تريدين منافسا و لا ترضين بشريك يقلق راحتك، أنت المسيطرة و المتحكمة و الحاكمة دائما.تلتهمينه و هو في أوج نشوته،و تستغلين ضعفه و هو بين أحضانك.(يصمت قليلا ثم يتابع) ”ما يعجبني فيك هو إصرارك على بناء بيتك و توسيعه رغم أنك تدركين أن بيتك هو أوهن البيوت و أنه باستطاعتي نسفه و سحقك بحركة بسيطة مني،و لكن اطمئني فلن أفعل هذا بك أبدا ”(ينزل من السلم و يتعثر و يسقط على الأرض. يحاول النهوض و يسقط ثانية ،و يكرر العملية مرات عديدة و لكنه يفشل و تخونه قدماه.يبدأ بعدها في الزحف على الأرض ) ( يتهيأ إليه أنه يسمع صوت ضحكات صاخبة و مستهزئة بحاله) ‘ هههههههه’ ”هههههههههه” هههههههههه”، يحاول النهوض و لكنه يقع على الأرض و يصرخ” من ؟ من ؟ من أنت؟من هنا؟”
اللوحة الثانية
الرجل: (مذعور) من ؟ من أنت؟من هنا؟
الصوت:أنا من أجبرك على رمي السوط من يدك أيها الجلاد.(بصوت غليظ و معاتب)
الرجل: أنا لست جلادا، لعلك مخطئ .أنا مروض ،مروض حيوانات في السرك،و ساحر أيضا.و لكن من أنت؟ من هنا؟( يبحث في الغرفة يمينا و يسارا)
الصوت:ههههههههه. مروض حيوانات و ساحر أيضا .(يسخر منه)
الرجل:(متوتر و خائف) من، من هنا.( يخيل إليه و كأن أحدا يدنو منه.يصرخ)” لا ، لا أرجوك لا تقترب مني. التزم مسافة الأمان ،و لا تلمسني، ابتعد عني أرجوك ،ابق بعيدا، بعيدا عني”
الصوت: تتحدث الآن عن مسافة الأمان، مسافة الأمان؟ أين كانت مسافة الأمان هذه عندما كنت تتباهى بإذلال الحيوانات و رفع السوط في وجهها؟ أين كانت مسافة الأمان هذه عندما كنت تطلق النار على كل حيوان لم يمتثل لأوامرك؟
الرجل: كنت أنفذ الأوامر أنا أيضا ، ثم أنا رجل سرك و ذاك عملي.
الصوت:و السرك أصبح فارغا الآن، مهجورا تماما.لم تعد هناك حيوانات و جميع الأقفاص مكسورة و لم يعد هناك جمهور.و ليس هناك من يصفق عليك، و أنت وحدك هنا في عزلتك الكئيبة هته خائف،و مرعوب،و ضعيف. هههههههه. ههههههههه(يختفي الصوت و يعم الصمت)
الرجل:( يتكئ على عصا و هو يجر قدمه المتوعكة و يجوب في الغرفة)” اللعنة، إنها تؤلمني كثيرا (ينظر إلى قدمه و يحاول تدليكها بيده) (يقترب من السلم يحاول أن يصعد و لكنه يفشل و يسقط . يرفع رأسه مخاطبا العنكبوت)” كنت أريد فقط أن أطمئن عليك و على عناكبك الصغيرة ”( يطأطئ رأسه).
( يتكئ على عصاه و يجر قدمه المتوعكة) ” اللعنة، سئمت الانتظار، و لكن ماذا أنتظر؟ ما الذي أنتظره من جلوسي و حيدا بهذه الغرفة الباردة؟ ما الذي أنتظره من عنكبوت عالق بسقف الغرفة؟ ما الذي أنتظره كي أفتح الباب و أخرج إلى الشارع؟ما الذي أنتظره كي أعود إلى حياة السرك من جديد؟
( يصمت قليلا)” اللعنة علي،كم كنت قاسيا و أنا أزج بالحيوانات داخل الأقفاص و أتباهى بترويضها و رفع السياط في وجهها و أنتم ( مخاطبا الجمهور) تصفقون علي، و تشجعونني و تنبهرون بأفعالي القذرة.كنتم في كل مرة تصفقون فيها علي،أزداد قسوة و جبروتا و غرورا. أنتم أيضا مشتركون معي في الجريمة. العالم كله مشترك معي و متورط في هذه الجريمة، و ليس من سبيل إلا بالاعتراف و الإقرار بالذنب.(يتخيل نفسه أمام القاضي و أنه هو المتهم).
(يتخيل نفسه قاضيا ): سيد عمر،ما قولك في التهمة المنسوبة إليك بأنك محتال و نصاب ؟
(في دور المتهم): سيدي ، إنها الحقيقة .فأنا بالفعل،محتال و نصاب ،استغل جهل الناس لأخدعهم بألعابي و خدعي السحرية و أجعلهم يصدقون أنني ساحر بالفعل.
(في دور القاضي):و ما قولك في تقمص الأدوار،و انتحال الشخصية، و تغيير الاسم و تزوير الهوية؟
(في دور المتهم):هي الحقيقة أيضا سيدي، فقد علمني السرك أن ألعب دور البهلوان،و دور الساحر،و دور المروض،و دور السيد و دور العبد كي أرضي الناس و أجني المال.
(في دور القاضي):و ما قولك في تعذيب الحيوانات؟
(في دور المتهم): إلا هذه سيدي، فأنا أروضها لتنصاع لأوامري.أريدها هادئة، و طيعة ،و أليفة كي تعيش بيننا.
(في دور القاضي): كذاب.
(في دور المتهم): هذا صحيح.أرأيت كم أنا حقير سيدي القاضي؟ حقير وميت الضمير و جحش. أجل أنا جحش، و أستحق ما أنا عليه الآن من ذل، و هوان ،و ضعف،و حرمان و تعذيب.ما زلت لم أتعلم بعد،و ما زلت أكذب و أتجمل ،بل و أنكر الحقيقة، حقيقة قسوتي، و جبروتين و جشعي و ضعفي.
(في دور القاضي): أنت محكوم عليك بالسجن لتذوق وبال أفعالك القذرة.
( يتخيل نفسه خلف القضبان. يرفع رأسه مخاطبا العنكبوت. ) ” لابد و أنك سعيدة بالشباك المنصوبة حولك،و لابد أنك مستمتعة بالرقص و القفز عليها. أنا أيضا كنت مثلك سعيدا ،سعيدا جدا بالقفز على الحبال و نصب الشباك و اصطياد الأسود .كلانا يشبه بعض ، ننسج خيوطا من الوهم، و نبني قصورا واهية، و نغتر بأنفسنا و نتجاهل ضعفنا إلى أن نستفيق على صوت سياط توقظنا من غفلتنا و سباتنا العميق( يسمع صوت سياط قوية) .أنا اليوم ضعيف ،و أتألم ،و بالأمس كنت أمسك بالسوط و أهوي به ضربا باليمين و بالشمال، سحرني السرك بأضوائه و غرني قانون ”القوة” ، كي تعيش داخل السرك عليك أن تظل قويا، و لكي تظل قويا عليك أن تدوس على قلبك .هكذا حولني عالم السرك إلى جسد فارغ،أجوف ،لا يحس بشيء .جسد تحجر قلبه،و مات ضميره، فزاغ عن الطريق و كان مصيره الهلاك.(تعلو أصوات السياط)
النهاية
10ـ5ـ2020
