أ.د. راندا حلمي السعيد تكتب: التكوين المعرفى فى مسرح الطفل – مسرح صلاح جاهين نموذجاً – (2 ـ 5)
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
أ. د. راندا حلمي السعيد
أستاذ التمثيل والإخراج
قسم العلوم الأساسية
نستكمل هنا الجزء الثاني من الدراسة التي نشرنا الجزء الأول منها..
التكوين المعرفى فى مسرح الطفل
– مسرح صلاح جاهين نموذجاً –
(2 ـ 5)
ثانيا : الاستراتيجيات
عرفها (بياجيه) “[1] بأنها القدرة الكامنة لدى الفرد ، و هى الطريقة التى يستطيع الطفل خلالها أن يتعامل مع المتغيرات البيئية ، خلال مراحل نموه ، من أجل حدوث تفاعلات جديدة بينه و بين البيئة ، و تتغير هذه الاستراتيجيات ، تبعاً لنضج الطفل ، و ما يكتسبه من خبرات”.
و قد أوضح (جاهين) أن (صحصح) لديه خبرات سابقة ، مختزنة فى ذاكرته عن السفن التى تجرى فى البحر ، فقد غلب شعور (صحصح) بالاستياء من قذارة الحوض و انسداده و إمتلاءه بالمياه ، شعوره بالرغبة فى اللعب ، صانعاً مركباً ورقياً ، تاركاً إياه يسبح فى مياه الحوض المسدود ، الأمر الذى يعبر عن فكرة ( الرائع فى المشوه ) الذى استخدمها (بريخت) فى مسرحه التعليمى . و الملحمى ، بالكشف عن عنصر الروعة فى الصورة المشوهة ” إذ يتوقف التفاعل بالرفض و النفور تجاه الصورة المشوهة ، و إظهار الوجه المعاكس يخلق صدمة لدى المتلقى ، تدفعه إلى التفكير المتعقل من أجل التوصل إلى الحكم على هذه الصورة ذات الوجهين المتضادين “.[2]
و قد أثبت هذا الموقف أن (صحصح) لديه القدرة على التكيف مع مفردات البيئة ، خلال استخدامه الطريقة التى تعامل بها مع المتغيرات المطروحة أمامه ، فالبحر أحيل حوضاً ، و السفينة الضحمة حكاها بمركبه الورقية ، و الرياح استبدلها بتحريكه لمركبه ، صانعاً عالماً افتراضياً قائماً على الخيال المنطلق للطفل .
يرى (كوليردج) [3]” أن الخيال قدرة تأمل بين الإدراك الحسى و الفهم ، و الخيال الحقيقى إما أن يعد أولياً أو ثانوياً ، الاولى هى القدرة التى تتوسط بين الإحساس و الإدراك ، فهو القوى الحسية ، و هو العامل الأولى فى الإدراك البشرى عموماً ، أما الثانوى فهو صدى عن السابق، يتواجد مع الإرادة الواعية و يتشابه مع الأولى فى نوع فاعليته ، و لا يختلف إلا فى درجة و نمط فعله ، فهو يذيب و ينشر و يفكك من أجل أن يعيد الخلق ، و الفرق الأساسى بينهما ، أن الأولى غير إرادى ، بينما يتصل الثانوى بالإرادة الواعية ” ، و قد تحقق هذا الثانوى عند (صحصح) خلال مراحل نموه المعرفى .
و قد جسده (جاهين) تجسيداً فعلياً مظهراً (صحصح) آخر ، كأنما احضر مرآة وهمية ، رأى فيها ذاته ، و لكن فى مرحلة عمرية أخرى بتفاصيل بيولوجية أخرى ، مشيراً لها (جاهين) إلى التطور البيولوجى للطفل ، الذى تمثل فى نظرية (بياجيه) ، و قد لجأ (جاهين) هنا إلى تقنية (المسرح داخل المسرح) حيث :
(يظهر صحصح آخر فى هيئة بحار بفانلة مخططة ، و هو يركب سفينة شراعية
كبيرة ، و يصطاد سمكة كبيرة )
صحصح : أنا بحار….و مسافر يا بنى بلاد الله لخلق الله
و السما واسعة…..و زرقا خالص …و البحر
غويط….و كبير خالص…..و مليان سمك
سمك ملون……أحمر و أخضر و أصفر
أنا بصطاد بالسنارة……………….[4]
و قد تضمنت الحوارية السابقة كماً من المفردات اللغوية ، التى تثرى قاموس الطفل المعرفى ، عن عالم البحار ، و ما يجوب بها من أسماك مختلفة الأشكال و الألوان .
و قد وظف (جاهين) استراتيجية اللعب ، كوسيلة من وسائل التعلم ” فارتباط اللعب بعمليات التعلم الخاصة بتنمية القدرات العقلية و النفسية و العاطفية ، التى تساعد على نمو الشخصية و تكوينها، يعنى الأداء الذاتى ، المتمثل فى الرغبة فى اكتشاف الحياة و الذات ” [5]، كما يعد اللعب ” استراتيجية فاعلة من استراتيجيات التعلم ، و ذلك لما تقوم عليه تلك الاستراتيجية من حفز عمليات التعلم ، بشكل يصبح فيه المتعلم مشاركاً بشكل فاعل ، و من ثم يعتمد اللعب كأسلوب تعليمى على إيجابية الفرد و أدائه و تفاعله ، و من ثم تعلمه “[6]
الأمر الذى يؤكد أهمية اللعب ، كعامل من عوامل النمو الارتقاء ، فـ (صحصح) يلعب بمركبه الورقية فى حوض تغمره المياه ، و خلال لعبه يتحول الأمر إلى خبرة مكتسبة ، خلال مفردات البيئة ، عن طريق توظيف استراتيجية اللعب ، التى تتناسب مع مرحلة نضج (صحصح) بيولوجياً و معرفياً .
فنظرية (بياجيه) ” تهتم باللعب بوصفه نشاطاً مهماً و أساسياً فى عملية النمو العقلى و الذهنى ، حيث يرى أن اللعب هو أساس كل الأشكال العليا فى الأنشطة العقلية “.[7]
و قد اعتمد (جاهين) على اللعب التمثيلى الإيهامى ، الذى يعد من أهم أنواع اللعب الطفولى ، الذى يحقق نمواً معرفاً ، فقد توهم (صحصح) ذاته بحاراً ، مستخدماً المحاكاة وسيلته فى عبور عالمه الافتراضى ، الذى نسج مفرداته عبر الخيال ، ” فاللعب على اختلاف أنواعه يحتوى على عنصر درامى ، و بالرغم من تطور طبيعة اللعب مع تطور نمو الطفل ، فإن اللعب الإيهامى ، القائم على الخيال ، و تمثيل المواقف ، يتسع ليشمل مراحل نمو الطفل ، و يتطور بتطور نموه و خبراته “[8]
ثالثاً: الثوابت الوظيفية:
” هى التعامل مع البيئة بطريقة واحدة و ثابتة سواء فى التكيف البيولوجى أو التكيف العقلى، و تتمثل هذه الثوابت فى ناحيتين رئيستين هما ( التكيف و التنظيم ) “[9]
- التكيف : و يشمل (التمثيل و المواءمة) ، ” و التمثيل هو جزء من عملية يتكيف بها الفرد معرفياً ، و ينظم بها بيئته ، فالتمثيل يسمح بنمو المخططات دون تغيرها ، أو الارتقاء بها ” [10]الأمر الذى يستدعى دمج المواءمة معه ، فإذا كانت عملية التمثيل ” وظيفتها المحافظة على الوضع الراهن للبنية العقلية ، عن طريق تفسير المواقف الجديدة غير المألوفة فى ضوء المعارف القديمة ” [11]،
- فإن عملية المواءمة ” تعنى تعديلاً فى بنية العقل و معارفه عن العالم ، حيث يمكنه أن يستوعب خبرات جديدة ، فالمواءمة تعبر عن الارتقاء و هو تغير نوعى ، فى حين يعبر التمثيل عن النمو و هو تغير كمى ، و كلاهما يعبر عن تكيف فكرى ، و عن ارتقاء البنى الفكرية ” [12]
و تتمثل الثوابت الوظيفية فى نوعية السلوك الوظيفى ، الذى يؤديه الفرد ، لتلبية حاجاته ، وفق البيئة التى يتواجد بها ، و مثال ذلك (الساعة) فاللساعة وظيفة ثابتة مهما حدث من تكيف بيولوجى، أو تكيف عقلى للفرد ، فوظيفتها ثابتة ، و هى تنظيم الوقت ، و تعد هى الرسالة الكبرى للنص ، فإذا بـ (جاهين) يعبر خلال (صحصح) ، عن اندماج التمثيل و المواءمة لديه ، لكى ينتجا معاً ما أطلق عليه (بياجيه) (التكيف) ، الذى يحقق نجاح ثبات الوظيفة ، و قد اتضح ذلك فى فرحة (صحصح) عندما سمع بوعد والده له بالساعة هدية لنجاحه ، و غناءه لها .
صحصح: البس ساعتى و اتشمر و اعمل آل يعنى آل
اشخط و انطر و اتأمر على كل العيال
بيجولى خمسة ستة فى غاية الاحترام
و الواد أبو بسكلتة يسألنى الساعة كام
ماقولوش مهما يسأل يتغاظ يمضغ زلط
واللا أحسن و أجمل اقوله بالغلط
و لا حرام هقوله بصحيح
ليقول بخيل و أنا واد فى القطر مليش أبدا مثيل.[13]
يتضح من الفقرة السابقة أن (صحصح) فى حالة غياب كامل ، عن الثبات الوظيفى للساعة ، و قد تمثل ذلك فى كلمات الأغنية ، فالساعة مهمة بالنسبة له ، إلا أنه تعامل معها من منطق لعبه الطفولى، و إثارة غيرة الأقران ، و مع مرور أحداث النص ، و انخراطه فى عدد من المواقف، التى أجبره فيها (جاهين) أن يستكمل شقى التكيف ، ليحقق التوظيف الصحيح للوظائف الثابتة ، خلال عمليتى التمثيل و المواءمة ، اللذان يحققان درجة من درجات الذكاء ، و قد اتضح ذلك فى نهاية النص ، حيث وعى (صحصح) بالوظيفة الثابتة للساعة ، دامجاً النمو الكمى للتمثيل و النوعى للمواءمة ، موضحاً وظيفة الساعة ، خلال حواره مع والده .
الأب : هيه قولنا حتعمل إيه بالساعة ديه ؟
صحصح : ده مسؤولية كبيرة أوى يا بابا
مش عياقة و لا فنطازية…
ده حظبط بيها مواعيدى بدل الهرجلة
و قلة النظام ، أصل إلى ما يعملش كل
حاجة فى وقتها ميلاقيش وقت يعمل أى حاجة.[14]
و يتضح من كلماته أنه حدث له نمواً معرفياً ، خلال وظيفة ثابتة ، حدث لها تمثيل مدمج بالمواءمة، فحقق التكيف ، فهو يدرك فى بداية الأمر أن وظيفة الساعة أن تلبس فى اليد لمعرفة الوقت (التمثيل) ، دون إدراك و وعى حقيقى ، بوظيفتها الثابتة الحقيقية فى التعبير عن قيمة هذا الوقت (المواءمة) ، الأمر الذى تحقق خلال رحلته عبر النص ، مما حقق التكيف ، خلال تكوين المعرفة، و من ثم النمو المعرفى .
و فى موقف آخر استخدم (جاهين) من إثارة غضب (صحصح) ، وسيلة لتحقيق نموه المعرفى خلال (رباط الحذاء) ، فالوظيفة الثابتة أن للحذاء طريقة واحدة فى ربطه ، كى يأمن مرتديه التعثر فى أثناء المشى ، فأظهره (جاهين) يتعثر دائماً بسبب رباط حذاءه المفكوك ، ليس تعثراً فى المشى فحسب، بل تعثراً فى عملية التعليم و التعلم ،
و قد تعمد (جاهين) أن يتخذ من رباط الحذاء ، وسيلة لكسر إيهام (صحصح) و متلقيه ، كى يثير الإنتباه و الدهشة لديهما ، و هما من محفزات التعلم ، فقد جعل من رباط الحذاء منبهاً موقظاً لوعيه و وعى متلقيه ، لكافة السلوكيات السلبية ، التى يقع بها ، و يتم تعديلها عن طريق إعمال العقل ، و من ثم التغيير ، و إدراك أهمية الوقت .
و هى تقنية استخدمها (بريخت) فى مسرحه التعليمى الملحمى ، فالدهشة التى تنتابنا من كل موقف يتعثر فيه (صحصح) هى ما يهدف إليه (بريخت) ” من تحقيق التغيير ، الذى تدعونا إليه دهشتنا من اكتشاف الأشياء ، فيقول الإنسان ، لم أكن أظن ذلك ، لا بجوز ذلك، هذا واضح كل الوضوح ، هذا يجب أن يتوقف ” [15]
صحصح : (يجرى) حاضر
الجزمة : الرباط يا صحصح
صحصح : حاضر (ينحنى ليربطها)
الجرس : (ينقض عليه) تلالم لم يلا أوام
صحصح : يعنى ما أربطش الرباط (يدوس على الرباط و يقع)
الجمل : يا صحصح ( يدوس مرة أخرى على الرباط)
صحصح : (مفزوعاً) حاضر جاى (يقع) أى أى دست على
الرباط تانى ……….
الشوكة : يا صحصح .
صحصح : طب جاى بس أربط رباط الجزمة
الشوكة : اتفضل اربطه ……
صحصح : (يحاول تقليد الفراشة لكنه يسقط)
هيه و ضحكت عليك يا فراشة ، أنا فراشة
حرة و طليقة (يقع) أى و لا فراشة و لا حاجة
برضه دست على رباط الجزمة …………[16]
خلال الأمثلة السابقة ، يتضح أن (صحصح) غافل عن عملية الإتقان لأى فعل يقوم به ، و هذا الإتقان لا يتحقق إلا بتنظيم الوقت ، خلال منح كل فعل الوقت المخصص لإنجازه ، فبالرغم من تفاهة عملية ربط الحذاء ، و ضآلة حجمه فى كل المواقف التى خاضها (صحصح) خلال النص ، إلا أنه تسبب فى أرقه طوال رحلته ، الأمر الذى أراد به (جاهين) أن يؤكد أن عملية تنظيم الوقت ، هى الوسيلة الرئيسة ، التى تمكن صاحبها من إتقان صغائر الأعمال ، وصولاً إلى الصفاء الذهنى و النفسى ، اللذاين يحققان عملية التكيف وصولاً للنمو المعرفى .
- التنظيم :
هو الثابت الوظيفى الثانى الملازم لعملية التكيف.
و يعرفه (بياجيه)[17] ” بأنه الأبنية و التراكيب العقلية ، التى تختلف من مرحلة لأخرى ، و تظل منظمة دائماً ، و يهدف إلى تكامل الأبنية الفزيقية و النفسية ، لتكون أبنية ذات مستوى أعلى ، و لا ينفصل التنظيم عن التكيف ، بل يتكاملا فالتكيف يختص بعلاقة الفرد مع البيئة الخارجية ، محققاً التوازن فى هذه العلاقة ، أما التنظيم يهتم بعلاقات الأعضاء و الأبنية الداخلية ، مكوناً منها كلاً
متزناً ”
و هذا يعنى أن الفرد لابد أن يكون متواءماً ذاتياً ، على المستوى الفزيقى و المستوى النفسى ، لكى يتمكن من التكيف مع البيئة الخارجية ، ليحقق الثوابت الوظيفية كماً و نوعاً ، و من ثم تكون رافداً من روافد بنائه المعرفى .
و قد أوضح (جاهين) أهمية التنظيم بشقيها الفزيقى و النفسى فى إتمام عملية التكيف ، و من ثم النمو المعرفى ، حيث أحدث خللاً فى الشق الفزيقى لدى (صحصح) فغلب شعوره بالجوع على عملياته الحيوية و العقلية كافة ، مبيناً مدى تألمه من الجوع ، و رغبته الملحة فى تناول الطعام ، و رفضه لإتمام أى عمل مهما بلغت أهميته ، أمام تلك الرغبة الملحة .
صحصح : أنا جعان أما آكل بقى هه (يبدأ فى الأكل)
(فجأة ينفتح مكان الساعة الخامسة من الساعة و تخرج كراسة الواجب)
الكراسة : بس !
صحصح : ايه ؟
الكراسة : مش معاده
صحصح : آمال معاد ايه ؟
الكراسة : معادى أنا .[18]
و يتضح من الحوارية السابقة أن (صحصح) كان فى حالة اندماج كاملة ، لإشباع جوعه ، و بظهور كراسة الواجب يكسر إيهامه ، لتنيهه لخطأه ، و هو عدم احترام الوقت المخصص لتناول الطعام ، فقد فات موعده ، و جاء موعد الاستذكار ، مهيئاً الطفل لتقبل رسالة التغيير التى تبناها النص .
صحصح : (يحاول الابتعاد بالطبق عن هجوم الكراسة ، و الكراسة تقترب بلا توقف )
الكراسة : أنا الواجب
صحصح : الواجب ؟
الكراسة : اعملنى
صحصح : طب لما آكل . جعان يعنى ماكلش………[19]
يتضح من الحوارية حالة الصراع ، و الشد و الجذب بين رغبة (صحصح) فى تناول الطعام ، و رفض الكراسة لذلك لأن وقته قد فات ، و بالرغم من غلظة رد فعل الكراسة ، أمام فعل (صحصح) فى رغبته فى الطعام ، فهو يعد صراعاً واثباً ، استهدف منه الكاتب تغليظ عقوبة إهدار الوقت و عدم تنظيمه ، فعملية التنظيم لم تتم ، لأن الجانب الفزيقى غير متواءم مع الجانب النفسى ، و هذا هو العائق الذى يعيق عملية التكيف مع البيئة الخارجية ، مما يسبب عرقلة فى النمو المعرفى ، التى اختزلها (جاهين) فى كراسة الواجب ، فعملية التنظيم كما أوضحها (بياجيه) هى عملية بناء و تراكيب عقلية يتم تنظيمها ، خلال عمليات النمو المختلفة ، تلك العمليات التى اختزلت فى زمن النص ، و هذا يبين أن التنظيم يتم تكوينه بالفعل مروراً بالمراحل المختلفة ، التى تمر بها الشخصية (صحصح) كما حقق (جاهين) بذلك الحكمة القائلة لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد خلال توظيفه للكراسة ، و تعظيم قيمة العلم والعمل وأهميتها .
رابعاً : الأبنية العقلية :
” هى تجربة عقلية ، دون إلزام الفرد لنفسه بالقيام بنشاط ظاهر أو صريح ، فهى تظهر خلال أداء العقل لوظائفه ، و تتغير فى أثناء النمو الإرتقائى للفرد ، فهى استجاية ثابتة لمثير معين ، و ليست استجابة بسيطة ، و إنما هى استجابة معقدة ، تتضمن العمليات الحسية الحركية و العمليات المعرفية “[20]
و قد اتضح ذلك خلال النص ، فكأنما ارتحل (جاهين) بمتلقيه فى رحلة داخل عقل (صحصح)، ليشاركه فى إنتاج أبنية عقلية ، لاستجابات معقدة ، تتشارك بها العمليات الحسية الحركية ، و العمليات المعرفية ، لتكون مخططات مسبقة ، لعدد من ردود الأفعال الجاهزة للظهور ، وقت حدوث مثير مناسب لكل استجابة منها ، و دلالة ذلك أن (صحصح) فى أثناء حلمه مروراً بالموقف المختلفة ، التى أظهرت سلبيات السلوك ، و الإخفاق فى إتمام كثير من المهام ، التى تسبب بها عدم احترامه للوقت ، نسج (جاهين) فى عقل (صحصح) مخططات مسبقة ، موطنها الذهن ، دون حدوث تجسيداً لها على أرض الواقع الفعلى ، مكوناً بها أبنية عقلية ، سيتم استغلالها من (صحصح) فيما بعد ، و دلالة ذلك حين أفاق من حلمه ، أعطى استجابة لفظية ، تنم عن تحقق أبنية عقلية فى ذهنه ، أكدت على أنه أدرك أهمية الوقت ، مكوناً خلال ذلك عدداً من الاستجابات المسبقة ، لمثيرات مستقبلية ، قد يتعرض لها خلال رحلة نموه المعرفى .
صحصح : لازم أنظم بيها الأوقات
الصحيان له وقت و النوم له وقت
اللعب له وقت و الشغل له وقت
حتى رباط الجزمة له وقت [21]
فدلالة كلماته أنه سيقوم بأفعال مستقبلية ، اختزن فى ذهنه خططاً ممنهجة ، لردود أفعال مجهزة من قبل ، لاستخدامها مع مثيراتها المناسبة فصحصح أوضح أنه حين يكون منوطاً بمهمة ما
مثير ، فسوف يقوم على تنظيم وقته استجابة مسبقة .
الصحيان له وقت مثير ( وقت الصحيان السابعة صباحاً )
الصحيان استجابة ممنهجة كرد فعل لحلول وقت الاستيقاظ
و يتماثل الأمر مع اللعب ، الشغل ، النوم ، الأكل ، ………..
و نجده يقول (حتى رباط الجزمة له وقت) ففى عملية البناء العقلى ، لم يغفل أبسط الاستجابات المعدة مسبقاً.
رباط الجزمة استجابة ممنهجه كرد فعل لمثير هو التعثر فى أثناء المشى ، مما جعل (صحصح) يخصص له فى بنائه العقلى ، استجابة مسبقة مبنية على عمليات حسية حركية ، حيث توظيف إمكاناته الجسدية و حواسه فى إتمام عملية ربط الحذاء ، معضداً ذلك بالعمليات المعرفية، المتمثلة فى معرفته المسبقة بتقنية ربط الحذاء ، و يؤكد ذلك أهمية تلك العملية ، التى تسببت فى أرقه ، طوال رحلة نموه المعرفى .
خامساً: التوازن:
” هو نجاح الفرد فى توظيف امكاناته مع متطلبات البيئة حوله ، و يهدف إلى تكيف الطفل مع البيئة ” [22]، فالتوازن يتحقق خلال اكتساب الفرد عدداً من الأبنية العقلية ، التى تحقق له توازناً نفسياً، خلال قدرته على اصدار استجابات ، لأى مثير متوقع ، إلى أن يواجه مثيراً غير متوقع، لا توجد له استجابات مسبقة ، مما يحدث اضطراب فى المواءمة و التمثيل ، و بما أن ذاكرة الطفل الانفعالية، و العاطفية فى حالة نمو دائم ، فكثير ما تصطدم بمثيرات غير متوقعة ، فتربك الطفل، و تحدث له حالة من الاضطراب ، التى تجعله مضطراً للبحث عن استجابات ملائمة ، خلال عمليتى التمثيل و المواءمة، أملاً فى التكيف مع المثير الجديد الذى يواجهه .[23]
و هنا يدخل دور المسرح ، الذى يبعث عدداً من المثيرات غير المتوقعة ، خلال بناءه الدرامى، و شخوصه الخيالية و تقنياته الفرجوية ، مما يحدث حالة من الدهشة و الغرائبية لدى الطفل ، و يحدث له اضطراباً ذاتياً ، مما يحيله من متلق عادى إلى مستكشف باحث عن المعرفة ، كلون من ألوان التكوين المعرفى ، الذى يمنحه جديداً من عمليات التمثيل و المواءمة تحقيقاً للتكيف ، خلال عمل تنظيم لتلك التراكيب ، و ثقلها فى بناء عقلى ، منتجاً خلاله عدد من الاستجابات الجديدة ، التى تختزن لدى الطفل فى حالة تأهب لظهورها ، كردود أفعال لمثيرات جديدة ، مما يمنحه حالة من التوازن و الطمأنينة ، فهو يمتلك أدواته الحسية و الحركية و المعرفية ، للدفاع عن وجوده ، مكوناً نمواً معرفياً .
و قد تمثل ذلك فى النص ، حيث اتخذ من (صحصح) نموذجاً لجمهور الطفل ووضعه فى صراع مع كم من المثيرات الجديدة غير المتوقعه ، فلم يكن يتوقع ساعة بهذا الحجم ، ويخرج من خاناتها تفاصيل بيئته ، بل تم ذلك خلال أنسنة الجماد و الحيوان و توظيفها ، مع إضافة مؤرقات كرباط الحذاء ، و الشعور بالجوع ، الجرس ، و الحرمان من اللعب ، و غيرها من مثيرات غير متوقعة ، خالقاً بذلك حدثاً فرجوياً ، يستهدف عقل جمهور الطفل ، خلال إيقاظ وعيه، محفزاً إياه على توظيف إمكاناته الحسية و الحركية و المعرفية ، لاكتساب كماً جديداً من المعارف، التى تعينه على توظيفها فى إعداد خطط ، لاستجابات مسبقة ، استعداداً لأى مثير غير متوقع ، تحقيقاً للتكيف و من ثم التوازن ، و هذا ما يمنح الطفل عقلاً خصباً ، مستعداً لإتمام عمليات النمو المعرفى .
و من ثم فخلال إبحار البحث فى نص (جاهين) ، لاحظ أنه قد راعى الضوابط الفنية ، فى أثناء كتابته للنص ، على مستوى الشكل و المضمون ، فضلاً عن مدى الاتساق بين ما قدمه فى نصه، و ما جاء به (بياجيه) فى نظريته ، و هو ما استوضحه البحث ، خلال انعكاس مصطلحات النظرية على النص . و يستكمل البحث الربط ، و كشف العلاقة بين مسرحية (جاهين) ، و مراحل النمو المعرفى عند (بياجيه) ” التى تتلخص فى (المرحلة الحس حركية منذ ميلاد الطفل و حتى السنة الثانية ، مرحلة ما قبل العمليات 2 : 7 من عمر الطفل ، مرحلة العمليات المادية ما بين 7 :11 من عمر الطفل ، مرحلة التفكير المجرد من 12 : إلى نهاية المراهقة ” [24]
[1] ) مقتبس فى : صالح محمد أبو جادو ” علم النفس التربوى ” ( عمان – دار الميسرة 1998 ) ص 185
[2] ) انظر فى : برتولد بريخت ” نظرية المسرح الملحمى ” ت : جميل نصيف ( د) ( بيروت – عالم المعرفة د / ت ) ص 149 .
[3] ) مقتبس فى : ر . ل بريت ” التصور والخيال ” ت : عبد الواحد لؤلؤة ( بغداد – دار الرشيد للنشر 1979 ) ص 30
[4] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 54
[5] ) فاروق السيد عثمان ” سيكولوجية اللعب والتعليم ” ( القاهرة – دار المعارف 1995 ) ص 149 .
[6] ) انظر فى : عبلة عزمى ” لعبة الطفل ” ( القاهرة – المركز القومى لثقافة الطفل 1996 ) ص 10
[7] ) بيرد . م . روث ” جان بياجية وسيكولوجية نمو الأطفال ” سبق ذكره ص 25
[8] ) بيتر سليد ” دراما الطفل ” ت : كمال زاخر لطيف ( الإسكندرية – منشأة المعارف 1977 ) ص 11
[9] ) سليمان الخضرى الشيخ ” الفروق الفردية فى الذكاء ” ( القاهرة – دار الوفاء للطباعة 1990 ) ص 206
[10] ) سعدية على بهادر ” فى علم نفس النمو ” ( لكويت – دار البحوث العلمية 1987 ) ص 32
[11] ) ويلارد أرلسون ” تطور نمو الطفل ” ت : إبراهيم حافظ وآخرون ( القاهرة – عالم الكتب 1962 ) ص 72 .
[12] ) سليمان الخضرى الشيخ ” الفروق الفردية فى الذكاء ” نفسه ص 34
[13] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 40
[14] ) نفسه ص 73
[15] ) برتولد بديخت ” مسرح تسلية أم مسرح تعليم ” . ت : يسرى خميس . مجلة المسرح والسينما ع 58 ( القاهرة – المؤسسة المصرية للتأليف والنشر – ديسمبر 1968 ) ص 36
[16] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 40 – 46
[17] ) مقيس فى رؤوف
[18] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 62
[19] ) نفسه ص 63
[20] ) سليمان الخضرى الشيخ ” الفروق الفردية فى الذكاء ” سبق ذكره ص 213
[21] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 73
[22] ) صالح محمد أبو جادو ” علم النفس التربوى ” سبق ذكره 338
[23] ) انظر فى : جان بياجيه ” سيكولوجية الذكاء ” سبق ذكره ص 178
[24] ) انظر فى : بيرد . م . روث ” جان بياجيه وسيكولوجية نمو الأطفال ” سبق ذكره ص 46 .