المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص
ـ
مسرحية
تُرابٌ مُرْ
(ليسَ كُلّ ما تؤمِن بهِ، يُمكن أن يَصبح حقيقة)
الكاتب/ جاسم المنصوري- العراق
شخوص المسرحية:
- الفلاح، زارعُ النخلِ، وحارسٌ للأرضِ، وأمينها.
- ممثل 1، سياسي يبحث عمّن يبقيه في كرسيّ الحكم للأبد.
- ممثل 2، شاب مقاتل، إستشهد، ويريد العودة للحياة.
- ممثلة شابة، تتمنى لنفسها جمال لا ينبغي لأحد آخر.
- الصوت.
الفَصل الأول
(مُحاولةُ التأثيرِ على الصَّحِ)
إستهلال: المسرحيةُ لا تنتمي لِهذا الزمنِ، أو ربما ينتمي جُزء منها إليه، أحداثها لا تحتاجُ لتأثيثِ المكانِ، كي يكون على
مَقاساتِها، بَلْ يكفي لرقعةٍ جغرافيةٍ بسيطة أُسمُها -وطَنْ- تكونُ شاهداً حَيّاً على ما يثارُ من تُرابِ الحقيقة في وجوهِ الأخرين.
المشهد الأول
بيئة العرض: (الظلامُ يلفُّ المكان، إلاّ من ضوءِ أبيض ناصع، يتوسطُ المسرح، الفلاحُ يَحرثُ الأرضَ، يهيلُ التراب على
الجوانبِ، صوتٌ يصاحبهُ عزفٌ موسيقي مناسبْ)
الصوت: مُنّذُ الطوفان الأول والى الآن، الريحُ هي نفّسُ الريح، وأعواد البخور ترقصُ في عرسِ الناسِ وقبور موتاهم، مُنّذ
الطوفان الأول والى الآن، الحزن هو الحزن، والخوف هو الخوف، مشّطنا طرق الله بالبسملة والتهليل، وعدنا من
جديد نعدُّ الخطوات، نكتب أخطائنا على وجه الماء، ونعود من جديد لنخطأ…. يا أيها الحالمون بالغد اما آن لكم أن
تصحو؟ أكاد أشمُّ رائحة الخذلان تفوحُ من بين أنامِلكم التعب، من بين عيونِكم التي عاش فيها الخوف حتى ملّ
العيش فيها، كونوا بمستوى تأريخكم، ذلك التأريخ الذي ضمّ بين دفتيه عناوين مجدكم وكرامتكم، الأوراق نفس
الأوراق، لم تتغير، الا نحن.
(ينكشف الضوء قليلاً، يظهر في الوسط ثلاث مكعبات خشبية فارغة)
الصوت: ماكينة الجوع التي طحنت أغلبنا ما زال شيء منها يوخز في الخاصرة، وكأنه يريد لنا ألا ننسى بعضا من
تأريخنا المُرْ، هو الجوع إذاً، وليس الطوفان، أو ربما الطوفان والجوع معا، مَنْ يدري! إذا إجتمعت على الفقير
النوائب تجتمع كلها وبكل تفاصيلها، حتى لا تترك خرم إبرة الا ودخلته، هو الجوع إذاً، الجوع وهذه السنوات التي
نحملها على أكتافنا هي التي تفسر بقائنا الى الأن، أيها الحالمون بغد أجمل، عيشوا لحظة الإنتظار والترقب، الغد
آت، مراكبُ الشمس سَتحطُّ رحالها في بلادِنا، ويكون العيد سعيداً.
(صوت ينشد بعذوبة: * أَيُّ شَيءٍ في العيدِ أُهدي إِلَيك
يا مَلاكي وَكُلُّ شَيءٍ لَدَيكِ)
الفلاح(يردد): أَيُّ شَيءٍ في العيدِ أُهدي إِلَيكِ؟
(يضحك ويترك المسحاة تقع أرضاً)
وَكُلُّ شَيءٍ لَدَيكِ، اذاً لِم تسأل يا صديقي؟ وكل شيء لديها، نحن المجبولون على الخَبَلِ، نساوم في أسئلتنا، لا
ندري ما نريد، المهم أن نكون على قدر العشق، على قدر رجولتنا تأتي الفحولة والعزيمة، نحن المجبولون
على الخبل نعشق حدْ الجنون، أوليس العشاق المجنون منّا، يقال وعلى حدْ معرفتي إن نصف العشاق المجانين
حول العالم من بلادنا والنصف الآخر جُنّ بقصص العشق العربي.
(يدور في الأرجاء، يفتش عن شيء ما)
كان هنا، أضعته هنا، أتخيل إني أنزعه هنا، ويضيع مني هنا، وفي النهاية أجدهُ، لعبة يلعبها معي ذاك الخاتم،
ذاك الرِباط الأزلي، خاتم السماء هو كل ما تبقى منها ومني.
(يلمس كفهُ)
كان هنا، أحتفظ به حتى ترك أثراً فوق الجلد، الأشياء العظيمة هي التي تترك أثراً في الوجدان وفي الذاكرة وفي
التأريخ، مَنْ يَمرُ في هذه الدنيا دون أن يترك فيها شيئاً، يضيع مِثّل دخان بلا طعمٍ ولا لونٍ ولا رائحة.
(يبحثُ في الترابِ)
الخاتم الذي يلعب معي كل يوم لعبة الاختباء، هو نفسهُ، هو عيّنهُ الذي أجده في نهاية اللعبة، وكأنه يريد أن يقول
لي: إياك أن تنسى.. أنسى؟ وكيف للإنسان أن ينسى جراحهُ كيف؟ هذه الدنيا أيها السادة
(يقف منتصباً)
هي حدٌ فاصل بين أن تعيش أنت وكل ما تمتلك من ذكريات وجراح وبطولات وخيبات، وبين أن تكون خارج
دائرة الضوء، التأريخ هو مَنْ يتكفل بالتسجيل، دع عنك هموم الدنيا.
(يضحك، ويتوقف)
هموم الدنيا، نحن مَنْ يَصّنعها، نعم، بل نبتكر أشياء غريبة كي نتلذذ بعذابنا، أين أنت أيها الخاتم العزيز، أعرف
إنك تختبأ في التراب هذا، هذا التراب الذي رضعّتُ من رِضابِه عمراً، السماء التي أُحبْ، أورثتني ذاك الخاتم،
وأبي أورثني هذا التراب، وآمرني أن أزرع نخلة ها هنا، نعم ها هنا، قال لي: النخلة عمة أبينا، لا تفرط في
النخل، وأنا سوف لا أفرط في النخل ولا أترك الخاتم. (بصوت أعلى) الخاتمُ لِمَنْ يستحق.
(يشّبك يديه خلف ظهره وهو ينظر الى التراب)
ما أعظمك أيها التراب، يخرج من بطنك النخل والماء والشجر، ينام على وسادتك الحالمون والعاشقون ويغسل
وجهك المطر، يتوسّدك العشبُ، يذوب في مساماتِك الميتين، يغني فيك من غادرك لأنك الوطن، أيها التراب بين
ذراتك الأن حلم النخلة والخاتم، المغتربون يقولون: كلما نبتعد عنك نفقد ذاك البريق المعجزة، أنت أيها
التراب الوطن، عكس الصورة، فالصورة كلما تقترب منها لن تشاهدها بوضوح، الاّ أنتْ.
(يصّعدُ على أحدِ المكعبات، تضاء وحدها فقط)
يقول* تولستوي: سوف تموت، وسوف ينبتُ العشب على قبرك وينتهي كلَّ شيء، وأنا أقول: مَنْ يحْفرُ إسمه في
وجع الأرض شهيداً، لا ينتهي، مَنْ يغّسلُ وجه التأريخ بدمهِ لا يغادر الذاكرة، مَنْ يزّرع روحه نخلة في التراب
المُرْ لا يموت هكذا، كُلّ شيء يعطيه الإنسان بإرادته هو صادق فيه ولا يكذبْ، مَنْ غادرنا شهيداً لا يكذب، مَنْ
باس الأرض بدمه لا يكذب.
(الصوت يعاود مصحوباً بموسيقى مناسبة)
الصوت: أيها الناس، اليوم سيكون معكم شيء من نتاج الأرض، فلاح، ومقاتل، وسياسي، وسيدة، والخاتم، شيء من نتاج
الأرض ليس بالضرورة أن يكونوا مثالاً لنتاج الأرض ورحمها، لكنهم جميعاً من لحمها وشحمها كما يقال، كلهم
يبحثون، يبحثون عما ينقصهم، أو يكمّلُ حياتهم، كُلّ يغني على ليلاه، لكنهم لا يتشابهون في شيء، الاّ فيما
يطلبونه من حارس الأرض، طلبات الناس تختلف فيما بينها، لكنها تتوحد في الصورة، أو تتقاطع في المعنى،
الفاصل بينهم الرغبة والدهشة والأمنيات، ستكتشفون لوحدكم أيها السادة عما يبحثون، ليس مهماً إن وجدوا شيئاً
او لا، المهم إنهم سيبحثون في التراب، في الأرض، في جعبة الفلاح، لإن المعادلة الكونية تقول: ما يسقط من
السماء تلتقطه الأرض، الأرضُ سَلّة أشياؤنا، صندوق أسرارُنا، مُنذُ قابيل وهابيل والغراب، وهي تَلّمُ ما يتساقط
منا وتحّميهِ، الأرض سرُّ بقاؤنا.
(الصوت يرتفع وبحذر يصرخ)
أيها الفلاح في كلّ مرةٍ سيأتي اليك من نتاج الأرض مَنْ يساومك على الخاتم.
(الفلاح يصّعدّ الى المكعب الثاني، يُضاء)
الفلاح: قال أحدهم: يوماً ما مَررتُ بأحد المقابرِ، فرأيت قبراً كُتبَ على شاهدهِ (هنا دُفن الزعيم السياسي المُحنك، هنا يَرقدُ
الرجل الصادق) فسألت نفسي: كيف يُدفن الإثنان معاً؟
(وهو يَسّألُ ويُفكّر، يُدير ظهرهُ الى إحدى الزوايا)
الفلاح: صحيح، كَيفَ يناما معاً في نفس التربة؟ كَيفَ؟ الصّدقُ عنواناً للنجاة، لا يجتمع مع المهادنة، والمساومة، كي
تكون سياسياً عليك أولاً إتقان اللعبة القديمة –الغاية تُبرّرُ…..، أكملوا أنتم، عليك أن تؤمن جيداً بالهزيمة والفشل
والخذلان، الناس ليسوا كأسنان المشط في مزاجهم، يتقلبون ويميلون كأغصان الشجر، أما أنت أيها السياسي فإذا
فشلت غيّر اسلوبك ولا تغير مبادئك، فالأشجار المثمرة تغّيرُ أوراقها ولا تُغيّرُ جذورها، السياسيون الناجحون،
وحدهم يعرفون إتقان اللعبة، حطْ زايد تأخذ زايد.
(يضحك وهو يردد: حطْ زايد تأخذ زايد)
السياسيون بوعودهم الزئبقية، يأخذونكم الى النهر ويعودون بكم عطشى، لا تستغربوا، فن اللعبة هكذا، المهم العبرة
في البقاء، سحر الكراسي المُبهر، يخطف الأضواء، ويسيل ُ عليه اللعاب، بعضهم لا يعيش بدون الكُرسي، يموت
مبكراً، تقتله الحسّرة.
(يستقيم في وقوفه)
كي تكون سياسياً عليك بالجمهور، نعم، إسّمعُهمْ، ليس بالضرورة أن تنفذَ لهم ما يشتهون، فالناس مزاجاتِهم مُتقلبة، قدْ
يؤمنون بما تقول، لكنّ من السهل أن يتأثروا بغيرك، فن الإقناع ضروري، بعض الجمهور أو الناس، سمّهم بما
تشاء، يحترمون مَنْ يُعبّد لهم طريق المدن بالكذب والخداع، بلْ يتنافسون على مسح أكتافه.
(صوت يردد: حطْ زايد تأخذ زايد)
(الفلاح يصّعدّ الى المكعب الثالث، يُضاء)
الفلاح: بيّنَ الإحساس بالحُبِ وبين التردد، مسافة، كأنها المسافة التي تفّصلُ بين الولادة والموت، كلاهما على حدّ الوجع
واللهفة، العِشقُ زاد الفقراء، والمرأة منّذ التأريخ تسير في دمنا قوة وتضحية، المرأة هاجس وضلع الرجال، نبحث
عنها، اذ هاجرتنا، نَتحسسّ جلودنا إن لمْ تَكُن معنا، بيّنَ الإحساس بالحُبِ للمرأة وبين الجنون خيط رفيع، المرأة أكبر
منا في اللهفة، هكذا أنا أتقد، لكنها تُناصفنا اللهفة في الغربة، هاجسها الولادة من الخاصرة والجمال، تبحث عنه في
بطن الحوت وأشجار الياس وأعواد البخور، لا تَقتربُ من مساحتها، لا تُزاحمها على الأمومةِ، فهي تَشّعر بأن
الأمومة عطاء والجمال هو البقاء، فالمرأة الجميلة بعفّتِها، لا يوجد قُبحٌ في النساءِ، فالمرأة ما كانت يوما ما جسدٌ
ورغبة، لكنها المحتوى، لكنها الوطن.
الصوت: إنما النساء شقائق الرجال، تأتيك في الحُلم تعانق سماؤك كالمطرِ، المرأة والجمال ثنائيتان متلازمتان، تبحثُ عنه
حتى تجدهُ، في ترابك هذا يسكن الجمال، ستأتيك لتبحث معك وعن خاتمك الذي أضعتهُ بين ذراته تلك، ستأتيك
محملة بعشق الدنيا وتُسجُّل في دفاترِ أيامك أيها الفلاح: إن المرأة وهجٌ يبدّدُ الظلام.
(الفلاح والصوت معاً: *عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري)
إظلام
المشهد الثاني
(الفلاح يزرع فسيلة نخل صغيرة، يُعدّل التراب من حولها، منهوك بعملهِ، تدخلُ الممثلة وهي تسحبُ بيديها مرآة بطولها تقريباً، موضوعة على أربعِ عجلات صغيرة، شعرها يغطي وجهها تماماً، تقف بالقرب من المكعب الثاني، ظَهّرُها الى الجمهورِ، وبحركات راقصة مع المرآة، تَدورُ حوّلَ الفلاح وتعودُ الى المكعبِ)
الفلاح: يا أيها الخاتم الذي ضاع مني بالأمسِ، اما آن لك الظهور؟ لست مستعداً للتفريط بك، يا أيها الخاتمُ أنت جزء مني
بعضي يعيش فيك، وحدها الذكريات باقية، وأنت ذكرياتي.
(الممثلة تنتبه الى الفلاح، تقترب منه، تترك المرآة جانباً)
الممثلة: أُريد أن أكون له، أنا المرأة التي يُحبها، أنا المرأة الوحيدة.
(تدور نحو الجمهور، تزيح الشعر عن وجهها)
لا أريد أن أكون محطة سفر من محطاتهِ التي لا يبق فيها، أنا الجمال، أنا اللهفة، أنا قصيدة الشعراء وحُلّمهمْ.
(الفلاح وكأنه لا يشعر بها، يواصل حرث الأرض والبحث عن الخاتم)
الفلاح: الترابُ لا يكذبْ، ولأننا لا نملك السلطة عليه، فهو لا يكذب، التراب وحدهُ لوعة الغربة، وأنين المرضى، وحديث
جدي عن الزمن الجميل.
الممثلة(باستغراب): ما بال هذا الرجل! يتركني أتلوى دون أن يتحرك فيه شيء، مَنْ لا يحركه جمال الأنثى مخبول، المرأة
ملحُ الأرضِ، وحلاوة ما ينبت فيها.
الفلاح (يقبض بيديه بعضاً من التراب): الحقيقة الكاملة مُرّة، والتراب هو الحقيقة، وخاتمي ضاع ها هنا.
الممثلة (بصوت عال): أنا الحياة أنا الأنثى الجميلة، أنا الغرور، أنا الغواية.
(تخرج من جيبها مشطاً، تبدأ بتسريح شعرها)
الفلاح: ضياعُ الأشياء لا يعني نهاية العالم، وأنا ازرع هذه النخلة في نفس الوقت الذي أضعت خاتمي هنا، هذا الخاتم
(يقف منتصباً، وكأنه يهمس، لا يريد لإحد أن يسمعهُ)
يقول جدي: في الخاتم هذا سُرُّ الأرض، فلا تترك أسرارك تضيع، في الخاتم هذا نصف الحقيقة التي نبحث عنها،
ونصف الحقيقة هي حتماً أفضل من لا شيء، الخاتم أيها السادة هو الخرافة هو العلم هو الكراهية هو الحب الزائف
هو اللذة هو العودة من جديد، هو شرف الرجال وعفة النساء، الخاتم هذا نوايا السياسيون وطموحهم.
الصوت (بموسيقى لافتة): والباحثون عنك أيها الخاتم كثّرٌ، سيبيعون أي شيء كي يحصلوا عليك، لا تستغربوا، أنتم لا
تعرفون ردود الفعل حينما تتعلق حياتكم بخاتم ليس إلاّ.
الممثلة: الخاتم، نعم هو الخاتم، لكن كيف سأقنع الفلاح بتسليمي إياهُ؟ كيف؟
(تضحك بغنج، تمسك وجهها، وبقية أجزاء جسمها)
الغواية فن الممكن، والخاتم سيكون لي، التفاحة التي أخرجت أبونا أدم هي نفس الخاتم، وإن أختلف المعنى والمكان
والزمان، والجمال سيكون لي، من سيكون معه الخاتم، سيملك ذاك التراب.
الفلاح: كان جدي يقول: كُن أكثر حذراً، الألمُ سيجعلك أشدُّ قوة، والخَوف جُبن الرجال وكاشف لعورتهم، والتجارب هي مَنْ
تجعلُ منك حكيماً.
الممثلة: عليَّ أن أعمل سريعاً، سمعتُ أمي تقول يوما ما، حَصّني نفسُك بما تمتلكين، ودافعي عنهُ، نعم يا أمي الخاتم سيكون
لي، لكن سأتنازل قليلاً عمّا أملك هذه المرّة يا أمي، الجمال سيأتي بالفرص الكبيرة ثانية.
(تقتربُ من الفلاحِ، ينظرُ اليها، تُثيرهُ، تحاول أن تَمسَّ جسدهُ)
الفلاح: إنها إمتحاني الأول، هل سيصمد بيتي الخشبي من رياح هذه المرأة المصيبة؟ يا جدي إنها المرأة يا جدي.
(يركض الى زاوية من الزوايا)
الممثلة: ما بالك أيها الرجلُ؟ لما تهرب مني؟ إقتربْ، تعالَ.
(تشير اليه بيديها)
الفلاح: يا جدي لم تقلْ لي عن المرأة شيء؟
الممثلة: إقتربْ، فأنا لست بعبعاً، إقتربْ.
(تسير اليه، يركض بالاتجاه المعاكس لها)
الفلاح (بقلق): يا جدي، أين أنت؟
(تعود بإتجاهه، حتى تقف بوجهه تماماً)
الممثلة: توقف، هل أنت فلاح هذه الأرض؟
(الفلاح يَهزُّ رأسهُ بالإيجاب)
الممثلة: طيب، إسمع.
(يقاطعها الفلاح)
الفلاح: وتريدين الخاتم؟
الممثلة (بذهول مع نفسها): وكيف يعلمُ بما أريد؟ لا يهم، نعم.
الفلاح: وبهذهِ السهولة؟
الممثلة: لُكلّ شيء ثمن.
(مع نفسها: ما دام طرح السؤال، إذاً هو يُريدُ المساومةِ، وها نحن في مُنتصفِ المسافةِ)
الفلاح: وثمن الخاتم؟
تقاطعه الممثلة وتضحك: ما تشتهي الأنفس.
الفلاح: إسمعي يا……
الممثلة تقاطعه: شهرزاد، أسمي شهرزاد.
الفلاح لنفسه: وأنا أكيد لست بشهريار.
الممثلة بإستغراب: ماذا قلت؟
الفلاح: لا يهُمْ، ما تبحثين عنه ليس هنا.
الممثلة مع نفسها: بدأ يماطل الملعون، نعم مِن حقهِ هذا، فالأشياء الثمينة تَسّتحقُ المماطلة.
(تدور حولهُ وتنظرُ بإتجاه فسيلة النخلِ)
الممثلة: إسمع يا هذا، دعنا لا نلعبُ لعبة القط والفأر، فلا يليق بالفرسان هذه اللعبة، أنت تعلم جيداً ها هنا موجود الخاتم،
(تشيرُ الى الترابِ والفسيلةِ)
فإن كُنت تدري فهذا هو المطلوب وإن كُنت تدري ولا تريد أن تعطيني إياهُ فذاك كلام آخر.
الفلاح يعود لحرث الأرض قائلاً: وأنا أكرهُ أن ألعب تلك اللعبة السخيفة، هو ليس هنا، والسلام.
(تتحرك الممثلة الى إحدى الزوايا)
الممثلة: لا تنسحبي بسهولة، الكلام آخذٌ وردْ، لا تُغلقي جميع النوافذ، هنالك مَن لا يستجيب لك طَمع بربح الكُلّ، لا تَرمي
بجميعِ أسلحتك، فخسارةُ نِصف الكرامة خيرٌ من خسارةِ الكرامةِ بِرمّتها، لازال في قَوْسِ التَّصَبُّرِ مَنْزَعُ.
(تتجهُ نحو المرآة، تُرتبُ ثيابها، تُمشط شعرها، وتعودُ بإتجاهِ الفلاح)
الممثلة: إسمع يا هذا، أنت رجل طيب، وأنا حَرَثتُ الدنيا بحثاً عن ذاك الخاتم، لا تَقُلْ إن الخاتم ليس هنا، فَكُّلُ ذرة تراب
أمامك تنطق بوجوده ها هنا.
(تقتربُ من الترابِ تُحاول أن تمدَّ يدها اليه)
الفلاح يصرخ: لا تلمسي هذا التراب، ما لمْ نتفق مسبقاً.
الممثلة لنفسها: عاد للمساومةِ، ما أغباهُ حين يساوم.
الفلاح: شرطُ اللّمسِ، طهارةُ الروحِ، غَسّلُ من الذنوبِ.
الممثلة: مم، مم، يعني.
الفلاح: أنْ نكونَ بلا ذنوب.
الممثلة تسألُ: مَنّ منا يا سيدي بلا خطيئة، بلا ذنب، مَنّ منا بلا ماضي؟ دعنا آمام الله نَدفَعُ فاتورة أخطاؤنا، ما شأنك
والذنوب، نحن آمام الله سنكونُ عُراة ولا نَخجلُ.
(تقترب منه أكثر)
إستمع لي، الحياة أنثى، وأنثى مغرورة، تغوي الآخرين، وما نحن الاّ بشرٌ، دعْ عنك المُثلِ والقيمِ.
الفلاح: شرطُ مَنْ يمسَّ الخاتم ويلبسهُ.
الممثلة: لا شَرّط مع الرغبةِ، مَنْ يسكنُ بيتاً ليسَ ببيته سَيطّردُ مِنهُ وإن قاوم، دعنا والخاتم نتباصرُ، إذا ما رَفَضَنا سَيُسجّل لنا
التأريخ إننا حاولنا.
الفلاح يسأل: ما حاجتكِ للخاتمِ والعمر يمضي؟
الممثلة: ما عُمّرُ النساء إلاّ تهمة واهية، وبمزيد من المساحيق والعطور والأناقة والكلام المعسول، تظهر البراءة من تلك
التهمة.
الفلاح: كسرٌ بجمعِ لن تجدي الخاتم.
(تبتعدُ عن الفلاحِ قليلاً وتقتربُ مِن الفسيلةِ)
الممثلة: تقصدُ إن الخاتم هنا، في هذا التراب وليّسَ معكَ.
الفلاح: الخاتمُ جزء من هذا التراب.
(تقتربُ أكثر من الفسيلةِ وتمدُّ يَدها الى التراب، فتخرجُ صرخة مدوية)
إظلام
الفصل الثاني
(وتستمرُّ المحاولة، ويبقى الحُلم)
المشهد الأول
(فسيلةُ النّخلِ بَدتْ كبيرة بعضُ الشيءِ، الفلاحُ الى جانبِها، بموسيقى مناسبة يدخل الممثل 1 وهو يجلسُ على كُرسي رسمي وفير، بعجلات متحركة، الممثلُ بهيئتهِ الرسمية، يبدو عليه الحَزّم، يقفُ بالقربِ مِن أحدِ المكعباتِ، يتّركُ الكُرسي، يُخرِجُ من جيبهِ قطعة قماش، يبدأ بمسح الكُرسي، وكأنهُ لا يرى الفلاح)
الممثل 1: الأمّثالُ تُضرب ولا تُقاس، ومثّلُ هذا الكُرسي المُفصّل تماماً على شخصنا الكريم، يقالُ لِكلّ مجتهدٍ نصيبْ، ولا
يَصحُّ إلاّ الصَّحيح، فعلاً فنحن خدام الشعب، نسعى لِفتحِ كُلَّ الأبواب المغلقة وتهيئتها للمواطن وخدمتهِ.
(يمسحُ أرجل الكُرسي، ويدعكُها بقوةٍ، ينفخ بعضاً من زفيره وسط قطعة القماش ويواصل المَسحْ)
أن تكونَ في خدمةِ المواطن فَهذا شرفٌ كبيرٌ لكَ، ولا بأس أن تلّتفِت الى نفسكِ، أنا أكرهُ سياسة اللفَّ والدوران،
وأحتقر أولئك الذين يمّسحون على الأكتافِ، لكنْ عليكَ أن تتنازل بعض الشيء إن لزِمَ الأمرُ.
(يرفعُ رأسهُ بإتجاهِ الفلاحِ، يقفُ، يتجهُ إليهِ)
عُمتَ مساءً يا طَيّب، يبدو إنك زارعُ النّخلِ وحارسُ الأرض.
(الفلاحُ مشغولٌ، لا يلتفتُ إليهِ)
الممثل 1 لنفسهِ: يبدو إنهُ لا يعّرفني، مُمكِن، فأنا أكرهُ الظهور في الإعلامِ.
(يقتربُ أكثر منّهُ)
يا طَيّب، وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ …
الفلاح: وعليكم السلام.
(يقفُ الفلاح مُواجهاً الممثل 1)
نعم، تفضّلْ.
الممثل 1(لنفسه): جميعُهمْ هكذا في البدايةِ، ثم سرعان ما،
(يُقاطعُ صمتهُ الفلاح)
الفلاح: يبدو إنك لا تَسمعْ.
الممثل 1: بالعكس، كُلِّي آذانٌ صاغية، أردت أن أسألك.
(يقاطعهُ الفلاح)
الفلاح: تسألُني عن الخاتمِ.
الممثل 1 وكأنهُ تفاجأ: أيُّ خاتم تَعني؟
(يتركه الفلاح ويعاود حرث الأرض)
الفلاح: الخاتمُ الذي تعرفهُ وأعرفهُ، التراب الذي يضمّهُ، الخاتم المُعجزة.
الممثل 1: وما العيبُ إن طالبت بهِ؟
الفلاح: أولست تكرهُ سياسة اللفَّ والدوران؟
الممثل 1: نعم، وأموت مُنهم.
الفلاح: إذاً ادخل من الأبواب مباشرة (بإستخفاف) يا طيب، عُمت مساءً.
(الممثل 1 يقفُ في إحدى الزوايا، يفرّكُ بيديهِ ويبتسمُ)
الممثل 1: هذا الرجلُ لَنْ يتعبُني، سهلٌ جداً
(يوجه كلامهُ للفلاحِ)
ما دمتَّ تطلب الدخول من الأبوابِ، فهذهِ بداية ممتازة، إسمع يا صديقي، في زمانِك هذا، كَثُرَ فيهِ مَنْ يدعونَ
الفضيلةِ، كَثُرَ فيهِ الممثلونَ، وسرّاق الجُهدِ، والصاعدون على الأكتافِ، الطامعون بالوصول الى أي مكان بأقلّ
التكاليفِ.
(الفلاح يقترب منهُ)
الممثل 1: المُشّكِلة يا صديقي، إن الوصوليين يحملون السلالم على أكتافهم كي يتسلقوا بها الى ما يريدون.
(يقاطعه الفلاح وهو يمسك كتفه)
الفلاح: وأنت الفقير الى الله الذي لا يفّهمُ بطمّسِ الحقائق وفن الدعايةِ وحمل السلالم.
الممثل 1: وحقكَ يا صديقي، ما أنا إلاّ ساعٍ في خدمة الناس، وأتمنى أن تساعدني في ذلك.
الفلاح: وكيف؟
الممثل 1: تُعطيني الخاتم.
الفلاح: هكذا وبهذهِ السهولة؟ بهذهِ البساطة؟
الممثل 1: ستكون ذراعي الأيمن.
الفلاح: أعرفُ مثلك تخلى عن ذراعيهِ في أوّلِ إختبار للنزاهة.
الممثل 1: أكتبُ لكَ تعهداً خطياً.
الفلاح: مِنْ قبلكِ قرأنا عهوداً كُتبتْ بالدمِ.
الممثل 1: حَدد أنتَ ما تُريد.
الفلاح: كيف أحددُ ثمنُ الخاتم يا هذا، وهو شرفُ الكلمة، طُهرُ اليدين، عناءُ المقهورين، أنينُ الثكالى، هو عَطاءُ الأرضِ.
الممثل 1: لا تستعجل يا صديقي، أنا ما جئتك من مدينةِ الشياطينِ.
الفلاح: أكيد، وليس من مدينةِ الملائكةِ
الممثل 1: كُنْ واقعياً، دعْ عنكَ المُدُن الفاضلة، وتعال معي، تعال
(يَمسكُ ذراعَ الفلاح)
سَنعملُ على خدمةِ الناسِ، وسيُسجّلُ لكَ التأريخ، إنكَ ساعدت سياسياً، مسؤولاً، كي يبقى في كرسيّ الحُكم الى
زمنٍ آخر، الى قيام الساعة.
(الفلاح يَفلتُ من ذراعهِ، مُبتعد، صارخ بوجههِ)
الفلاح: دعني، تُريد البقاء الى ما لا نهاية، ومنْ للنائمينَ على حُلمِ الغدِ الجميلِ، ومنْ للمَحرومينَ من كسرةِ خُبز شريفة.
(الممثل 1 يحاول الإقتراب من التراب وفسيلة النخل، فتخرج صرخة مدوية)
إظلام
المشهد الثاني
(فسيلةُ النخل بدتْ كبيرة، نخلةٌ متكاملة، الفلاح الى جانبها يساوي بعضاً من تُرابِها، موسيقى مناسبة، يدخل معها الممثل
2، وبملابسه البيضاء التي تبدو وكإنها كَفَنْ، يجرُّ وراءهُ نعشٌ خشبي، الضوء فوق الفلاح والنخلة، ويسير الضوء مع الممثل)
الممثل 2: مَنْ يعتقدُ إن الأرض هذه مجرد تراب، واهمْ، الأرضُ حُلمَ العودةِ، وجعُ الطفولة وقهّرُ الغربةِ، الأرضُ
(يقفُ، يتركُ النعش الى جانبهِ)
جرحُ الفلاحِ وكرامتهُ، عجبّتُ، كيف يختفي الميتون ويذوبوا بتراب الأرضِ؟
الفلاح يمسك ذراع الممثل قائلاً: الخاتم والنخلة والتراب، ثلاثية الهوية التي يريدُها التائهون.
الممثل 2: البداياتُ تسّبقُ النتائج، والترابُ بداية، والنخلةُ حُلم، والخاتمُ أمنية.
الفلاح: مِنْ أي زمانٍ جئت؟ الميتونَ سرابُ اللهفة، ما عادت الأشياء تشبهُ الأشياء، وأنت صورة الأمس.
(الممثل يتركَ الفلاح ويسحبُ النعش ليكون قريباً للنخلة ويذهب الى زاويةٍ أخرى)
الممثل 2: الأرضُ تستحق العودة، تُرابها محمولاُ في حقائب السفر ونعش الموتى، جئت
(يقاطعهُ الفلاح وهو يقترب منه)
الفلاح: إبقْ هناك، رمحٌ في خاصرةِ الأعداءِ، إما نحن فسنكتبُ فوق حائط الوطن: * عندما يصحو الشهداء من نومهم
الأخير، سأقومُ بتهنئتهم لوصولهم بالسلامة، فهم الناجون الوحيدون من المجزرة الأخيرة.
(يمسك الممثل ويدور معهُ)
هل تُريد العودة من جديد؟
الممثل 2: نعم.
الفلاح بذهول: وهل أنت مستعدٌ للتفريط بما أنجزت؟
الممثل 2: مَنْ يُعطي يا صديقي لَنْ يكون مستعداً للتفريط بعطائهِ.
الفلاح: ولما تُريد العودة؟
الممثل 2: كي أموت من جديد على تُرابِ أرضي.
الممثل 2(يخرج من بين يديه خاتم): هذا الخاتمُ عنوان الأرض، أعطيهِ لمنْ يُحبها، هذا الخاتمُ مهرُ التراب المُرْ، لا يمسّهُ
إلاّ العاشقون لهُ، مَنْ يحلم بالعودة للأرض عليه أن يقبلُ بشروط التأريخ، لا تُفرط
بالقيمةِ العُظمى من أجل بقايا وعود كاذبة.
(ظلامٌ يلفُّ المكان، وهجٌ ساطع يُسلّط فوق الممثل 2 وهو يدخل الى النعش)
الصوت: مُنّذُ الطوفان الأول والى الآن، الريحُ هي نفّسُ الريح، وأعواد البخور ترقصُ في عرسِ الناسِ وقبور موتاهم،
الخاتمُ مُلك الأرضِ، والترابُ وحّدهُ، لهُ الحق في تسليمه الى مَنْ يشاء، والترابُ عادلٌ.
(ينكشف الظلام قليلاً، تظهر النخلة وقد إلتصق بها رافعاً يديه نحو السعف، الممثلة والممثل 1)
الفلاح: وسيبقى الخاتم معك، أيها الماسِك بكفيكَ دم الشهادة وأغنية الوطن، وستبقى الأرضُ حُلّمُ الناسِ وأمل العودة.
الصوت: مُنّذُ الطوفان الأول والى الآن، الريحُ هي نفّسُ الريح، وأعواد البخور ترقصُ في عرسِ الناسِ وقبور موتاهم، مُنّذ
الطوفان الأول والى الآن، الحزن هو الحزن، والخوف هو الخوف، مشّطنا طرق الله بالبسملة والتهليل، وعدنا من
جديد نعدُّ الخطوات.
صوت مدوي: الخاتمُ مُلك الأرضِ، والترابُ عادلٌ.
إظلام
هوامش:
*من قصيدة للشاعر اليا أبو ماضي.
*تولستوي… من أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر.
*من قصيدة للشاعر علي ابن الجهم.
*من قصيدة للشاعر محمود درويش.
