د. “محمد سيف” يكتب: مسرحية “سيدرا” لخزعل الماجدي وفاضل خليل استلهام قصة “الطوفان” على خليفة تناص شكسبيري
المسرح نيوز ـ بغداد | محمد سيف*
كاتب وناقد مسرحي عراقي
ـ
مايدعونا للتوقف، اليوم ، عند مسرحية (( سيدرا )) لمؤلفها الشاعر العراقي خزعل الماجدي ومخرجها فاضل خليل ، ليس لأنها حصلت على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان أيام قرطاج المسرحية ، وانما لأنها الوحيدة من بين جميع العروض التي قدمت ، كانت تمتلك تقاليد مسرحية خاصة بها لأنها ، تذكرنا بالكلاسيكيات العريقة ، بالملاحم الفخمة المليئة بالشخصيات.
وبالمسرح العراقي المقدس وجمالياته التي أسس لها كل من : ابراهيم جلال ، جاسم العبودي ، بهنام ميخائيل ، قاسم محمد ، سامي عبد الحميد ، صلاح القصب وغيرهم ، حيث يكون فيها المؤلف ، المخرج ، الممثل ومصمم الديكور منسجما مع نفسه ومع العرض بشكل عام كما انها ، تجيب على جميع الشكوك التي كانت تقول بأن المسرح العراقي قد أنتهى وحل مكانه كل ماهو تجاري سلعي مبتذل لايمكننا ان انكار وجود المسرح التجاري ، الرديء ، الذي يمكن وصفه بأنه ( مومس ) حسب تعبير بيتر بيروك لانه يشبه الى حد كبير المومسات عندما يأخذن الثمن ويقضين اللذة لفترة قصيرة ، أي حتى المتعة فيه قاصرة ، فاشلة قائمة على منطق تجاري ، البيع والشراء ، وهذه العلاقة بحد ذاتها مجردة من العمق الحقيقي للتواصل . يوجد الان في العراق نوعان من المسرحة : المسرحة تعلمت على بيع النفس ، وتحطيم كل ماشيده الاولون من معماريات داخل المواطن العراقي ، واخرى تبني في ذاته ممالك ضوئية ، وتعيد له جمال الابجدية
الكتابة الجديدة لقصة الطوفان
لاتستمد قصة ( الطوفان ) أهميتها من كونها تروي تفصيل الكارثة المروعة التي تعرض لها البشر في سالف الزمان وانما لانها تحتوي على تفاصيل ومعتقدات في غاية الاهمية عن السومريين والبابليين تتعلق بخلق الانسان .
تقول الاساطير ان الالهة عندما خلقت الكون قسمت فيما بينها الوظائف والمناصب . وقد تم اختيار مجموعة منها ( التي يطلق عليها في السومرية اكيكي IGIGI) عهدت اليها مهمة أعمار الارض وقد عملت هذه المجموعة في الحفر واصلاح الارض وفلاحتها اربعين سنة متوالية . وتحت وطأة التعب ومشقة العمل قررت هذه المجموعة من الالهة أن تعلن العصيان والثورة . وهكذا خلق الانسان ليكون بدلا عن الالهة في تحميل مشقة العمل ولكن عندما تكاثر البشر وازداد صخبهم وضجيجهم في الارض قرر الالهة الحد من انتشارهم عن طريق انزال الامراض والاوبئة بهم . ولكن الانسان استطاع ان يتخلص من شر الامراض بفضل مساعدة الاله أيا ( أنكي) .
ازداد اصرار الالهة على معاقبة البشر بأحلال الجفاف والقحط ، ومع ذلك تفشل المحاولات في نهاية الامر . وبعد فشل جميع المخططات تقرر الالهة أفناء البشر ولكن الاله (( أيا )) يفشي قرار الالهة الى رجل الطوفان ولقد اعتبر ( الطوفان ) لدى الاقدمين ، نقطة لتاريخ قديم حدث في زمن بعيد ويستعير مؤلف عرض مسرحية ( سيدرا ) الشاعر خزعل الماجدي ، هذا التقويم السومري البابلي الاشوري ، الاكدي ألخ ، لكتابة احداث التاريخ الحديث ، دون الخروج به عن محاور الاساطير والنصوص العظيمة ، واللجوء الى اسلوب الحياة اليومية التي غالبا ماتسطح الاحداث وتحيلها الى مجرد قطرات من ندى لهذا لجأ الماجدي ، في معالجته النصية الى نوع من التناص الضمني مع ابطال واحداث نصوص شكسبير ( قصة الملك لير وبناته الثلاث اللآتي يصبحنا لدى الماجدي ثلاث ابناء ، هاملت في حوارات مع أمه وحبيبته أوفيليا التي تتوزع في نص الماجدي ولكن بكتابة جديدة تتماشى مع احداث مسرحيته ، على حوارات ( ليليث ) أمراءة سيدرا ألاب وابنائه الثلاث ( هام ، يافث ، حام ) و( ريتشارد الثالث ) من خلال عنصر التشويق الذي كان يرافق ابن سيدرا الاكبر قصة العرض على شخصية (( زيو سيدرا )) بطل قصة الوفان في النسخه السومرية ، الذي له مايناظره تحت اسماء اخرى في قصص الطوفان البابليه . ان زيو سيدرا ، اللذي يتكون اسمه ، بموجب الدكتور فاضل عبد الواحد علي ، من ثلاث مقاطع سومرية (ZI ) ، (بمعنى الحياة ) و (U ) ، ( يوم ) و ( SUD ) بمعنى ( طال او اطال ) ، لذلك فالارجح ان اسمه يعني الذي جعل الحياة طويله ،( كناية بالطبع عن الخلود ) . وقد كان زيو سيدرا ، اخر الملوك اللذين حكموا قبل الطوفان وخصص له في قائمة الملوك فترة حكم مقدارها 36000 ، وتنص على ان زيو سيدرا ابن تروباك ولكن كلمة ( ابن ) لاتدل هنا على علاقة نسب بين ابن وابيه وانما يراد الاشارة الى ان زيو سيدرا كان من اصل ( اهالي مدينة شروباك ) ، وهي المدينه التي تدور فيها احداث قصة الطوفان .
ان الذي يثير ، بشكل تاولي ، في نص وعرض سيدرا ، هو انسان السلطه الذي يشعر فجأة وفي لحظة وجودية ، بالضعف والوهن وخروج الاشياء عن سيطرته . ان تفسير الحلم الذي يقصه سيدرا على اولاده ، بعدما غسل الطوفان الارض من ادرانها وطهرها من الشر مثلما كان يعتقد ، يقوده لتقسيم مملكته بين ابنائه الثلاثه ، وفقا لتفسيرهم للحلم . ان ( حام ) بعد مغازلته لابيه ، يطمح بازالة العقاب عنه لكي يرجع سويا وبالميراث . ولكن الاب يرفض ازالة العقاب عنه ويعطيه جنوب الارض .. ويعطي الابن الثاني ( يافث ) اعالي الارض .. اكبر الاقسام وابردها ، في حين انه يقسو على ابنه ( هام) عندما يخبره بحقيقة الاشياء : السفينه ذات السفينه .. والرجل ذات الرجل . مابال الحيوانات والطيور ؟ مابال الاذرع والارجل تتضاعف ان لم يكن هناك مايبزعها ! اليراع مرتفع حولك .. مظلم وعنيد .. الغراب اعظم من الحمام قال شيئا وصمت .. الحمامه ملساء ناعمة .. ملقه .. تريد ان تعيش .. الخلاص يتحطم ( … ) وكتابك .. كتاب النور هذا ستمسكه وحيدا باكيا مطعونا تخترق الدماء رأسك وزمانك ) .عند هذه الكلمات يكتشف الاب ان الطوفان لم يغسل الشر تماما عن الارض لم يمس النفوس . فيقول ( انت تقول هذا .. انت الذي فضلته على الاخرين وكنت قد هيأت لك ميراثا اجمل واحسن مافي ملكنا .. وكتاب الاسرار . فما دام الامر كذلك ، ليكن لك ولابنائك هذا القسم من الصحراء، ولتكن خرابا عليك اينما حللت ) . ان هذه المجموعة من الاحداث تغرق الاب في موجة من الحزن الذي يؤدي به في النهاية الى الموت ، انطلاقا من هذه البداية الشكسبيرية تظهر من خلال تسلسل الاحداث وتقاطعاتها اشارات المرض والتدهور اللذين يكشفان الغطاء عن الوجه الحقيقي لامرأة سيدرا ( ليليث ) وغوايتها لاالتي تطيح بالابناء والاعمامك ، في ذات الوقت تظهر علامات الخيانة النرجسية الاستبداد النزوع الطبيعي نحو الانحطاط وتدهور الذاكرة ان خزعل الماجدي وفاضل خليل قادانا ، في هذا العمل الى قلب العمى الانساني لكي يزيلوه عن العيون ويهدوا القلوب الى الطريق .
لقد رسما لوحة تكاد تكون فيها الارض حاليه الامن القليل من البشر ، ومع ذلك نراه مكتظه بالبشر الذي يتلائم مع فوضى العالم الذي نعيش . ان المجرى النهائي لحياة سيدرا المستبد ، يأحذ جانب التجريد والتجرد وانتقال السلطة من الاباء الى الابناء وقيام نظام جديد لاسيما ان الانسان قد تخلص من شر الطوفان ،عجبا ،هل كان المؤلف والمخرج متاكدين من النتائج بدرجه كبير ة؟ اننا لسنا من اصحاب هذا الرأي او الرؤيا ، لان الذي كان بشغلنا اكثر ، في هذه المسرحية / العرض ويحتل لنا جميع فضاءاتنا ، مظهر التعقل ، الواضح والجلي … التعقل والحكمة اللذان هما ليسا بالضرورة متشائمين . ان المسرحية بمثابة تشريح وتحليل لروح الاسطورة والانسان . ولقد انقذ الماجدي وفاضل خليل ، الملك سيدرا من ارباكات السمعه السيئة التي يمكن ان يجنيها اب من عقوق ابنائه ، ليكشفا لنا عن مدى تضحيته في سبيل انقاذ الانسان والارض . هذه التضحية التي دفع ثمنها غاليا
. قد اخرج فاضل خليل هذا العمل بحماس مستوحى من الليل العاصف الذي ألم بالاسطورة ، وبالعالم الجديد الذي يدعي الحداثه ، والعراق في آن واحد . ان ماكتبه خزعل الماجدي من شعر وتاريخ واسطوره قام بترجمته فاضل خليل بمخيله مسرحيه سحريه استطاعت ان تكون مبدعه على جميع المستويات . واول مظاهر هذه المستويات ، هو عنصر ( الاختيار ) .. اختياره للفضاء الذي قدم فيه العرض .
حيث الديكور الامقتضى الذي اعطى الممثل حرية خلق مناخاته المتحركه التي لم يبنها ديكور مصطنع ، وانما حضوره شبه الوحيد على المسرح . ولقد تعامل الممثلون مع هذه الحرية الممنوحة من قبل المخرج بشكل ذكي و متقن ومازاد العرض روعه وعمقا دراميا اما المظهر الثاني ، للابداع هو تصمي
م المخرج للحركة المسرحية، التي كانت رشيقة ومموسقه بكيفيه جمعت الماضي المتمثل في الاسطوره المراد محاكاتهخا بالحاضر الذي يعني به العرض بشكل مباشر . لقد صمم المخرج فاضل خليل حركته المسرحية على اساس جمالي ، منح المواقف والمعاني والدلالات الخفية وجودا مرئيا ، ووجودا دراميا ، فكريا يحاكي اللحظة العراقية الراهنة التي لخصتها تساؤلات كلمة المخرج : ( من يستطيع دفن شريط الابجدية ؟ من يستطيع ان يدفن عقدا من الخرافات ؟ هل تبددت الحياة مثل خرزة وسقطت في البئر ؟ لانعتقد هل نحن امام عبء لانعرفه كيف نواجه ؟ كلا .. رغم اننا انزلنا من اكتافنا اكياسا ملاء برفات الاولين .. وكأننا انزلنا ماضي الانسان كله .. حتى لانشعر بهول (( الحصار )) الذي وضع في حافات السمكة (( أجنحة )) وقال لها لاتطير الافق يقطر دما والشمس حزينة تائهه ..
هذا المعنى الواضح نذهب اليه متنكرين أو أصحاء لنخرج ماضاع في جوف الارض ولنستنبت القوي والرغبات ) ولم يكن ذلك على مستوى التشكيلات الجماعية
البديعة ذات التعبير المكثف فحسب ، في عمق ووسط وأعلى يمين ويسار المسرح ، وانما حتى في المشاهد الفردية التي جاءت على هيئة تداعيات شكسبيرية وجودية لايمكن نسيانه
ا وفي المشاهد الثنائية بين (( ليليث )) اقبال نعيم وبين بقية الاطراف (( حام )) عزيز خيون ، (( هام )) هيثم عبد الرزاق ، (( يافث )) فيصل جواد ، (( عمر )) ميمون الخالدي ، حيث استخدم المخرج في هذه المشاهد الثنائية قيمة الاغواء – اغواء ليليث لأبناء زوجها الثلاثة وكذلك أخوه وذلك رغبة منها بالانتقام والحصول على كل مايملك من سلطان ومعرفة – أي أن الاغراء هنا كان وسيلة ضمن وسائل عدة لتحقيق مأرب سياسية استيلائية لقد جاء (( تصميم )) الحركة في هذه المسرحية التي عرضت فوق خشبة مسرح ذي مقاييس كبيرة ، يمكن أن يبتلع اتساعها الحركة وبعض التفاص
يل ، تعبيرا خلاقا لمفهوم الاخراج الحديث ، الذي يجعل الحركة المسرحية (( لغة درامية )) تفسر وتعمق وتؤكد البنى الدرامية من ناحية وتضفي عليها جماليات وجدانية لها دفئها وسحرها الخاص ان المسرحية تنتمي كمتن أدبي وكأطار عام الى المسرح الكلاسيكي التراجيدي ، الى مسرح الاساطير القديمة التي يلعب الالهة فيها ادوارا كبيرة تتحكم بمصير البشر ، مثلما تنتمي الى نوع المسرحيات التي تستوحي
مسرحيات واحاثا سابقة .
ومثلما فعل شكسبير عندما استوحى قصة اسكتلندية قديمة بعنوان (( الملك لير وبناته الثلاث )) فكتب على غرارها رائعته ، الملك لير ، ومضيفا اليها شخصية غلوستر وأبنيه ادجار وادموند وكذلك البهلول ، كتب الشاعر خزعل الماجدي مسرحية (( سيدرا )) على غرار الملك لير ، مضيفا اليها شخصيات تنتمي الى الاساطير العراقية القديمة ، مستنطقا من خلالها حالة الطوفان ومصير البشر في هذا العصر الذي يكاد أن يكون أعمى ولقد نجح المخرج فاضل خليل في تجربته هذه في استلهام روح الاسطورة وبعض تقاليد ، مثلما نجح في تحويل أجساد ممثليه الى أسلحة فكرية استطاع من خلالها ان يؤسس نوع من المراسلة مابين لغات العرض المسرحي وفنونه المتعددة لقد عشنا ، بشكل عام عرضا مثيرا للجدل والنقاش تعاونت فيه مجموعة عناصر وفي اولها أللعب المسرحي الذي اعتمد على ممثلين يمتلكون حضورا فنيا ليس بالجديد او البسيط .
فقد استطاع عزيز خيون الممثل والمخرج المعروف ان يقدم ببراعة شخصية ( حام ) الابن الاكبر لسيدرا بكل ماتحتوي من دهاء وتشويه جسماني وفكري مشوش ، ذكرنا بشخصية ريتشارد الثالث لشكسبير الشره الشرس والضعيف .
والممثلة أقبال نعيم التي قدمت شخصية ( ليليث ) زوجة الملك سيدرا ، بفهم واع وعميق لكل دلالات الشخصية الفكرية والاسطورية .
وميمون الخالدي ، الذي جسد شخصيتين في عرض واحد – سيدرا الملك ، وشخصية أخيه ( عمر ) الذي يقع في حبائل ومغريات ليليث – بكل اختلاف وتنوع .
اما الممثل القدير هيثم عبد الرزاق ، الذي قام بأداء شخصية ( هام ) الذي اسعدنا أن نراه اخيرا على المسرح بعدما كنا نسمع بأمكانياته عن بعد ، بحيث كان
بالنسبة لنا بمثابة مفأجاة تمثيلية ، أتسمت بالتعبير والسيطرة العالية على المشاعر الداخلية والخارجية التي كانت تنازع الشخصية امامنا .
اما الممثل فيصل جواد ، زميل الدراسة وأيام معهد الفنون الجميلة ، ذكرنا وهو يمثل شخصية ( يافث ) الابن الصغير لسيدرا ، بالتقاليد المسرحية للممثل العراقي الذي أخذ الكثير من آبائه الذين رحلوا وتركوا ورائهم أرثا مسرحيا صحيحا يمكن الاستفادة منه .
وكان من أهم مايمكن ان نلاحظه أيضا على هذا العرض هو ان فريق العمل كان يشتغل بروح المسرح الجماعي التي استطاعت في كليتها ان تقدم عرضا جيدا ، ملتزما وممتعا في نفس الوقت ، نال أعجاب المشاهد العادي والمختص.