ننشر نص دراسة “د. هشام زين الدين” حول الرائد مارون النقاش..قبل إقامة مناظرة ريادة المسرح العربي في الجزائر قريباً(3/1)
المسرح نيوز ـ مقالات | د. هشام زين الدين*
أكاديمي وناقد لبناني
ـ
(3/1)
ننشر نص الدراسة التي قام د. هشام زين الدين باعدادها حول الرائد مارون النقاش… وذلك قبل اقامة المناظرة حول ريادة المسرح العربي في الجزائر قريباً
الجزء الاول:
رائد المسرح اللبناني والعربي
حدث ذلك منذ قرن ونصف القرن، تاجر شاب من لبنان يزور المدن والولايات، القريبة منها والبعيدة بهدف شراء السلع والتعرّف إلى الأسواق تقليداً وبما عادة. فتعرف إلى الفن المسرحي الجديد الذي لم يسبق أن شاهده أو اختبره في وطنه، وأعجب فيه لما يحتوي من فائدة ومتعة، فعاد إلى وطنه محمّلاً بالأفكار والطموحات. وصل، بدأ العمل، ألّف رواية، درّب على تمثيلها الأقارب والأصدقاء، وكانت البداية، بداية المسرح العربي من بيروت.
ولد مارون النقاش في التاسع من شباط عام 1817 في مدينة صيدا التي كانت في أوائل القرن المنصرم من المدن المزدهرة في مجالات الثقافة والتجارة والإدارة. وكان والده آنذاك صاحب تجارة ومال وجاه، أمّا مارون الذي انتقل إلى العاصمة مرافقاً أباه، فقد عمل منذ نشأته في التجارة وأتقن علم الأرقام ومسك الدفاتر حسب الأصول الافرنجية ليغدو فيما بعد مدرّساً لتلك المهنة التي برع فيها وخبر قوانينها وأصولها التجارية (1). ماهيأ له الفرصة لتبوؤ مناصب حكومية عدة كرئيس كتاب جمارك بيروت وعضو مجلس تجارة بيروت وغيرها من الوظائف.
بالإضافة إلى اهتماماته التجارية في ذلك الحين، فقد كانت لمارون الشاب اهتمامات أخرى بالفنون والمعرفة، فتعلّم اللغات وأتقن منها الفرنسية والايطالية والتركية، إلى العربية التي كان متعمقاً فيها بأصول النحو والصرف، كما أتقن علم المنطق والعروض والمعاني والبيان والبديع، وتعلّق بنظم الشعر حتى فاق بعض أقرانه، كما يورد شقيقه نقولا النقاش في كتاب “أرزة لبنان” الذي يضم مسرحيات مارون النقاش الثلاث وخطاباته، والذي أصدره شقيق مارون نقولا النقاش عام 1869.
إلى ذلك فقد تعلّم مارون الموسيقى واتقنها، كما كان ميالاً للسفربهدف التعرف الى الأسواق الجديدة واستيراد البضائع، فقام برحلات عديدة إلى الأقطار العربية والاوروبية فزار خلب والشام وغيرهما من المدن السورية وفي عام 1846 سافر إلى مصر وزار الاسكندرية والقاهرة في أواخر أيام حكم محمد علي ومن هناك غادر إلى إيطاليا “التي كانت لا تزال أكثر ممالك أوروبا علاقة بالشرق، وشاهد فيها تشخيص الروايات على المراسح فأدهشه ما في ذلك من اللذة والفائدة بتمثيل العبرة حتى يراها الناس، فخطر له أن ينقل هذا الفن إلى العربية ليفيد منه أبناء وطنه، وبدأ العمل به حال رجوعه إلى بيروت”(2). فقد عاد مارون النقاش من إيطاليا إلى بلاده ليضع حجر الأساس للمسرح اللبناني والعربي.
لم يصلنا من وصف ملامح شخصية النقاش إلا القليل، فقد ذكر شقيقه نقولا أنه كان مربوع القامة، أسود الشعر والعينين، علماً أنه لا توجد له أي صورة فوتوغرافية في الكتب والمراجع القليلة التي تحدّثت عنه. ولعل سبب ذلك يعود إلى وفاته المبكرة بعد رحلة عمل إلى طرطوس في سوريا، حيث أصابته حمّى شديدة أودت بحياته في الأول من حزيران عام 1855، أي قبل ان يعرف لبنان فن التصوير الفوتوغرافي الذي وصل إلينا في الستينيات من القرن التاسع عشر مع بعض المستشرقين الأوروبيين وبشكل ضيّق جداً، نذكر منهم المستشرق الشهير Bonfils الذي التقط بعض الصور الفوتوغرافية في لبنان وفلسطين في تلك الفترة، أمّا أول صورة فوتوغرافية التقطت في لبنان كانت لمدينة بيروت عام 1839، ونشرت في كتاب تحت عنوان “رحلات داغيرية” (فن التصوير الفوتوغرافي كان يسمى داغيروتيب تيمناً بمخترعه الفرنسي داغير). كما تحفظ لنا المراجع والكتب التاريخية صوراً فوتوغرافية لكبار أهل الأدب والفكر أمثال ناصيف اليازجي (1800- 1871) والمعلم بطرس البستاني(1819-1883) وأحمد فارس الشدياق ( 1801-1887) وناصيف المعلوف (1823-1865) وغيرهم من الذين عايشوا مارون النقاش، إلا أن التقاط صورهم تمّ بعد سنة 1860، علماً أن التصوير قبل ذلك كان يتم بواسطة من كانوا يرسمون ملامح الشخصية رسماً بعد إنارتها بواسطة الأنوار العاكسة من الخلف والأمام، لكن يبدو أن مارون النقاش لم يلتفت إلى أهمية تصوير نفسه، كما لم ينتبه أحد من معاصريه لأمر كهذا. فبقي لنا منه المضمون والأعمال وغاب عنا الشكل، ولعل في ذلك عبرة.
قدّم مارون النقاش ثلاث مسرحيات هي “البخيل” و”أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد” و “الحسود السليط”، وكان قد حصل بعد تقديمه لمسرحيته الثانية على موافقة السلطات العثمانية على طلبه إنشاء مسرح بالقرب من بيته، فأنشأه وعرضت فيه مسرحيته الاخيرة “الحسود السليط”. هذا المسرح تحوّل بعد وفاة النقاش إلى كنيسة عملاً بوصيته، ولا تزال هذه الكنيسة موجودة حتى اليوم في منطقة الجميزة في بيروت. انطلاقاً من المعلومات التاريخية الواردة في المراجع القليلة المتوافرة بين أيدينا، وخلال البحث الذي قام به صاحب هذه الدراسة عن المكان الذي عرضت فيه المسرحية الأولى في العالم العربي، وبعد الحصول على معلومات مؤكدة عن وجود الكنيسة (مسرح مارون النقاش سابقاً) بحالة جيدة في منطقة الجميزة، وفي عام 1997 تمّ التنسيق مع وزارة الثقافة لوضع لوحة تذكارية كتب عليها “في هذا المكان تم عرض مسرحية البخيل وهي أول مسرحية في تاريخ لبنان والعالم العربي للرائد المسرحي مارون النقاش عام 1847) وأزيح الستار عن هذه اللوحة بحضور وزير الثقافة وحشد من المدعوين من الفنانين والمسرحين اللبنانين ولا تزال هذه اللوحة موجودة على الجدار الخارجي للكنيسة التي بنيت على أنقاض المسرح الاول في تاريخ لبنان والعالم العربي.
بداية المسرح العربي مع مارون النقاش
بعد عودته من إيطاليا مأخوذاً بما شاهده هناك من مسرحيات، قرّر النقاش نقل هذا الفن الجديد إلى اللغة العربية مع تكهّنه المسبق بصعوبة ذلك، فقد قال في خطابه الذي افتتح به مسرحيته الأولى: “وها أنا متقدم دونكم إلى قدام، محتملاً فداء عنكم إمكان الملام، مقدِّماً لهؤلاء الأسياد المعتبرين، أصحاب الإدراك الموقّرين، ذوي المعرفة الفائقة والأذهان الفريدة الرائقة، الذين هم عين المتميّزين بهذا العصر، وتاج الألبا والنجبا بهذا القطر، مبرزاً لهم مرسحاً أدبياً وذهباً افرنجياً مسبوكاً عربياً، على أنني عند مروري بالأقطار الأوروباوية وسلوكي بالأمصار الإفرنجية، قد عاينت عندهم فيما بين الوسايط والمنافع، التي من شأنها تهذيب الطبائع، مراسحاً يلعبون بها ألعاباً غريبة ويقصّون فيها قصصاً عجيبة، فيرى بهذه الحكايات التي يشيرون إليها والروايات التي يتشكّلون بها ويعتمدون عليها، من ظاهرها مجاز ومزاح وباطنها حقيقة وصلاح”(3).
هكذا قدّم مارون النقاش مسرحيته الاولى للمشاهدين الذين تجمعوا في باحة بيته لمشاهدة أول عرض مسرحي في تاريخ المسرح العربي، إلا أن المسرح وبحسب المراجع التاريخية كان قد عُرف في لبنان من خلال الارساليات الأجنبية، الأميركية منها والفرنسية، اللتان كانتا تتجاذبان مراكز التأثير الثقافي واللغوي، وكان المسرح التعليمي – الديني في المراكز التابعة لهذه الإرساليات من أهم الوسائل التي اعتمدتها هذه الارساليات لنشر ثقافتها. ويقول المستشرق الروسي كريمسكي: ” بين 1830 و 1860 قدمت هذه الارساليات مسرحيات عن عيد ميلاد السيد المسيح ومواضيع أخرى من الإنجيل المقدس”، ويضيف في مكان آخر: “في الاربعينيات من القرن التاسع عشر قامت الارساليات الايطالية بإنشاء مسرح خشبي في بيروت قُدمت فيه مسرحيات ذات طابع ديني”(4)، لذلك يمكن الاعتقاد أن مارون النقاش قد شاهد شيئاً من هذه المسرحيات قبل سفره إلى إيطاليا، كونها تزامنت مع إقامته في بيروت في تلك الفترة، لكن سواء شاهد النقاش هذه المسرحيات في بيروت أم في إيطاليا فإن النتيجة جاءت واحدة وهي أن النقاش قد نقل إلى بيروت الشكل المسرحي الإيطالي أو ما يسمى بالعلبة الايطالية، نقلاً يمكن أن نسميه عفوياً، نظراً لأن المسرح الذي شاهده هناك كان على هذا النحو.
ونورد أيضاً ما جاء في وصف الرحّالة الانكليزي دايفيد أركيوهارت الذي صادف وجوده في بيروت في ذلك الحين ودعاه والد مارون النقاش لحضور المسرحية الثانية “أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد” ومما قاله: “أمّا المسرح فقد أقيم أمام البيت وكان على المثال الذي نحرص على تقليده في قاعاتنا التمثيلية، باب في الوسط تعلوه كوّتان وعلى جانب منه نافذتان، وكانت الكواليس في آخر الفناء، وبالقرب منها تقع الأبواب الجانبية، أمّا المنصة فقد أقيمت في الصدر وجلس النظارة أمامها، ونشرت فوق القاعة ظلل من أشرعة السفن، كان هؤلاء قد شاهدوا في أوروبا أن المسرح له أنوار أمامية وتقوم في مقدمته حفرة للملقن، فتوهموا أنها من لوازم المسرح الضرورية، فألصقوها حيث لا حاجة لها، ووضعوا كراسي لجلوس الخليفة ووزيره ومرايا كبيرة للسيدات متأثرين بما شاهدوه على المسارح في أوروبا، ولمّما لم يكن بين الممثلين نساء لم تقع عيني على أمرأة بين الحضور ولا في النوافذ المفتوحة المطلة على الحديقة”(5). وفي مكان آخر نلاحظ أن المصطلحات الفنية المسرحية التي استخدمها من جاء بعد مارون النقاش من أفراد عائلته كشقيقه نقولا مثلاً، كانت في الغالب مأخوذة من مراجع إيطالية(6)، مثال على ذلك كلمة “شينة” التي تعني “خشبة” وكلمة “بانكوشيانكو” التي تعني “خلفية المنظر”.
إذاً، المسرح الذي جاء بعد مارون النقاش كان مسرحاً إيطالياً أي بحسب المفهوم الأوروبي للفن المسرحي، وهو لم يخرج عن هذا الإطار حتى يومنا هذا رغم كل المحاولات الجادة التي قام بها العديد من المخرجين والمسرحيين في لبنان والعالم العربي، والتي أغنت الحركة المسرحية بالخبرات والتجارب القيمة، إلا أنها لم تستطع حتى استبدال العلبة الإيطالية كمكان للعرض وكعلاقة بين الممثّل والجمهور، كما أنها لم تتمكّن من بناء علاقة مسرحية أخرى متميّزة ومختلفة بين عناصر العرض المسرحي.
يتبع