هاملتهن.. عرض تجريبي بامتياز تغلب فيه ذكاء الدعاس على كلاسيكية شكسبير.!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
آية الكحلاوي
الخداع الجميل، لا ضير أن يخدع المرء هكذا خداعا جميلا، ففي حين يكتشفن نساء هاملت في هاملتهن الخداع الذي عاشوه من قِبَل رحيلهما، فكان خداعا مريرا يستدعي طقسا يعيشونه مرارا ليتطهرا .
فإن المتلقي الداخل إلى هاملتهن مخدوعا بنون النسوة التي أوحت له أنه أمام نص نسوي بامتياز يعالج مشاكل نسوية يتفاجأ أن العرض يلملم ثيابه عن المشاكل النسوية ويثب في الذوات الداخلية لنساء هاملت، جيرتود و اوفيليا، لنسمع منهما مأساة هاملت من وجهة نظرهما، ومن ثم يكتشف أنه خدع خداعا جميلا من قبل نون النسوة في هاملتهن.
تتجلى تجربة هاملتهن كتجربة إبداعية استثنائية كالأكثر ذكاء وتفردا في معالجة هاملت التي مر من خلالها الكثير من المخرجين والدراماتورج غير منتبهين إلى نساء هاملت، فانتبهت لهما الدعاس وجعلت منهن أبطالا إذ غاصت داخل مكنونات ذواتهن، فتشعر وأن الدعاس لم يرق لها أن تنتهي مسرحية شكسبير دون أن تعرف جيرتود حقيقة عشيقها الملك المتوج حديثا بفضلها والتي غدرت بزوجها من أجله، ودون أن تعرف اوفيليا حقيقة ما يشعر هاملت تجاهها والذي خدعها أيضا باسم الحب، والحقيقة أن السيدتين كان بينهما حبة خردل صغيرة من الصراع، فولدته الدعاس وكبرته واعتنت به وجعلت بين السيدتين صراعا محتدما في العالم الآخر، ينتهي بدون انتصار أيا منهما.
الحقيقة أن الإبداع لم يتوقف عند التوقف عند نساء هاملت وجعلهما أبطالا ولكن الابداع يظهر من ناحية أخرى في المسرحة الرائعة التي وضعتها الدعاس والتي قادها باقتدار كلا من نورا عصمت في دور جيرتود وأميرة عبد الرحمن في دور اوفيليا، فقدما مباراة ديودرامية متأججة في كل المراحل دون فقدان بوصلة الانفعالات التي ينتقلون بها بين ما هو واقعي وما هو متخيل، وكانت براعة كبيرة حقيقة حفظ كل ذلك الحوار المتقطع للعديد من المواقف المستحضرة والمتقمصة في تعاقب غير سلس وغير مرتب، فكانت مواقف متفرقة غير مبنية على تسلسل منطقي كل مشهد يقدم ما بعده ويرتبط بما قبله، فتحية لهذه القدرة في خوض هذه المعركة والتي قدماها بغير خطأ صغير حتى، ويحسب لهما أيضا رغم هذا التوتر وهذا الحوار الفصيح والمشاهد المتفرقة وعبئ التقمص وتنويع الميتامسرح أن يحافظا على النطق النحوي الاعرابي الصحيح، فلم يكسروا المفعول به ولم ينصبوا الفاعل مما يدل على أننا أمام ممثلتين من عيار ثقيل جدا.
يبدأ العرض من نهاية الطقس الذي قدمته السيدتين، حيث تجلس جيرتود وتنثر الورود على جسد اوفيليا المسجى في ألم فهما في كل حال شركاء المصير نفسه والخداع ذاته، تستجيب اوفيليا لآلام جيرتود وتشهق وتقوم من موتها وتتوسل لجيرتود أن يعيدا التمثيلية مرة أخرى، وتستجيب جيرتود ويبدأن تقديم التمثيلية من جديد ويبدأ عرض الميتامسرح حيث نصبح في فضاءين، الفضاء الأول الحقيقي الذي يشمل جيرتود واوفيليا وما بينهما من مشاعر سلبية من حقد وتشفي، وفضاء متخيل يقدمه السيدتين ذاتهن عبر استرجاع واستعادة الحقائق التي غابت عن كل منهما، فتستعيد اوفيليا مشاهد سلبية لجيرتود لاستفزازها كأن تستعيد مشهد خيانتها للملك والد هاملت من أجل عشيقها أخو الملك، ثم تخبرها بالحقيقة التي ماتت جيرتود دون أن تعلمها وهي أن الرجل الذي خانت زوجها من أجله لم يحبها قط وإنما استغلها ليضع التاج على رأسه، بجانب أنه هو الذي أمر بقتل ابنها هاملت أثناء المبارزة المغشوشة وفوق هذا هو الذي وضع لها السم في الكأس، وكذلك تفعل جيرتود التي تخبر اوفيليا أن هاملت لم يحبها قط وأنها بنظره كانت غير عفيفة، ليكتشفا في النهاية أنهما ضحيتين بائستين لرجلين ضحا بكل ما يملكا من أجلهما.
يتقمص السيدتان جميع شخصيات هاملت الرئيسية مثل هاملت و كلاديوس وبولينيوس ولايريتس بجانب الشبح، الذي قدمته باقتدار فائق أميرة عبد الرحمن، وعبر الانفعالات والأداء الجسدي وتعابير الوجه والتنويع الصوتي يخرجن من شخصية إلى أخرى دون الخلط بين أيا منهم وبين شخصياتهم الرئيسية كجيرتود واوفيليا في العالم الآخر.
عبقرية الأداء وعبقرية الكتابة والإخراج يوازيهما عبقرية أخرى هي عبقرية الأزياء التي جاءت سوداء بسيطة لتعبر عن الحقائق السوداء المكتشفة من ناحية، وتعبر عن المكان الذي يوجد فيه السيدتين حيث عالم الأموات، ويعبر عن المأساة التي عاشوها والتي يستكملونها الآن وعن المشاعر المتوجهة من كل سيدة للأخرى من ناحية أخرى، وتكمن عبقرية الازياء في سهولته وبساطته، وخفة استخدامه، فكانا الفستانان من خامة الشيفون الخفيفة والمرنة، عبارة عن شرائط لاصقة على الخصر عبر تغيير اللاصق في حركة واحدة صغيرة تتغير الشخصية،
فالشريط الواحد له وجهان، وجه جزء من الفستان والوجه الآخر عليه سيف مطرز ذهبي ليعبر عن شخصية هاملت حينما يتقمصه أحداهما، وكذلك شريطان على الصدر، حينما يتم استدعاء شخصية الشبح يرفع على الكتف الشريط الأبيض للدلالة على الملك المغدور ظلما، وعند استدعاء كلاديوس يتم رفع الشريط الاحمر على الكتف للدلالة على الملك الغادر الدموي، بينما لايريتس يتم التعبير عنه عن طريق الازياء بالأشرطة اللاصقة على الكتف كأشرطة العسكريين، كل هذا التغيير والدلالات عن طريق فستان واحد خفيف سهل تبديله عن طريق حركة خفيفة جدا لتكون بذلك الملابس بطلا آخر من ابطال العرض العبقري.
هذا التجريد في الملابس والتجريد في الشخصيات يوازيه تجريد في الفضاء والسينوغرافيا، الفضاء عبارة عن حجرة مجردة صغيرة سوداء لا تحتوي على شيء جيرتود واوفيليا وبعض الورد المتناثر، ويسيطر على الإضاءة اللون الاحمر منفردا، حيث هو المعبر الاكثر مثالية عن العواطف الجنسية سواء بين هاملت واوفيليا أو هاملت وأمه أو جيرتود وكلاديوس، فعبرت به المخرجة عن مكنون الشخصيات الداخلي، وفي موقف كانت الاضاءة فيه بطلا موازيا للممثل نستدعي مشهد استحضار الشبح، والتي جسدته أميرة عبد الرحمن في براعة لا مثيل لها، فتغيرت ملامح وجهها والحاجبين مئة وثمانين درجة، وطبقة الصوت، وركزت الإضاءة البيضاء التي أسقطت عليها بزاوية خلقت لها ظلا أعلاها كبيرا فأصبح الشبح مجسد مرتين، مرة عن طريق الأداء الجسدي والانفعالي والصوتي لأميرة عبد الرحمن ومرة عن طريق ظلها المصطنع عن طريق الإضاءة، فضاعف احساس المتلقي بحضور الشبح وقوة تأثيره.
هاملتهن وعبر جميع العناصر والمعطيات السابقة عرض تجريبي بامتياز، يستحق الكثير من الإشادة والنور، تجريبي في السينوغرافيا والحبكة والإخراج، قدمت فيه الدكتورة سعداء الدعاس وهي معدة العمل ومخرجته هاملت بأطره نفسها وحوادثه الكبرى في حبكة وابطالا مغايرين، الفرق اللغوي نون النسوة ولكن الفرق التكويني والجمالي بين هاملت وهاملتهن كالفرق بين السماء والأرض، ليتبين لنا التأثير الكبير لنون النسوة على الأشياء جمعيها.