الناقد المسرحي عصام أبو القاسم: أسجل موقفي الرافض لخطاب إدارة المسرح القومي السوداني الموجه لإدارة مهرجان أيام البقعة المسرحية
المسرح نيوز ـ الشارقة| عصام أبو القاسم
ـ
تعليقا على خطاب إدارة المسرح القومي السوداني الموجه لإدارة مهرجان أيام البقعة المسرحية أود أن أسجل هنا موقفي الرافض لخطاب ـ الصورة ـ المرفقة هنا.. ليس فقط لأن لغة هذا الخطاب جافة أو غير لبقة وفيها الكثير من الحنق الشخصي تجاه مؤسس ورئيس مهرجان أيام البقعة المسرحية السيد علي مهدي، ولكن أيضا لأن رفض إدارة المسرح القومي اتاحة “المسرح المكشوف”، و”مسرح الفنون الشعبية” لعروض المهرجان، الذي ينظم دورته (21) نهاية شهر مارس المقبل، هذا الرفض غير المبرر ـ فلا نشاط آخر يقام في التوقيت ذاته ـ لا يقتصر ضرره على “علي مهدي” فقط أو الطاقم الإداري للمهرجان، انما يشمل العشرات من الفنانين المسرحيين والعديد من المتفرجين الذين يحرصون على المشاركة في هذه التظاهرة السنوية!
يحق لإدارة المسرح القومي بالطبع أن تتعامل مع مهرجان أيام البقعة المسرحية كمنشط ثقافي تقيمه مؤسسة خاصة وبالتالي تشترط على إدارته أن تدفع مقابلا مادياً على استغلالها المسرح مثلما كانت تعمل إدارة المسرح القومي مع منظمي حفلات ” الزنق” و عروض تخرج رياض الأطفال، ولكن الخطاب الموجه لإدارة مهرجان أيام البقعة المسرحية كتب بلغة عدائية على نحو واضح ( لغة استثقل صاحبها حتى كتابة اسم مدير مهرجان أيام البقعة المسرحية وخاطبه بصفته!) .. وبالتالي القصد أوضح من أن يتم تظهيره.
من الواضح أن مدير المسرح القومي كتب هذا الخطاب من دون أن يضع أي اعتبار لأي كان سوى نفسه؛ فهو لم يفكر في أولئك الشبان الذين شرعوا في إعداد مشاريعهم المسرحية للمشاركة في المهرجان، وهو لم يفكر في التحديات التي يمكن أن تقابل إدارة المهرجان مع حرمانها من المواقع التي تعرض فيها أعمالها المسرحية، وهو لم يفكر في الحرج الذي يمكن أن تتعرض له وزارة الثقافة حين يعرف العالم أنها حرمت أعرق مهرجان مسرحي في البلاد من مسارحها غير المشغولة.. والسبب: نكاية في رئيسه!! لم يفكر مدير المسرح القومي السوداني في أي شيء من كل هذا وكتب خطابه الغاضب وقال بعدها فليحصل اليحصل!
لكن، ولأجل الحوار مع ناس ربيع يوسف والاصمعي باشري وسواهما، أقول إن المنطق القائل بان السيد علي مهدي كان ” ابن النظام البائد”، لا يصمد كمبرر لإيقاف أو التهجم على مهرجان أيام البقعة المسرحية، هذه طريقة ” كيزانية” في التعبير عن الاختلاف: الحجب والفصل والإيقاف. أكثر مما كان علي مهدي ” كوزاً “كان فناناً مسرحياً مشهوراً، يحاول أن يمارس مسرحه ويتنعم بشهرته في ظل نظام سياسي قمعي يكره كل من ينتمي للفن. هل كان انانياً لأنه لم يوظف رصيده الرمزي كفنان صاحب شعبية لمناهضة النظام أو مناصرة المعارضة .. صوناً لمصالحه الشخصية .. ربما! لكن هل كان شرطاً وجودياً على أمثاله أن يختاروا اما أن يكونوا مع أو ضد النظام البائد.. أليس من منطقة وسطى؟
الشاهد، ان السيد علي مهدي، على رغم شهرته، محليا ودولياً، فانه لم يكافئ طيلة العقود الثلاثة الماضية بوزارة أو هيئة أو حتى إدارة المسرح القومي في عهد الكيزان، بقي دائماً في حقله الخاص: منظمة قرى الأطفال العالمية (الأس أو أس)، مؤسسة البقعة المسرحية، وبعض مؤسسات وصناديق المنح الثقافية في العالم؛ فكيف يمكن تفسير ذلك؟
من الجانب الاخر، لم يكن مهرجان أيام البقعة المسرحية مناسبة لإرساء وإشاعة ثقافة الكيزان ، بل على العكس قدمت منصته، على مدار سنوات، العديد من العروض الناقدة والناقمة والمتحدية للنظام البائد.. وحتى إن لم يحصل ذلك فيكفي سبباً لتقدير المهرجان والدفاع عنه انه كان يضيء بعروضه عتمة هذا المسرح القومي ويأتي إليه بالجمهور والإعلام، سنة تلو سنة، في وقت كان فيه هذا المجال الفني يتعرض لكل أشكال الاقصاء والتدمير، وفي وقت كان فيه هذا المسرح القومي تحديداً يتداعى: جدارنه هشة ومتآكلة ، وأرضيته مغمورة بالمياه الآسنة، ومكاتبه مغبرة ، ومقاعده بالية، اما مرافقه الأخرى مثل الخشبة وأجهزة الانارة والصوت بها وكواليسها والحمامات والمخزن؛ فحدث ولا حرج!
لم يكن سبب هذا الخراب سوء الإدارة فحسب ولكن كذلك من أسبابه: كراهية الكيزان لهذا المسرح وللمنتسبين إليه، وهي كراهية تجلت بصور مختلفة على مدار العقود الثلاثة الماضية: اغلاق المعهد المسرحي، وقطع الدعم عن المؤسسة المسرحية الرسمية لتجويع وافقار المسرح وصناعه، وحجب فرص الابتعاث والشغل عن المتخرجين حديثاً من كليات المسرح، ضف إلى ذلك طبعا ملاحقة السلطات الكيزانية لبعض المسرحيين وتشريد بعضهم الآخر.. قولاً واحداً: كان المسرح هو العدو الأول الذي عملت الإنقاذ كل ما في وسعها لتغييبه وامحاء أي أثر له عن المشهد الثقافي.
اذن، بخلاف جميع الأنشطة الثقافية التي كانت تقام على أيام النظام البائد من الصعب جدا اثبات ان مهرجان أيام البقعة المسرحية، على وجه التحديد، كان طريقة أو وسيلة ناعمة لاحتواء وتدجين وبرمجة أهل المسرح من طرف سلطة الكيزان.. لم يكن لدى الكيزان هذا الحس السياسي المتطور؛ لقد كانوا أعداء لكل من هم سواهم.. ولا حاجة لهم في غيرهم، لا سيما أولئك الذين في المجال المسرحي.
ولئن كان البعض يأخذ على تجربة المهرجان أن مؤسسه ورئيسه السيد علي مهدي كان يتلقى تمويله من وزارة الثقافة أو المؤسسات الأخرى في دولة الكيزان؛ فهذا التمويل كان استحقاقاً وليس ديناً واجب السداد في منظور السيد علي مهدي وأمثاله من مديري المراكز والجمعيات الثقافية الخاصة التي اقيمت في السنوات العشرين الأخيرة من عمر الانقاذ، وهو تقليد شائع في كل انحاء العالم أن تتلقى المؤسسات الثقافية ذات الطبيعة الخاصة دعماً من الدولة أو من الشركات ..إلخ.
آمل ، من كل قلبي، أن يعلن السيد علي مهدي حجم ما كان يتلقاه من وزارة الثقافة الاتحادية وتلك الولائية وبقية الأجهزة الرسمية.. أو على الأقل تفعل هذه المؤسسات الرسمية ذلك.. وهو أمر مهم لأجل الشفافية وولأجل تاريخ المسرح السوداني.. فحجم ما يدفع وتأثير هذا المدفوع على نوعيات العروض والتظاهرات المسرحية ..
كل هذا مهم جدا للذاكرة المسرحية.. فيما آمل ذلك أود أن أطرح جملة من الأسئلة على هؤلاء الذين يعتمدون على فكرة ان علي مهدي كان يتلقي تمويله من الدولة كسبب لإيقاف مهرجان البقعة: أين المشكلة في تلقيه لهذا الدعم؟ هل كان يضاعف هذا الدعم ببيع تذاكر لدخول عروض المهرجان؟ هل جعل من المهرجان بروباغندا الكيزان.. هل فرض على أحد المسرحيين ان يتغنى بالانقاذ .. أو جنرالها؟
لا أقول إن السيد علي مهدي بلا أخطاء أو خطايا، ولكن على من يعرف له أية مفاسد أن يتقدم باثباتاته وليُحاسب مثله مثل أي مفسد. ما أقوله هنا هو: إن هذا المهرجان لا يخص علي مهدي وحده، حتى لو كان هو من أسسه وموله واستقطب الدعم لاستمراريته، هذا المهرجان يخص ذاكرة المسرح السوداني: صنع عروضه وكتب نصوصه وأبحاثه شباب المسرح السوداني.. ليس علي مهدي.. ومن هنا وجب ان نسجل اعتراضنا على اية إرادة تحاول ايقافه أو اعاقته .. انه جزء أصيل من التاريخ الثقافي العام للبلاد، وهو المهرجان المسرحي الوحيد الذي استمر لعشرين دورة على مدى تاريخ المسرح السوداني الذي يمتد لأكثر من مئة سنة.