” ماريونيت “.. نص مسرحي في خمس لوحات للكاتبة: صفاء البيلي
الإهداء..
إلي نون النسوة جميعهن.. والرجال أيضا.. ظلالهن في الحياة!
ملحوظة:
يمكن استخدام عرائس الماريونيت بديلا أو مع بعض الشخصيات
الشخصيات:
ـ شهريار، شهرزاد
ـ ديدمونة، عطيل، إيميليا
ـ كليوبترا، أنطونيو
ـ شجر الدر، أيبك، نجم الدين
ـ أنتيجونا، كريون
ملحوظة:
يمكن تقديم العرض بخمس أو ست شخصيات علي أكثر تقدير، حيث إننا لا نحتاج ظهورهم معا سوي في المشهد الأخير الذي يمكن معالجته إخراجيا، كما يمكن جعل بعض الشخصيات عرائس أو ماريونيت، بحسب رؤية المخرج.
خشبة المسرح مزدحمة بالنفايات، مقعد، منضدة، شماعة، مرآة مهشمة، تماثيل قديمة مكسرة ، عدد الأشخاص يقفون كالتماثيل بهيئات مختلفة، ما بين نساء ورجال وجوههم وأيديهم مدهونة بألوان برونزية، كرسيان فخمان كل منهما في اتجاه من المسرح، يجلس علي أحدهما شهريار منكفئ الرأس متهدل الذراعين، بينما تجلس علي الآخر شهرزاد بكامل زينتها، ظهرها مفرود ونظرتها شاخصة للأمام..
موسيقي غجرية تنطلق من بعيد تعلو شيئا فشيئا، يبدأ الرقص رويدا رويدا حتي تتحرر التماثيل التي ربما تشعرنا حركتها بأنها كانت مقيدة وإن لم يظهر القيد بشكل مادي، تنطلق الرقصات في حركة درامية انسيابية توحي بوجود حياة ما بينهم، فنري اللحظات الرومانسية والحزن والبكاء كذلك الفروسية والحرب، حتي تنتهي الحالة علي وضع الثبات راكعين تحت كرسيي شهر زاد وشهريار معا في ذات الوقت..
(إطفاء، إضاءة وقد خلا المسرح إلا من شهرزاد وشهريار، بحيث نري شهريار الذي كان مرتخي الأعضاء متهدِّل الرأس، تدب فيه الحياة كأنما يد خفية تحركه، فيبدأ بالتحرك فاردا يديه، مرخيا كفيه كأنما صار عروس ماريونيت وهناك من يقوم بتوجيهه وتصويبه باتجاه العرائس التي تنصاع لحركات يديه غير المريبة، فمرة ينزلقون معا يمين المسرح كأنما هم في مركب تغرق فيما نسمع صرخات استغاثتهم، ومرة كأنما تشتعل فيهم النيران، وأخري كأنما يضربون بالسياط.. إلخ شهرزاد، من مكانها تقف مرفوعة الرأس، جذعها مشدود عيناها مثبتتان علي شهر زاد منذ البداية، تبدو هي المتحكمة في حركة شهريار الذي يتحكم في التماثيل تبعا لها.
شهرزاد: (لشهريار في صمت نسمع صوتها في الخارج) لماذا كل هذا العذاب؟
أأحبك كل هذا الحب، وتذيقني كل هذا الألم؟ ألا تمل من تعذيبي؟ أوَ.. لا تتنزل عليك سحابات الرحمة لتكفّ عن زرع سوطك المدبب في تجاعيد روحي؟ دوما تنظر إلّي بعينين تخبئان خلف عتمتهما وجهك الفولاذي الخالي من كل المعاني لأظل أندد بأفعالك المشينة حدّ الجنون!
وأنت الآن بعد عذابات كثيرة… صرت لي، أو في الحقيقة، أنا التي صرت لك شئتُ ذلك أم أبيتُ يا معذِّبي
نعم أنا لك الآن
فلمَ تسومني سوء العذاب؟
اتركني.. اتركني وحرَّر قيودك من براثن الأسي
وأطلق جناحيك ..
غرد.. لي
وقل لي كما لم تقلها لامرأة من قبل:
قل لي: أحبكِ
فأنا مدينتك التي تعرف مخابئها وأنا الطريق التي تؤدي إليها، والشوارعُ التي تحفظ وقع خطاك وتستطيع أن تفرق بين طعمها وخطو الشاردين..
أنا مدينتك وأنت أشجار ضلوعي الوارفة .. تأوي العاشقين الذين لا مأوي لهم
مدينتك أنا وأنت مفتاح أسراري التي تأبي أن تنفتح إلا لك لتحرر من فيها.. لكن احذرني يا حبيبي.. احذر فأنا محبوبتك التي ذاقت الويلات معك
فلا تهدم جدرانها ولا تقتلع أشجارها ولا تخنق فيها أصوات الحرية تحت أحذية الجائعين من جنودك وعسسك الليلي لتستطيع أن تهتف وتصح حروفها ناصعةً..
أحبك..
أحبك..
أحبك!!
(شهرزاد، تعود لمكانها، بينما ظهرها المفرود وعيناها الشاخصتان تتوجهان باتجاه شهريار الذي ينتفض كأنما يزيل غبار الذكريات فيما بينهما، يأتي صوته شجنا معذبا)
شهريار: مدينتي؟
نعم أنتِ مدينتي.. لكنها بدلا من أن تحررني أنا قيدتني.. قيود حريرية.. أرأيتِ كم يكون الحرير موجعا (يتأوه) أدميتي معصمي وجسدي بل وروحي.. أعطيتني مفاتيح كونك، لكنك احتفظتِ بأسرار اللعبة اللعينة .. تديرينها بعنف يشبه في وجعه ملمس الخوخ ورائحته الشهية.. رقيق جدا وقاتل أن تحييني بالأمل كل ليلة لأحييك بالحكاية حين يطلع الفجر ولا يستطيع أن ينظر في وجهي بعينه الكسيرة!
ما الذي تفعلينه بحق الله فيّ
لأصبح في حضرتك طفلا متيما..
لا يستطيع مغادرة ذيل أمه!!
تموت الألعاب بين يديه من النسيان، تموت الدهشة إلا حين تغرد الفراشات حول شفاهك الملتهبة بالحكايا والكرز!
مدينتي أنتِ.. نعم
أشجاركِ الوارفة التي ينعم تحتها العاشقون والمحبون في حكاياتك البهيجة والمؤلمة أرهقني خريفها وهجرتها طيور الحب فاستوطنها البوم والغربان فما عاد يعانق أذنيّ سوي النعيق والخراب..
مدينتي أنتِ..
نعم نعم.. وأنا شوارعك .. نعم نعم
لكنني لم أعد سوي شارعٍ عجوز، مقطوع الأرجل فلا أصل إلي بهائك، إلا مقصوص اللسان، فلا أتلذذ معك بالكلام.
آه يا حببتي آه.. ( يبكي)
فلا أستطيع إلا أن أقول لكِ: أحبك .. أحبك
لا أستطيع!
إظلام
(إضاءة علي شهرزاد تقف باتجاه تمثال رجل، تشده بينما يتحرك معها حركات آلية يبدو متخشبا، تمسح وجهه، تضع له ماكياجا، ليصير عطيل وتلقي علي كتفيه بُرنس أحمر في أسود.. يبدأ في تحريك رقبته ويديه وجسده، تتركه متوجهة لآخر، تلبسه ما يوحي أنه التابع /العبد.. ، الفتاة تصبح ديدمونة والأخري الخادمة وتبدأ شهرزاد لعبتها.. فتحركهم جميعا.. تخفت الإضاءة قليلا وتتبدل بشكل رومانسي، ويتفجر الحوار.. وهي تحرك الجميع وشهريار يتابع في هلع)
شهرزاد: (بلهجة آمرة) ها يا عطيل.. بعدما قتلت ديدمونة..
أعطيك الفرصة ثانية لتعترف بخطئك.. أسمعت؟..
لتعترف بخطئك (تقول الجملة الأخيرة بتقطيع)
وأظنك علي أتم الاستعداد لفعل ذلك الآن.. ها؟
عطيل: (يجثو علي ركبتيه مقبلا قدميها، تبعده والجميع منحنون في ذهول وفرح)
ديدمونة: ستثبتين براءتي يا شهر؟
شهرزاد: أنا؟ أنا بالكاد أحكي الحكايات المسلية يا فتاتي
ديدمونة: (بانبهار) أنت؟ حكايات؟.. أنتِ لا تدرين شيئا عن نفسك يا سيدتي
شهرزاد: (تنظر لشهريار نظرة ذات معني وتحرك يدها باتجاه ديدمونة وعطيل فيصبحان متعانقين، موسيقي هادئة فتأخذ شهرزاد مكانا قصيا بجوار كرسيها، تتابعهما يرقصان، تعلو الإضاءة شيئا فشيئا يلفظها من بين ذراعيه فجأة ينظر إليها شذرا.. )
عطيل: (بتردد وإصرار في ذات الوقت) كان.. كان لابد أن أقتلك بيديّ، نعم بيدي حتي لا أدع الفرصة لأي من الرعاع فيشمت بي!
ديدمونة: (تضحك ضحكة ماكرة) يا عطيل يا حبيبي.. دوما يتملكك الشك فيّ، مع إن خادمتك إيميليا لم تفارقني طيلة غيابك
إيميليا: (متدخلة) أشهدُ ياسيدي
عطيل:(بعصبية) منديلك يا ديدمونة.. منديلك!
ديدمونة: (مباغتة إياه) كم مرةً خنتني يا عطيل؟! كم مرة؟!
عطيل:( يفقد توازنه) خنتك؟ ولا مرة خنتك يا ديدمونة
إيميليا: إلا إذا أسميتي القبل التي كان عطيل ٌ.. يسرقها خلسة من الجواري في ردهة البيت ببعض المساءات المقمرة ..خيانة (تضحك بلا مبالاة)
عطيل:(يلكزها متحدثا بصوت منخفض) ستهلكينني خيّبك الله أيتها خرقاء
إيميليا: هل تشتم إيميليا ؟ أتقول لإيميليا يا خرقاء!! ( تقولها بأسي بينما تنقض عليه ديدمونة بصوت عال)
ديدمونة: (بعنف) اسمع ..
أنت أسلت دمي علي يديك.. (بحزن وشجن) وأنا من أحبتك بجنون، وتركت لأجلك كل شيء (بحدة) لكنك لوّثت تاريخي بحمقك، وهذه المرأة التي كانت تعلم بكل خياناتك لم تخبرني بشيء، تركتني أغرق في دمائي وتأوهاتي.
عطيل: أتسمين القبلة خيانة؟
ديدمونة: وأنت لماذا سميت المنديل خيانة؟
عطيل: المنديل دليل مادي
ديدمونة: هل تقصد لو أنني كنت خنتك بلا أيّ دليل مادي، هل كنت أبقيت عليّ
عطيل:(صارخا فيها) هل جننتِ؟
شهريار: ( تنخفض الإضاءة عليهما وتضاء بقعة الضوء علي شهر زاد الذي يقترب من شهرزاد في ثورة ) ماذا فعلتِ بالرجل؟ ستقلبين حاله أيتها القادرة ، سيُجن
شهرزاد: فليُجن.. وأكثر من الجنون.. (تغرس أصبعها في صدره مهددة فيندفع أمامها بظهره حتي يلتصق بالحائط.. ) تدافع عنه لأنه يشبهك ..
شهريار:(يتخلص منها) يشبهني؟
شهرزاد: نعم يشبهك.. يشبهك بالعكس.. أنت قتلت زوجتك لأنها خانتك مع عبد حقير، ولم يكفك هذا بل يا كم قتلت من فتيات بريئات.. وهو قتل زوجته لأنه ظن خيانتها مع عبده الذي لم يكن حقيرا.
شهريار: اسكتي، لا أريد سماع صوتك البغيض
شهرزاد: الآن صار بغيضا بعدما كان ملاك النوم لا يأتيك إلا بعد أن تهدهدك حكاياتي وتصير في حجري كطفل رضيع!
(تحرك يديها فتعلو الإضاءة وتقل عليها وعلي شهريار، ويدخل الشاب الأسود المرتدي لزيّ العبد.. فيتواجهون جميعا) تعالَ تعالَ يا كاسيو..
عطيل:(يدخل شهريار في بؤرة الضوء محاولا إيقافه) لا يا كاسيو لا تجيء.. إنها خطة قذرة للإيقاع بك
كاسيو:(غير فاهم لما يحدث.. يفرك عينيه مكتشفا من حوله كأنه كان مغيبا، يندفع باتجاه عطيل، مرتميا في أحضانه) سيدي عطيل، ها هي سيدتي ديدمونة لم تمت .. الحمد لله، ستتخلص من تأنيب ضميرك الذي كاد يقتلك حيا
عطيل:قاتلك الله أيها الغبي
كاسيو:( منفجرا فيه) لست أنا الغبي
شهر زاد: (تدخل بقعة الضوء معهم ومعها تجذب ياجو متجهة لعطيل) خذ يا سيد.. هذا هو الغبي الذي أوقعك في الشرك ونصب لكم الفخ أجمعين فمشيتم إليها مغمضي العيون.. إنه ملك لك فافعل ما أنت فاعل فلن يلومك أحد!
شهريار: (يشدها ليخرجها من دائرتهم ويوبخها) أنت مسعرة حرب أيتها الشريرة
شهرزاد: لم تر استعار الحرب بعدُ.. يا شهريار!
شهريار: يرهقني لعبك بأعصابي، والآن جئت بهؤلاء لتلعبي بأقدارهم أيضا؟
شهرزاد: (بمكر تحرك إيميليا كعروس الماريونيت من مكانها وقد بدا لونها ممتقعا وخائفة) إيه يا إيميليا..
إيميليا:(مرتعشة) نعم سيدتي الغالية
شهرزاد: لم فعلت ما فعلت يا إيميليا؟
إيميليا: تقصدين اعترافي بخيانات سيدي عطيل الصغيرة؟
شهرزاد: خيانات صغيرة؟ وما كنتي تفعلينه أنتِ أيضا كان خيانات صغيرة؟
إيميليا:(بارتباك) ماذا تقصدين؟
شهرزاد: ( تحركها لتصبح هي وعطيل فقط ويكون ياجو وديدمونة بعيدان لكنهما يراقبان ويسمعان ما تقول، تحركها ببطء وليونة وتحدثها في ميوعة وتطويل) هيا.. هيا إيمي.. ها هو عطيل أمامك .. ها هو لك وحدك مثلما كنت تحلمين (تلتقط سوطا وتضرب به الأرض فتبوح إيميليا وكلما سمعت لسعة السوط تكلمت واهتاجت شوقا)
إيميليا:(تقترب من عطيل الذي يقف كتمثال لا يتحرك إلا بإشارات شهرزاد) أنت هنا ؟ (تتلمسه بشغف وتضع رأسها علي صدره) أنت هنا يا حبيبي؟
شهرزاد: يا أهلا .. أهلا .. قولي قولي
إيميليا:(غير مبالية بها ولا بأحد) لم يكن وجودي بجانبك يسمح لي بالبوح بما يهتك ستر روحي (نسمع صوت شهر زاد ونري حركة يدها.. وشهريار يكاد يجن) يا حبيبي.. ما تراني كنت أفعل وأنا أراك تجثو فوق ركبتيك لتقبل قدميها، أتتذكر؟ حين كنت تأمرني أن أغسل قدميها بماء الورد، وأرشرش ملابسها بعطرك المفضل، كم رششت منه علي ملابسي ولم تلتفت إليّ، كنت فقط تدخل علي أطراف أصابعك.. مادا أنفك باتجاه حجرتها.. كم كنت أتسمع صلواتك تسديها إليها وأزيز سريركما ينهج بخيباته ودموعك، كنت أسمعك حين تصرخ أنت من بياضها مذهولا.. وهي يغمي عليها من سوادك الناصع أيضا.. كم كنتما تنهكان أعصابي.. كم شعرت بوخذات جسمي وروحي، وأنت لم ترحمني..
(تمسح دموعها التي انذرفت) وفي الصباحات.. حين أدخل عليها الحجرة بعد خروجك.. أراها وقد.. ( توقفها شهرزاد بحركة يدها.. وتدخل معها ديدمونة وتسلط عليهما بقعة الضوء وتمثلان معا)
ديدمونة: (باكية ) يا ربي لم تحملني مالا أطيق؟ لم أحببت هذا الأسود؟ ينام بجواري كلون الليل البهيم يحيطه ذراعي كما يحيط النهار جسد ثور أسود بهيم
إيميليا:أسود؟ ألم تر مولاتي سواد مولاي عطيل من قبل زواجها به؟
ديدمونة: بهرني بحبه يا إيميليا..
إيميليا:ومن يحب لا يكره
ديدمونة: إنه لم يقترب مني كزوجة!
إيميليا:(تلطم خدها) ماذا؟ لم يقترب؟ فما الذي اسمعه كل ليلة يا مولاتي؟
ديدمونة: آه يا إيميليا.. كلما اقترب مني بكي.. حتي إنني شككت في رجولته أو أنه بارد مثلا..
إيميليا: (تنتفض) مستحيل
ديدمونة: ( بدهشة، تتحرك من مكانها وتلف حولها وهي تقترب من عطيل فيما يدخل معها دائر الضوء وقبل أن تخرج ديدمونة .. تلقي إيميليا بقنبلتها في وجهها فتخرج ذاهلة..) ماذا؟ بارد عاجز؟ أشهد يا سيدتي علي غير ذلك .. أشهد أنه رجلٌ.. كامل
شهرزاد: (تحركها في عنف موجهة كلامها لشهريار) انظر.. الوجه الآخر للحقيقة.. الحقيقة التي ربما غابت عنك أيضا..
شهريار:هل تقصدين أنني كنت عاجزا فخانتني زوجتي مع ذاك العبد اللعين؟
شهرزاد: لا أدري.. أنا الآن مع عطيل إيميليا الـ .. عاشقة ( تضحك بعنف تقهقه بينما إيميليا تتوسل لعطيل)
إيميليا:كم عشقتك أيها الشجاع النبيل، تقلبت علي جمر النار، وأنت تركع لها وتبكي لوعتك .. كنت أراك جميلا وسيما متواضعا، حين يكلل العرق جبينك يبرق بالنور عكسما كانت تري هي تلك المتكبرة، نعم أنا التي دفعت في قلبها بالغيرة مني ولم تستطع لكبرها أن تواجهني بهذا، وأنا التي غمست منديلها بعطرك المفضل وتوسلت إليك ألا تخبرها حينما رأيتني وأنا أخبئه في صدري، استحلفتك أن تمنحني إياه لحبي الشديد لها وللعطر الذي تضعه لك.. لقد تركته أنت لي ونسيت وأنا أعطيته لياجو، .. أنت نسيت.. نسيت بالفعل صح؟أخبرني فأنا سترك وغطاؤك.
عطيل: (كأنما يفيق) نعم.. نسيت لكن ماذا أفعل وقد أعطيتموني جميعا ما أدفع به شبهة العجز عني؟
شهرزاد: (تحركه فيما نسمع صوت سوطها يرن في الهواء) ها هي الحقيقة يا شهريار اسمعها .. (فيما يسد شهريار أذنيه)
عطيل:(يقترب من إيميليا) كانت جميلة فعلا لكنها كانت تمن عليّ بأنها أحبت أسودا
مثلي.. جننتني ديدمونة.. كنت أركع تحت قدميها لكنني كنت أخشي الاقتراب منها لفرط رقتها
إيميليا: كم قلت لي يا حبيبي وشكوت من تمردها وغبائها..
عطيل:لم يكن تمردا بقدر ما كان وجعا.. وجعا يحتاج من محب وعاشق مثلي أن يحتويه، هربت إليك يا إيميليا والي معاركي وحروبي، كنت أهرب لأعوض لحظات النقص الحارقة،كنت أنتظر فوات نصف الليل كي لا أجدها يقظة فتلسعني نظراتها وتلومني..علي عجزي وإخفاقي الذي كان يتوج انتصارات علي الأعداء!
إيميليا:كنت أولي بك منها، لم يكن ياجو هو الزوج الأمثل لي (نري ياجو تحركه شهريار وهي تقهقه) نعم لم يكن بل كنت أنت (تحرك شهرزاد ديدمونة التي تتكلم هي الأخري فيما يفاجأ ياجو ويثور هائجا )
ديدمونة: لم تكن يا عطيل الزوج الذي به كنت أحلم، ولا البطل الذي كنت أريد. لقد خدعتني.. (تضحك شهرزاد وتحرك الخيوط، يدخل معهم شهريار فيصيرون كأنهم في حلقة واحدة، تمتد يد كل منهم لتقتل الآخر موسيقي صاخبة .. تنتهي علي سقوطهم جميعا ..إضاءة علي شهرزاد بيدها خيوط اللعبة وشهريار يطوّح سيفه في الهواء صارخا !)
إظلام
(لحظات هدوء تسود خشبة المسرح، تنبعث الإضاءة بألوان متداخلة شيئا فشيئا حتي نري كليوبترا وهي تحاول التخلص من خيوط الماريونيت الملتفة خلال جسدها فيما تحركها شهرزاد بعنف، وشهريار متهدل الجلسة علي مقعده)
شهرواد: أتعبتيي أيتها اللعوب! (تلقي ما عليها من خمار بحركة غامضة .. وترتكز بقعة الضوء علي عنيها المكحلتين بالرسم الفرعوني.. )
كليوبترا:لعوب؟ (بتهكم وسخرية ودهشة لكن في هدوء) تحدثينني أنا يا راوية الحكايات؟
شهرزاد: لا تبدئي بالهزو يا طويلة اللسان.. فما أطوله عندي!
كليوبترا:الملكات لا ينزلن لمستوي العوام!
شهرزاد: بنت وزير تعدينها من العوام؟! (تقهقه) تبا لك من سليطة اللسان
كليوبترا: يبدو إنني جئت في المكان الخطأ..
شهرزاد: ليس خطأ.. بل المكان الصحيح
كليوبترا: (تنظر باتجاه الخارج وتنادي) أنطونيو
شهرزاد: (تضحك بشكل متوال) أنطونيو؟ البقاء لله يا سيدة كليوبترا
كلوبترا:تبا لك من امرأة عقيمة الفكر.. فارغة الرأس، لقد تركت حبيبي هنالك يستعد لحفلنا الكبير الذي أعددته فرحا بانتصاراته الخارقة علي الاعداء
شهرزاد: (ساخرة ) انتصاراته؟ منذ أن عرفك لم ينتصر قط سوي عليكِ
كليوبترا:ماذا تقولين؟
شهرزاد: الحقيقة
كليوبترا:أية حقيقة؟
شهرزاد: حقيقتك
كليوبترا:الحقيقة ليس لها وجه واحد.. إنها فلسفة الوجود
شهرزاد: هل صدقتِ بأنكِ إيزيس الجديدة فأخذتِ تلملمين أشلاء إيزيس من الطرق؟
كليوبترا: ماذا تريدين مني؟ ولم أخرجتيني من سباتي العميق؟ اتركيني كي أكمل رحلتي إليه..
شهرزاد:(بخبث) أنطونيو؟
كليوبترا: (تسرح لحظة) أنطونيو.. حبة القلب ونور عيني وأبو ولديّ!
شهرزاد: (تحركها بخيوط عرائس الماريونيت) عربدتِ كثيرا أيتها الملكة، كثيرا جدا، لم يكن هذا الجسد ليرتوي أبدا.. من معينِ واحد ويكتفي! (بقرف) هل ملكة تفعل ما فعلتِ بنفسك؟
كليوبترا:(لا ترد) هل تعتبرين علاقتي بقيصر..علاقة رجلٍ.. بامرأة عادية؟
شهرزاد: داهية أنتِ يا كيلوبترا.. ألم أقل أنك تستفيدين قدر طاقتك من كل رجل دخل حياتك أو قصرك أو مملكتك أو حتي مرّ بطيفك!
كليوبترا:تعرفين كل شيءٍ إذن!
شهرزاد: نعم.. (بثقة) كل شيء!
كليوبترا:حسنا.. دعيني أرحل
شهرزاد:سأفعل ولكن بعد أن تعترفي بكل شيء أيتها المرأة التي جننتني.. هل تدرين أنني بحثت عنك في كل النساء.. لأصل لما أريد
كليوبترا:وماذا كنتِ تريدين؟
شهرزاد: كل شيء، كل شيء بلا مواربة
كليوبترا: (كأنما تتذكر) آه يا شهر.. آه حينما صرت شابة.. وجدتني علي عرش أجمل الممالك وأبدعها.. مصر..وفي لحظة تاريخية كدت أفقد عرشي.. ثار الشعب خطب البلغاء علي كافة المنابر وفي أيام الجمع.. رفضوا أن تحكمهم امرأة لم يكن المقصود كليوبترا بعينها ولكنهم لا يرضون أن تحكمهم أنثي، وبفعل أعدائي الكثرين وأولهم من البطالمة الطامعين في ملكي، انتهتزها فرصة.. طلبت من قيصر روما أن يمد لي يد المساعدة
شهرزاد: وفعل!
كليوبترا: نعم فعلها، كاد العرش يضيع مني توسلت بالأعراب علي حافة البلاد.. كوّنوا جيشا جسورا لانتشالي، انتصرت قتلوه.. أخي بطليموس الثالث، ورأسه كان القربان لقيصر، وبعدما حاصرني أوصياء بطليموس، ساعدني قيصر حتي عاد إلّي عرش مصر تقربا مني، وبعدما قتل قيصر وجدتني حائرة ولكن.. بعدما استبان الأمر وقُسِّمت التركة بين قائديه أوكتافيوس وانطونيوس..
شهرزاد: أنطونيوس.. حبيب القلب!
كليوبترا: (تتكلم بهمس وحب شديدين) ومنذ اللحظة الأولي التي سمعت اسمه فيها .. قررت أن أحبه (اطفاء واضاءة.. خيال الظل يبين رجال ونساء في بهو القصر فيما أنطونيوس واقفا في أبهي حلته وفي ملابسه الرومانية الفخمة.. وأمامه يضع الجنود سجادة ملفوفة.. يحركه شهريار حول السجادة فيما يقوم جنديان بفتحها ببطء لتخرج منها كليوبترا في أبهي زينتها ملابس تبدو فيها كعروس البحر.. فيتفحصها انطونيوس مندهشا)
أنطونيو:من أنتِ؟ أإلهةٌ فرعونية نزلت من عليائها؟ أم ملكة تغزو الآن عرش قلبي؟! من أنتِ أيتها الملاكة؟
كليوبترا:(تؤدي حركات راقصة تعبيرية تنتهي باستقراره بين بيديه فيرخي عليهما وشاحه ونري سيفه وحزام أسلحته وقد سقطت.. موسيقي معبرة، إطفاء ثم إضاءة)
شهرزاد:(تحركها غاضبة) كم أنتِ طامعة
كليوبترا:بل طموحة
شهرزاد: طامعة جدا.. تريدين كل شيء.. الحب والزواج والعرش والأولاد والملك والشباب.. يا لكِ من جبارة!
كليوبترا: (تقترب منها في دلال) جبارة؟ حتي أنتِ تظلمينني يا شهر؟
شهرزاد: كيف أظلمك وما قرأته عنك وعرفته وما لم يكتبه التاريخ لا أستطيع البوح به الآن.. لا أستطيع
كليوبترا: يااه ؟ لهذه الدرجة؟
شهرزاد: أتكذبين التاريخ؟
كليوبترا: كلا ولكنه صعب جدا، هو بالفعل شاهد عيان، يري ويسمع ولكنه يغلق فمه تماما حينما أحتاجه، بعبارةٍ أدق.. يصبح أبكما وقت اللزوم! ما الذي سرويه التاريخ عني؟ هل يمكن أن ينعتني بما قلت أنت لي؟ وأنا من أنا؟ أنا ابنة المجد؛ إيزيس الجديدة، فهل في الدنا امرأة مثلي أنا؟
رضيت أن أدفن وحبيبي في مكان مجهول حتي أنأي بنا عن تطفّل الآخرين وإقلاقهم لنا، كان حبنا كما لم يحبب أحد! كان حبا عبقريا!
شهرزاد: كان حبكما ماديا
كليوبترا: كلا.. كلا.. إنه الظلم بعينه (إطفاء ثم إضاءة عليها وأنطونيو)
أنطونيو:لو أنك تسمعين كلامي يا مليكة القلب
شهرزاد: اطلب شيئا مستطاعا أنطونيو، ولا تنس أنني ملكة هذه البلاد..
أنطونيو:لم أنس، لكن الناس في الشوارع يهتفون ضدك..
كليوبترا:ضدي أنا؟
أنطونيو: لا أدري ما الذي يصم أذنيكِ يا حبيبتي فلا تسمعين ..انصتي.. (تنصت فنسمع الهتافات) تسقط كليوبترا، تسقط الملكة الظالمة، تسقط المستبدة
كليوبترا: (بدهشة) ظالمة .. ومستبدة؟ يا للهول يا أنطونيو..
ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسيا منسيا.. (تسد أذنيها) لا .. انهم ليسوا شعبي.. انهم دعاة أخي بطليموس الرابع.. أولئك الذين يسعون لخلعي من حكم مصر.. لمصالحهم الخاصة.. آه يا أنطونيو.. إنهم لا يدرون كم أعشق هذا البلد..عشقا لم يعشقه بشر لمكان..
لا تكرري كلمات طالما عشت أحاسيسها معك حبيبتي.. فلا يليق ببهائك إلا هذا الكمال الكوني
كليوبترا:(تحرك شهرزاد الخيوط فتقربهما من بعضيهما، يتقابلان..فيما تبدأ كليوبترا في الحكي بصوت شجن) آه (تقولها بتطويل) آه يا أنطونيو.. هؤلاء المجانين السفهاء وصفوني بأبشع الأوصاف
(شهريار بصوت مؤثر كأنه مذبوح بينما نسمع صوت السوط وعلي خيال الظل في الخلفية كأنما يجلد امرأة وتأوهات كليوبترا في الأمام وهي في حضن أنطونيو..)
شهريار: صائدة الرجال من الأسواق، عاشقة العبيد..
كليوبترا: (تصرخ كليوبترا مبتعدة عن أنطونيو) لا.. لا .. أقسم لم أكن كذلك.. أرادوا أن يشوهوني لصالح آخرين
شهرزاد: (بميوعة) لا تقلقي يا كليووو.. نحن النسوة كلنا في “الهواء سواء” لن أفشي لكِ سرا لكنك هنا في مأمن للبوح عن كل شييئ وفي كل شيء.. هنا مرتع الراحة الأبدية تجدينها ها هنا.. (يتدخل انطونيو)
أنطونيو:ليلان وصباح متعانقان في هاتين العينين التشبهان عيون البقر الوحشي في صحراء الروح (تبتعد عنه كليوبترا بينما يتبادل شهريار وشهرزاد تحريكها فيما تصرخ ) أوزوريس.. (شهريار علي كرسيه دخان،.. وبفعل الإضاءة يظهر بشكل مهيب أسطوري.. بينما إطفاء علي أنطونيو منزويا.. وتتحرك كليوبترا نحو شهريار)
كليوبترا:حبيبي الأزلي الأبدي يا أوزوريس.. يا متوّج بالحب علي مملكة عرشي.. ساعدني علي أولاء البشر الأشرار..
أوزوريس: (بصوت عميق) لم يعد في القوس منزع كليوبترا..
فعلتِ الكثير، لكنك تطمحين لأن تقبضي بكفييك هاتين علي جنبات الكون لتصير ملكا لكِ
كليوبترا: لأجلي ولأجل أمي العظيمة المتمثلة فيّ إيزيس، ساعدني..
أوزوريس: وأنطونيو؟
كليوبترا:هل أحكي لك ما تعرفه أكثر مني؟ إنه العشق والصبابة والوله!
أوزوريس: مباركة أنتِ بكل ما فعلتِ وتفعلين..
كليوبترا:(بشوق وخضوع) الأبدية! أريد الأبدية
أوزوريس: ومُلك مصر؟
كليوبترا: الحب والأبدية أريدهما معا
أوزوريس: (مندهشا) ومُلك مصر؟
كليوبترا: (تكرر الكلمة عدة مرات فيما تنظر للأمام تحركها خيوط شهريار وشهر زاد) الجيوش قادمة، أراها الآن.. وأنطونيوس مقتولا وفرسه يمتطيه أحد الجنود الذابلين.. تبا له.. تبا لهذا الجندي.. كيف يجرؤ علي امتطاء صهوة جواد سيده؟
أوزوريس: ومُلك مصر؟
كليوبترا: حكمتها عشرين عاما.. وأشهدك أنا ما قتلت وما سرقت وما اقتربت من الحرام..
أوزوريس:(يمسح دموعها وهي تتحرك بعيد عنه فيما تزول الظلمة شيئا فشيئا عن جثة أنطونيو ملقاة.. تركز بقعة الضوء عليهما فيما أوزوريس مرددا) سبق السيف العزل..
كليوبترا:(ترقص رقصة جنائزية حول جثة أنطونيو..تحدثه في عشق وهيام) حاربت من أجلها وأجلك يا حبيبي.. هي نور عيني وأنت شعلة في القلب لم يخمد نورها ولهيبها، يا أيها الفارس الذي غزا كل الحصون الفارهات بنن قلبي، فامتثلت وما عرفت سوي هواك ومن هواك.. قل للذين أتوا إلينا ثائرين علي الحياة تمهلوا.. فهنا بباطن هذه الأنحاء يرقد في التراب بشران إنسانان تنفسا هذي الحياة برعشة متفردة، عاشا معا عشقا معا تعبا معا غزوا معا.. طال سهادهما معا.. زال أنينهما معا.. وهما بكل تواضعٍ.. قد غادرا هذا الوجود معا.. معا..
شهريار: معا..؟
كليوبترا: سبقني حبيبي لحظة ليحتفي بي.. حتما سيستقبلني بتيجان الذهب واللؤلؤ..والورود التي أحب، جهز لي نهرا من عسل ولبن وفرح مصفي.. قل له: إنني آتية علي مهل.. فليجهز الحناء.. والثوب الشفيف (تنام علي مقربة من أنطونيو.. فيما موسيقي جنائزية )
إطفاء
(مري أخري لحظات صمت وإضاءة متداخلة الألوان كأنما تولد شجر الدر من خلالها تحاول الانفلات من خيوط الماريونيت وشهريار كما هو في بداية كل لوحة)
شجر الدر: محظوظات تلك النسوة اللائي أخذن فرصتهن كاملة في الحياة..
شهرزاد: تتحسرين وأنت .. التي ارتفعتِ ونلت وزدتِ وبهرت وانبهرتِ، فقت كل حدود التوقع.. (بنظرة ذات مغزي) لن جارية تركية إلي ملكة مصر البهية بلا منازع
شجر الدر: تقصدين الثمانين ليلة تلك التي قضيتها في الويل والعذاب؟ تلك التي كان فيها التاج علي رأسي كمشنقة وشعري المجدول يئن من وجع جدائلها! وأنتِ شاهدة علي تلك الليالي
شهرزاد: (منتبهة في هشة) أنا؟ أنا مالي ومالك أيتها السيدة؟
شجر الدر: سيدة؟! لم أكن سيدة بالشكل الذي تعرفين عشت مرارة الأيام قاطبة، وقضيت طفولتي وصباي في مراعي الدرس.. اقرأ .. أقرأ أقرأ.. الشعر والأدب والطب والفلسفة وعلم الكلام والسياسة والـحب والشعر والغزل وأشياء كثيرة! .. (تلتفت لها) مثلك تماما لكنني لم أكن أجيد شيئا مما تجيدين وحدك سيدة الحكايات التي تخلب الألباب وتلتف حولك القلوب فلا يقترب من جفنها النوم! طفولتي أنفقتها علي عتبات الدرس وكتاتيب المعلمين وعصا العريف، وتأديب المؤدبين..
(متراجعة) ربما فعلوا بك أيضا مثلما فعلوا بي.. لكنني كنت فقيرة لم يكن لي ظهر لأستند ليه ويشتد عودي، لما خطفوني من حضن والديّ.. كنت خضراء ما أزال.
شهرزاد: ( تشد أحد الرجال وتطرح عليه ملابس الملك الصالح نجم الدين أيوب يعطي الجميع ظهره، ثم في لحظة خاطفة يقف في مواجه شجر الدر وتسلط بقعة الضوء عليهما فيما تنتحي شهرزاد مكانها كأنها تمسك بخيوط الماريونيت يتحول بقية الموجودين لشخوص الحكاية.. تقول لها شهر زاد وهي تحرك الماريونيت بقوة فتبدو شجر الدور مرتبكة الحركة)
شهرزاد: كنتِ سعيدة الحظ ليتزوجك الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأنجب منك.. أما أنا فلم يقترب مني ذلك القابع علي عرشه.. ذلك الطاووس الماكر.. ماذا يحدث للرجال حين يخطون ببأقدامهم باتجاه عتبات العروش؟ هل يتركون أرواحهم قبل أن يمدوا أرجلهم ليتذوقوا لذتها؟ كم هو لذيذٌ جدا لجلوس علي الكراسي المذهبة؟ أليس كذلك؟ (بصوت آمر) هل جربته؟ ردي عليّ .. ردي!!
شجر الدر: (لا ترد عليها .. تقترب رويدا رويدا مع تحريك شهر زاد.. حتي يواجهها نجم الدين أيوب صامتا ممتقع الوجه لا يرد وهو جالس فتحادثه) مال بال وجهك مرهقا يا زوجي الحبيب، لتقم إلي سريرك، كي تستريح قليلا..
نجم الدين: ما الذي فعلتيه يا شجر الدر؟
شجر الدر: (حذرة) ماذا فعلتُ يا مولاي؟
نجم الدين: (مفاجئا مع موسيقي قلقة) أيبك!
شجر الدر: (ممتقعة) ماله؟
نجم الدين: خنتني
شجر الدر: لا.. لا تقل هذا فقد.. فقد أحببتك بكل ما فيّ
نجم الدين: لا أعتقد في ذلك
شجر الدر: بل ثق فيّ، فالحب الذي كان بيني وبينك لم يكن حب الجسد
نجم الدين: حب الروح تقصدين؟
شجر الدر: كل الحب سيدي كان حبك.. حب الأبوة والأخوة..حب العزة والفخار.. هل.. هل نسيت؟ أنت الذي صنعتني
نجم الدين: وهذا جزاء صنيعي! (تلف حوله) عوّدتني أثناء غيابك أن أكون مكانك.. أجلستني علي كرسي ملكك، صرت ملكة.. آمر وأحكم في غيابك تالله عمري ما دست علي طرفٍ لك قط.. ولتثبت أني أقدمت علي ذلك
نجم الدين: وخليل؟
شجر الدر: خليل هذا.. هو قرة عين أمه وأبيه.. نبتتك الصالحة ومخرج أمه من رق الجواري إلي عز الحرائر..
نجم الدين: وأيبك؟
شجر الدر: أيبك؟ (يحرك شهريار أحد الأشخاص والذي يقف قبالتها كالتمثال بنما نحم الدين يتظاهر بأنه لا ينظر الناحية المقابلة)
نجم الدين: أيبك.. (تمسكه بذراعيها.. كأنما تحدث نفسها.. ) كم كنت أري فيه شبابي.. كنت أشوفك فيه أيا مولاي.. لم تك عضلاته تلك المفتولة ما أعجبني.. لكنني حين طلبت مساعدته لما كنتَ مريضا في معركة المنصورة .. لباني قبل ابنك توران شاه..
(إطفاء ثم بقعة الضوء علي جسد مسجي والأطباء يتحركون كأنما أحدهم يدخل والآخر يخرج تقف هي وأيبك)
شجر: ماذا أفعل يا أيبك؟
أيبك: الأمر أمرك مولاتي الملكة
شجر: الصليبيون علي مشارف البلاد.. والملك ولي لجوار الله..
أيبك: منذ شهور وأنت الملكة والمتصرفة.. فلتتخذي قرار الحرب كما تفعلين
شجر الدر: لولا أني أخشي علي عزيمة جنودي أن تفتر.. أقسم لك يا أيبك.. لكنت أعلنت وفاته
أيبك: هوِّني عليك مولاتي الملكة (يقترب منها بلطف فتفلت منه فيناديها)
أيبك: عصمت..
شجر الدر: (تنتبه مذعورة) أنسيت نفسك؟
أيبك: (راكعا) بل تذكرتها يا مولاتي.. عصمت نفسي لأجلك أنتِ.. أحبك يا مولاتي.. (يسقط منديلها فينزل وراءه يمسكه ويقبله بحب ويضعه علي وجهه للحظة) رحيق مولاتي يسكر قلب عاشقها المتيم أيبك
شجر الدر: لقد جننت فعلا.. مجنون..
أيبك: مولاتي.. عديني بك وأنتِ مجدي وأملي وأعدك أن أكون تحت قدميك خادمك المطيع (إطفاء عليهما)
شجر: اعتمدت عليه ولكنه لم يكن خادما لي بالقدر الذي أقسم به.. علمني شيخي ألا أترك مستقبلي بيد أحدهم.. ليلون حياتي .. فلربما لا يمتلك سوي قلم أسود.. لذا كنت أكثر حرصا من مثيلاتي.. التهمت العلم والكراريس.. وصادقت المحبرة والرياش، عانقت الهواء الطلق حتي حين صرت جارية،لم يكن ضعفا لديّ كان حبا للحياة.. (تنظر للبعيد) أصررت علي أن يتزوجني السلطان نجم الدين أيوب.. كنت حبيبة قلبه، ومليكته، لم يقدر أن يحيا دوني، بخاصة حين ولدت خليل.. ومعه كبر الحب ونما وأوغل في أرض الـ (نسمع صوت نجم الدين أيوب) والسلطة..
شجر الدر: نعم؛ السلطة لم لا؟ هل هي محرمة عليّ مسموح بها لغيري من التافهات الجاهلات؟ لن أسميهن.. فقط أتحدث عن نفسي التي أعرفها طفلة وصبيية وشابة وها أنذا في قمة العنفوان..
(تسلط الاضاءة علي أيبك ليبدو كالظل بصوت مؤثر) شديدة البأس وعنيدة!
شجرالدر: لست عنيدة بالقدر الذي كنت أتمني! (بحزن تسترجع) كنت أتمني لمسة منه تعيد إليّ الطفلة التي تهرب إلي لهوها البرئ .. أو الصبية التي تنتظر موعدا مع من تحب تحت أشجار القرنفل.. أو نظرة لا تسمح الأعراف بأكثر منها.. فينبض القلب حتي تتكسر جدران البيت.. وتزهر حمرة الخجل علي الخدين بلون الورد! آه.. لم يكن نجم الدين سوي السلطة.. كنت مخلصة له كامرأة شريفة.. أغلقت قلبها علي سعال شيخٍ عجوز..في ليلات البرد القارسة.. كان همي هذا التاج.. (تنظر علي جبينها رافعة عينيها لفوق فيما يديها تنزلان التاج من فوق حجابها..) ولما مات نجم الدين.. حزنت (تقولها بألم) نعم حونت ولكنني في الحقيقة فرحت أيضا (تصرخ ضاحكة) نعم ضحكت .. أغلقت حجرتي علي نفسي وأخذت أضحك.. أضحك.. أضحك.. حتي غبت عن الوعي.. غبت وصحوت علي جثته.. أفقت علي وقع خيول الجند المنصورة.. والعز بن عبد السلام ولويس السادس عشر..آه (تصرخ) كل هذه الوجوه حاصرتني.. وأنا التي صار قلبها قلب لوزة قطن ما تزال تبحث عن فرصة ليتفتح نوّارها! (بصوت عال) يااا نجم الدين.. يا نجم الدين..كم كنت طيبا .. (بصوت منخفض) نعم طيب لكنك كنت تعاملني كقائدٍ في جيشك.. كخاتمٍ في إصبعك وسلسة حول رقبتك نعم.. حتي في لحظات الحب.. كنت تشيح بوجهك عني تشعرني بالوهن.. فأضهف تفتر عاطفتي تفتر عيناي وقلبي تذل وردته.. أما الآن .. سأرقص.. أرقص .. زغردي يا دفوف .. سأرقص .. (موسيقي مجنونة) (يسقط حجابها وتاجها لا تلتفت لهما تلملم شعرها ثم تنتبه له فتنظر اليه وتكلمه.. ) أغار نعم أغار.. لا يا أي ب ك.. (تنتبه) أيبك.. أيبك.. نعم أيبك.. المحارب العظيم.. كنت تجيد الكر والفر.. لكنك لم تجد يوما التعامل معي.. لم يستطع أحد التعامل معي..
(اطفاء عليها ثم إضاءة وهما متواجهان وبينهما رقعة الشطرنج.. تواجهه..متأملة) انتظر.. هذه الجنود لم تدفعها باتجاهي؟ فلتجعل الوزير في مكانه، والـ (تحرك قطع الشطرنج بعنف) لا.. لا يا أيبك لا تنسَ نفسك ..إنني الملكة وسأظل.. لا يحدثنك عقلك بما لا تطيق
أيبك: (يمسك اللونين ويحرك كل القطع بسرعة في عصبية صارخا فيها) كفي.. اسكتي.. سمعتك كثيرا وصبرت علي عنفك معي.. لذا فمن الآن فصاعدا سأكون أنا كل شيء
شجر الدر: لا ..
أيبك: ستظلين في غيابات جنون العظمة التي أحطت نفسك بها
شجر الدر: لا .. لا
أيبك: اقبلي الحقيقة
شجر الدر: لا
أيبك: الأمر الواقع
شجر الدر: لا..
أيبك: المماليك يرفضونك (ترمقه بغضب فيكمل) العز بن عبد السلام يحرض الشعب ضدك، لن تأسريهم بعطاياكِ
شجر الدر: العدالة
أيبك: كان من قبلك عادلا
شجر الدر: الأمان
أيبك: سيشعرونه حينما يجدون قبضتهم في يدي
شجر الدر: الحب
أيبك: ليس إلا خيالا في رأسك أنتِ
شجر الدر: العرش؟
أيبك: لي
شجر الدر: عرشي أنا
أيبك: صار لي
شجر الدر: آه.. جرحي ينز تاريخا .. هل ثمة شخص يمكن أن ينساه في هذي الحياة؟ إنه يركض يركض في كل اتجاه.. فوضويُّ هو.. حانق، وحزين..
أيبك: سأسجنه
شجر الدر: سيفر.. إنه مخلوق من حرية
أيبك: سأقتله
شجر الدر: سأكون معه وهو يصاعد في السماء.. أصنع له سريرا من الحكايا.. كما كنت أفعل مع خليل.. أهز له كل ليلة حكاية.. مثل حكاياتها شهرزاد.. تتناثر فوق شفتيّ النجوم وأنا أغني له أغنيات الوداع.. أغنيات قد تهز الشوق في قلب حبيبي
أيبك: أنا؟ (مستفهما في جنون)
شجر الدر: سأزرع الوريد إلي الوريد بالوصل وأغني ملء جراحي وأهتف باسمه
أيبك: أنا (مشيرا لصدره في حنون)
شجر الدر: لا.. أبوح بما حط من وجع في ضلوعي
أيبك: لي أنا؟
شجر الدر: لا.. تعال.. تعال أيها الجميل
أيبك: (بفرحة) أنا؟
شجر الدر: لا .. ( تلف كأنما لا أحد) كم تعرف عني من الأسرار هه؟ كم تعرف من ألوان ملابسي ولون شعري وأحمر الشفاه وكحل عيني؟ قل لي تعال ولا تخش هذا الوباء المسمي بأيبك (موسيقي صادمة مرتبكة، ينظر اليها أيبك بحنق يقترب فتبعده بيدها .. يحركها شهر يار فيما تفعل ذلك شهرزاد مع أيبك)
أيبك: الحب
شجر الدر: فشل
أيبك: صار قلبك مخوخا للدرجة التي لم تجعله يشعر ببراكين ثوراتي
شجر الدر: العرش
أيبك: لي
شجر الدر: بل ما كان ينبغي لامرأة أن تحكم الرجال
أيبك: الجمال
شجر الدر: أنا
أيبك: وها هي أصابع يدي العشرة.. أبصم لك بكلتيهما
شجر الدر: ابصم لي أنك أول رجل كذب عليّ وخادعني
أيبك: أحبك
شجر الدر: (تتحرك ببطء بعيد عنه ثم تلتفت صارخة بعنف) لم خدعتني يا أيبك وأنت متزوجٌ من غيري؟ (يرتبك.. يصمت، فتحركه شهرزاد باتجاه شجر الدر بطرقة الماريونيت.. ) أنا التي صنعتك
شجر الدر: أنت دميتي
أيبك: بل أنتِ صنيعتي أنا..
شجر الدر: فلأعيدك بإشارة من يدي إلي حيث كنت
أيبك: افعلي إن استطعتِ
شجر الدر: سأفعل
أيبك: (يندفع إليها في جنون فتسقط علي الأرض، يسقط فوقها.. فيما تقوم شهرزاد بتحريك شجر الدر، وشهرريار تحريك أيبك.. فيما يبدو في الخلفية خيال عدة نساء يتحركن من أعلي لأسفل بجزعهن.. وفي يد كل منهن حذاء تصرخ شجر الدر.. وأيبك يخفي جسدها بثيابه كأنما يبدو فوقها.. تصرخ صرخات مكتومة) أنا الملكة، صاحبة التاج.. أنا.. شـ جـ ر ة .. الـ در!! (ينفلت أيبك من فوقها بحركةالماريونت باتجاه شهريار.. فيما شجر الدر جثة هامدة ودماء تسيل وصوت أيبك من الداخل): “عندما تخلدين إلي سريرك ها هنا في قلبي.. تكونين بريئة بريئة مثل أطفال الحكايا،.. لا تتأوهي سأهز لك جذع السماء كي تسّاقط فوقك الثريات والنجوم.”! (صوت شجر الدر من الداخل) لم أختر هذه النهاية.. لكنها الأشرف حين يكون الخلاص هو الملاذ الأخير.. حين أزف الي الارض.. تزغرد السماء.. فزغردي يا سماء.. فللمرة الأولي أختار.. نعم زغردي للحرية ..اخترت حريتي!!
إطفاء (مري أخري لحظات صمت وإضاءة متداخلة الألوان كأنما تولد أنتيجونا من خلالها تحاول الانفلات من خيوط الماريونيت وشهريار كما هو في بداية كل لوحة)
أنتيجونا: لم أعد أطيق هذه الوحشة، إنه سجن كبير، لابد من مخرج (تبحث هنا وهناك)
شهريار:أنت بالذات لا اريد ان اسمع لك صوتا .. أتفهمين؟
أنتيجونا: (تصرخ فيه بنظرة محدقة تظهر معها أسنانها كأنياب مع تركيز الاضاءة عليها) أبي! تحملتك كثيرا وأنت تعرف هذا.. فاغرب عن وجهي وإلا ستري ما لا تحب، لقد مللت.. مللت
شهريار:يبدو أنكِ مازلتِ تحرضينني علي الاستمرار في موقفي منك
أنتيجونا: (تتحرك كأنما هي في السجن) هذه الجدران أفضل كثيرا مما تريد مني
شهريار: يجب أن تستسلمي
أنتيجونا: لمن؟
شهريار: لي
أنتيجونا: (بعنف) لم تصر علي ذلك هه؟ أيها العاجز السفيه أتريد أن يقول الشعب أن كريون قتل ابنته أنتيجونا لأنها رفضت أن يظل جسد أخيها في العراء دون قبر يحمه من طيور السماء تفِّزع مرقده ولا من وحوش الفلا تقد مضجع روحه..
شهريار: أنتِ لا تدافعين عن كريون الآن .. إنما تدافعين عن خيانته
أنتيجونا: تبا لتلك الأحكام الظالمة.. وتبا لك
شهريار: إنه خائن، والخونة ليس لهم حق علي الكرام والنبلاء من أمثالنا.. أفيقي أيتها الشريفة
أنتيجونا: أي شرف يكون لأمثالنا وروحه معلقة من شراشفها في السماء تنتظر حفنات من التراب مجرد حفنات من التراب ..تواريها لتنعم بالهدوء والسكمينة
شهريار:(بصوت ونظرة لها مغزي) أخشي أن يوصم اسمك أنتِ الأخري بالخيانة.. أو يقال أنك كنت شريكة له!
أنتيجونا: احذر .. لم تأت من كتب التاريخ ولو توقظني كي تتحدث معي بهذه الظريقة.. لعلك نسيت من أنا وبنت من؟ هه.. (تصرخ) أنا أنتيجونا ابنة أوديب هل تعي ما أقول؟ أنتيجونا أخت بولينيس أنا ابنة المأساة وأخت المأساة وأحيا في المأساة.. (تبدو متعبة) نعم.. حياتي مأساوية إلي درحة لا يتخيلها بشر .. وإن كان يريحك أن أعترف بأنني كنت شريكة لأخي بولينيس فأنا أعترف بأنني كنت شريكة له بل لهما معا.. أخواي حبيباي.. بولينيس و إيتيوكليس (موسيقي متوترة) شاركته رحم أم واحدة وحليب أم واحدة وحنو أم واحدة وقلب أم واحدة .. هكذا كانت جوكاستا.. أمي جدتي شريكتهما في أب واحد ونلت ما نلت من فعلته الشنعاء.. آه (تصرخ) آه يا أوديب.. ذهبت هائما في صحراء الدنيا بعدما فقأت عينيك.. تحررت من فعلتك التي فعلت وتركتنا ثمارك الحنضل يجني المر واليباب.. آه (تصرخ)
شهريار: لن يتركك كريون تنجين بفعلتك هذي
أنتيجونا: دعك من كريون وخلك في روحك.. انظر إلي نفسك ودعني ومأساة أخي
شهرزاد: (تحركها.. وتهمس لها بصوت أثير ..) تعالي يا حبيبتي، اهدئي قليلا.. (تقترب منها .. موسيقي مناسبة ترقصان معا رقصة في نهايتها نري شهرزاد وأنتيجونا تتوحدا معا وتبدوان جسدا واحدا كخيال ظل فيما تهدأ الموسيقي، وتنفصل شهرزاد عن أنتيجونا تسرع شهرزاد إلي مكانها علي الكرسي في داخل المسرح معلقة أنتيجونا بخيوط الماريونيت.. إضاءة غامضة وصوت كأنه يأتي من بئر عميق، ينادي بهمس لا يخلو من الرعب) كريون.. كريون.. (تصفو الإضاءة شيئا فشيئا ومع صفائها يتجسد كريون.. في عمق المسرح نري حركات تعبيرية لشهريار وشهرزاد ومثلها لكريون وأنتيجونا، يتبادل شهريار وشهر زاد خيوط الماريونيت فتصير أنتيجونا مع شهريار وكريون مع شهرزاد.. يظلم المسرح إلا من بقعة مركزة علي كريون وأنتيجونا ولا يظهر شهرياروشهرزاد، بل تظهر فقط الخيوط الملونة بالفسفور في الظلام.. فيتواجهان بحدة ويبدوأحدهما في حالة هجوم والآخر دفاع).
كريون:(مقطبا ما بين عينيه بحدة) قلت لك لا تتحدي تعاليم الآلهة
أنتيجونا:إنها ليست تعاليم الآلهة ..إنها تعاليمك أنت، أنت من نصّب نفسه إلها
كريون:وما يزعجك في هذا؟
أنتيجونا: أن يضع البشر نفسه في موضع لا يمكنه الوصول إليه والتصرف بمقتضاه شيء مثير للقرف.. نعم .. مثير للقرف خاصة إذا كانت تعاليم الآلهة صريحة وتأمر بغير ما تصر أنت عليه
كريون:ابتعدي عما لا يفيدك أنتيجونا وإلا فالعاقبة غير محمودة (بتهديد) وأظنك قد عرفتي بقراري..
أنتيجونا: لا يهمني أن أموت، فالموت حين أريح ضميري قمة ما أتمني تحقيقه، الموت لي هو جناح الحرية الذي تحاول أن تقصه دائما لتجردني من وجودي، أما أنت.. فالخوف يلجم فمك فلا تستطيع التصريح بأكثر من هذا التخويف الزائف..(تقترب منه) إنني لا أخافك.. انظر يا كريون، بل أنا في مواجهتك كأعتي الرجال.. أرني نفسك ماذا يمكن أن تفعله بي
كريون:هل .. هل أنتِ مخمورة؟ (يمسكها ويهزها) أفيقي.. أفيقي فدورك اقترب لتصعد روحك الشعساء للسماء بجوار من صعد من عائلتك (باستهزاء) عائلتك المقدسة..
أنتيجونا: (تلف حوله وتتأمله في حزن وشجن) هل أنت خالي فعلا؟ خالي كريون؟ خالي يعني والدي؟ (تكاد تبكي) ما الذي حدث؟ أين رقة القلب التي كنت أراها علي ملامح وجهك؟ هل كنت مخطئة؟ هل كنت تلبس وجها لقاسٍ غيرك؟ هل غيّرك العرش هكذا لتصير كوحش لا يحمل في كيانه غير الشر والانتقام وممن؟ من ابن اختك بولينيس؟
كريون:(بتمثيل) هذه أوامر السماء يا عزيزتي ولا دخل لي أو لبشر فيها
أنتيجونا: أوامر السماء؟!! (صارخة فيه) يالك من كريون مسكين.. أنت هو من يمنع قانون الله أن يتحقق ها هنا في الأرض، وتدّعي أنه جاءك الوحي من السماء.. (باتجاه السماء) يااا إلهي يا إلهي
كريون: العدالة يجب أن تتحقق والخونة لا يدفنون ببطن الأرض.. يظلون هكذا علي ظهرها كالمطاريد ليصيروا عبرة لمن يعتبر
أنتيجونا: هل واثق من أن ما تقول هو الحق أيها الكريون؟ هل أنت من يمنح البطولة لإيتيوكليس وتمنحه الراحة الأبدية في جنازة رسمية وعلي جثته ترشُّ النياشين والورود.. وتمنح الدناءة والرداءة لأعدائك.. بل عدوك الوحيد بولينيس؟ ما هذا الفحش والعهر يا رجل؟
كريون:صهٍ أنتيجونا.. لا أدري كيف لهيمون ولدي بحب فتاة سليطة اللسان مثلك
أنتيجونا: أتسمي الصدح بالحق سلاطة لسان؟
كريون: (يصرخ بينما نلمحها من خلال خيال الظل تحفر تحفر الأرض وتدفن جثة بولينيس وتهيل عليها التراب وتسويها.. يبدو شعرها مهوشا وعلي وجهها وملابسها البيضاء بقايا التراب..) زاد الكيل وطفح.. أين أنت يا هيمون يا ولدي؟ يا حراس.. يا جنود.. يا شعبي الذي يثق بي
(تقف منهارة في بكاء) بل نادِ شعبك الخائف الخانع، شعبك الجائع الذي يتبعك ككلب بائس!
كريون:(يحاول الانقضاض عليها تشده شهرزاد فيما تهجم عليه أنتيجونا) فتاة لعوب تحاول التهام عقول الشعب الذي يتوق لسماع أي شيء جديد..
أنتيجونا: بل صوت السماء الذي تحشيي أن يصم أذنيك.. وهذا الشعب الذي تلوثت أذناه بتعليماتك تراه وقد صار ملك يمينك.. لكن روحه ما تزال طازجة يمور فيها الخير وإن لم تستطع الهتاف في وجه قبحك، يكفيني إنني أفهمها وتشعر بي.. لعن الله الخوف.. لعن الله السلطة لعن الله كرسي الحكم المغموس بدم ابنيّ أمي
كريون:أنتيجونا.. حان الوقت لأتخلص منك نهائيا..
أنتيجونا: لن تقدر
كريون: القبر الآن معدٌ لاستقبالك..
(نشاهد عبر خيال الظل شواهد قبور وبجوارها كوخ بالحجارة وبجواره يقف جنديان يحملان السيوف بينما تشير إلي القبر الكوخ وهي تضحك بعنف وتخبط يدا بيد) هاها هاها .. هاها هاها.. قبر؟ أستدفنني وأنا حية؟ هل هذا قانونك العلوي؟ فلتفعل.. لن ينسي الشعب فعلتك الدنيئة ولن ينسوني أنا أنتيجونا.. سيسجلون اسمي في صحائفهم البيضاء.. مهما أظهر لك خوفهم غير ذلك.. أما أنت فانعم بحياتك في الجحيم علي طول المدي.. هاها هاها (كلما هم ليمسك بها.. كلما شد خيوط الماريونت الخاصة بها شهريار)
كريون:(صارخا) اسكتي .. لا أريد أن أسمع صوتك.. ضحكاتك تقتلني (يغلق أذنيه) اسكتي
أنتيجونا: هاها هاها .. لن أصمت وستطاردك روحي للأبد.. وروح ابنيّ أمي وأبي وابنك والشعب.. حتي الجمادات ستقف بوجهك يوما ما.. أيها المارق
كريون: لا.. لا .. اتركي لي ابني هيمون.. لا تأخذيه معك..
أنتيجونا: (تضحك بجنون) كيف للطهر أن يعيش في حشاشات النجاسة والفسوق.. أنا لم أجبره علي شيء.. فقط هو من اختار.. اختار أن يسبقني إلي الحرية.. وأنا غير نادمة.. (تصرخ وتنادي متجهة باتجاه خيال الظل نحو القبر.. فيما يفك لها شهريار الخيوط شيئا فشيئا .. ) أيها الجنود والحراس والخدم عبيد كريون الحاكم المسبد الطاغية…. افتحوا قبري.. خذوا من دمي وعطروه بعطر محبتي للعدل والحق والحرية.. نعم الحرية.. (تدخل القبر وهي تكمل ) هيا هيا هيا.. اغلقوا جيدا .. جيدا.. الآن فقط.. قد نلت حريتي .. (الجملة الأخيرة تغني بصوت أثير فيما تتناثر اضاءة متماوجة مهتزة تخرج من خلالها شجر الدر وكليوبترا وديدمونة وأنتيجونا.. وشهرزاد ترقصن رقصة تعبيرية مع الجملة المغناة .. يتحكم فيهن جميعا شهريار .. محركا إياهن بحركات يديه مستغنيا عن خيوط الماريونيت.. ومن خلفهن علي شاشة خيال الظل.. يقف كريون وعطيل، أنطونيو، أيبك،.. يتشاجرون معا ونسمع صوت سيوفهم وهمهمات)
النهاية
تنويه
لا يمكن استغلال هذا النص أو أجزاء منه بأي طريقة كانت .. إلا بموافقة كتابية من الشاعرة والكاتبة المسرحية صفاء البيلي.. حيث أن النص موثق بالجهات الرسمية ومنشور بجريدة مسرحنا المصرية