أ.د. محمد حسين حبيب يكتب: مسرح الأشياء ما بين “سويسرا” و “البرازيل”!
المسرح نيوز ـ القاهرة ـ مقالات| د. محمد حسين حبيب*
أكاديمي ومسرحي من العراق
ـ
ليس من المهم كيف تشكلت الأشياء , لكن المهم إنتاجها للمعنى البليغ في النهاية .
هذا هو جوهر ( مسرح الاشياء ) كما نراه ,وهو المسرح الذي شاع حديثا في عدد من المنصات المسرحية العالمية والعربية .. وكان هذا المسرح قد ظهر اولا في فرنسا عام 1970 على ايدي جاك تمبليرو وشارلو لومان وتانيا كاستان .. وقد عرفته الناقدة الجزائرية د. جميلة مصطفى الزقاي بانه : ( ذلك المسرح الذي يعتمد على تكريس مبدأ الابتكار والابداع لدى الطفل حيث يعمد المخرج الى تسخير بعض الاشياء التي يرميها الأطفال ومن ثم توظيفها مسرحيا لاهداف تربوية وأخلاقية وجمالية .) .. الا ان كاتب السطور يرى ان مسرح الأشياء ليس مقتصرا على الأطفال حسب فيمكن ان يكون لمسرح الكبار أيضا لانه يحلق احيانا في نسج وصياغة معاني ودلالات بليغة خارجة عن وعي الطفل .. وعليه يمكن القول هنا : ( ان مسرح الأشياء هو المسرح الذي يعتمد على الخامات المادية طبيعية كانت ام مصنعة ومسرحتها بوصفها ملحقات مسرحية من شانها الخروج بمعان عميقة صادمة تثير دهشة التلقي . )
الذي دفعني لكتابة هذه السطور وأستفزني جماليا هو مشاهدتي لعرضين مسرحيين من عروض مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورته الحالية 2018 هما: العرض السويسري (you and me انت وانا) من تاليف فلوريانا فراسيتو واخراج ماركوس سيمين ، والعرض البرازيلي (بعثة المحيط الهادي) تاليف ثلاثي : لجابريال سيتشين و هينيريك سيتشن و روجيريو يتواش ،ومن اخراج هينيريك سيتشن .. وكانا كلا العرضين قد اعتمدا (مسرح الاشياء) اسلوبا اخراجيا لفرضيتهما الفكرية والجمالية لفلسفة عرض كل منهما .
اعتمد العرض الاول (انت وانا) على الثنائية الأصل للبشرية وبسببها تتواصل الحياة ،الا ان بالضرورة لكل (رجل وامرأة) رحلة حياتية خاصة بهما تجمعهما في بقعة ما من هذا الكون، وقد تكون هذه ال (انت وانا) صديقان او صديقتين اذ لا يمكن العيش بدون الاخر المكمل لحركة الانسانية وصراعها من اجل البقاء . مدخلا يبدو بسيطا جدا من وجهة نظر الدراما وفلسفتها المتشعبة في تحقيق السعادة الكونية للخليقة برغم انقساماتها وتنوع انتماءاتها العرقية والجنسانية .. فلم تكن لغة الجسد هي الطاغية في هذا العرض بل طغت تلك الأشياء / الملحقات المسرحية – (الاكسسوارات) بالمفهموم المتداول – فشكلت العلامة الكبرى للعرض ، فللوهلة الاولى تبدو البساطة والعفوية في اختيار هذا الشيء او ذاك من خامات وادوات مختلفة ، ولكن المعاني البليغة التي تصلنا في نهاية الموقف هو الشيء الصادم واللامتوقع في النهاية .
لا توجد دراما تقليدية او حديثة هنا ، بل توجد الدهشة الجمالية الذي لا يختلف عليها اثنان .. فعبر هذه الثنائية نقتفي اثر ( صراع / تحول / اتفاق واختلاف / محبة وكراهية / عنف وسلام / مقدس ومدنس / اسود وابيض / وفاء وخيانة … الخ ) لنجد انفسنا اننا ازاء ثنائية لم تكن تسعى الا من اجل الانسان .. في هذا الصدد تقول مخرجة العرض كاشفة عن فلسفة مشروعها المسرحي : ( نحن لا نقدم عروضا سياسية الا اننا نتحدث عن سياسة الحياة اليومية بين الرجل والمرأة وبين الرجل والرجل، كما نتحدث عن سوء التواصل الذي ادى بالعالم الى كوارث كثيرة … نحن لا نحاول تعليم العالم وانما نزوده بالقدرة على التفكير بحيث يمكن استخدام عقله ومشاعره . )
ما بين تقانة المسرح الاسود والمسرح الايمائي برعوا مجموعة العرض في اظهار تمكنهم الجسدي عبر تحريكهم (الاشياء) .. لانراهم ولا نرى اجسادهم في غالبية مشاهد العرض ، الا اننا نشهد تمكنهم الجسدي عبر اشيائهم المتحركة وهي ترسم لنا صورا ومعاني عبر سينوغرافيا الفضاء منشطة في ذلك ايقاع العرض وانفعال التلقي به في ترقب مشدود ومتواصل وصولا الى المتوقع احيانا واللامتوقع احيانا كثيرة . كان الصمت بطلا حقيقيا طيلة مساحة العرض الذي تجاوز زمنه 80 دقيقة ، وقد مرت سريعا لان التركيز البصري وسط هذا الفضاء الصامت كان همه الولوج الى المعنى الناتج من تشكل الاشياء واقترانها ببعضها.
ومن المهم الاشارة هنا ، ان كل من الضحك او الحزن في هذا النوع من العروض يبدو ان له مائزة خاصة به ، فنكتشف ان هذه (الاشياء) هي التي تسخر وتضحك وتحزن وتبكي لا الممثلون ، وبالتالي يختلف تفاعل التلقي وحميميته ويكون له طعما غرائبيا جديدا .
اما في العرض الثاني (بعثة المحيط الهادي) فنجد انفسنا ازاء عالم مختلف من (الاشياء) الجديدة هي كل مايمكن ان تحتويه مزبلة ما .. والمتحكم في هذه النفايات ادائيا وحركيا بطلا العرض وهما عاملا نفايات يتخذان من المزبلة الكبيرة مأوى لهما .. ليبدءان ومنذ لحظات العرض الاولى بصياغة احتياجاتهم واحلامهم من هذه النفايات وهي اغلبها من قطع النايلون او البلاستيك لسد رمقهم من الجوع او العطش او البحث عن متطلبات سعادتهما المنتظرة .. كل ما يجدانه هنا في المزبلة يبتكران منه فكرة ما : ( حيوانات / مياه / طيور / قناني فارغة / احذية / لعب اطفال قديمة / … الخ ) ان كل خامة هنا تقود الى فكرة , وان كل فكرة تقود الى فكرة اخرى , مثلما كل شيء يقودنا الى اشياء اخرى .. لكن المختلف هنا عن العرض السويسري هو استخدام الموسيقى التصويرية اضافة الى التمثيل الايمائي مع انبعاث الاهات والاصوات الادمية بحسب ضرورة اللحظة والحالة الادائية ذاتها .
العرضان التقيا في لغة الابتكار والتنقيب في الخامات المستخدمة بهدف خلق عوالم ومشاهد تراتبية تتوافق وسلسلة المواقف الادائية المطلوب استكمالها وصولا للهدف الاسمى عبر تحولات تكوينية صورية خلابة تحتكم الى عنصر (الخيال) احتكاما اساسيا ومرتبطا هذا الخيال بذكاء وقاد ليكشف لنا مهارة جسدية ادائية متقنة يكتنفها حسا فنيا عاليا . لقد منح العرضان هذه الاشياء حياة لم نكن نتوقعها وهو ما يشترط علينا وضعه في تكاملية العرض الابداعي الخلاق , فضلا الى ارتكاز كلا العرضين ايضا على مبدأ سر اخفاء الصنعة المسرحية وهو المحكوم اصلا بكل ما تقدم من سمات او خصائص مسرح الاشياء .. كما لا ننسى ايضا ان هذا النوع من العروض تحتاج زمنا طويلا من التدريبات يمر عبرها تجارب فاشلة منها وناجحة وصولا الى حسم النتائج واثرها فكريا وجماليا . كما اشتركا العرضان في حميمية العلاقة مع المتلقي واشراكه في العرض وجعله حزء تفاعليا ضمن نسيجه .
ختاما .. كان بكادر العرضين يريدون ايصال بيانهم المسرحي لنا وهم يهتفون في النهاية : ( كل شيء مباح في مسرح الاشياء ومن اليسر تحقيقه .. وكل شيء يمكن محوه بسهولة . لا تصدقوا كل شيء في مسرحنا هذا ، فنحن من نصنع من الاشياء احلامكم ونحن من يلغيها بسهولة وعن رضاكم طبعا . سريعا ما نصنع لكم الفرح وسريعا ما نجعلكم تتالمون .. فنحن جماعة (مسرح الاشياء) . )