مقالات ودراسات
المسرح و الطاعون.. تجليات أرطو
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
بقلم: كريم الفحل الشرقاوي
لم يكن أنطونان أرطو متشبعا بأية نزعة سادية عندما اعتبر الطاعون الذي اجتاح مرسيليا في نهاية العقد الثاني من ق 18 تطهيرا كاترسيسيا لهشيم متعفن و استيلادا حتميا لمنظومة متجددة .
إنه استدعاء مجازي لمبدأ ” فارماكوس pharmakos ” الذي يعني لدى الإغريق معالجة الداء بالداء .. و استحضار فلسفي يتواشج مع أطروحات ” المسرح وقرينه ” حيث يستدعي أرطو ” الطاعون ” كقرين لدراما سحرية و قسوة إستيطيقية متنطعة … متمردة … متصعلكة … منتشية بجموحها و جنوحها نحو ازدراء وباء الحداثة الغربية الذي دمر الطاقة الروحية لإنسانية الإنسان .
لهذا ما انفك مسرح أرطو ينتقي قرينه من كيمياء السحري و الميتافيزيقي و الشعائري و الطقوسي و الغرائبي … إنها أوبة أنتروبولوجية للقبض على المتن الأول … الرشيم الأنقى … المسرح الأصفى … حيث تتوهج وتشع طقوس ” التراهوماراس ” المكسيكية التي تنتشي بنطفة التمسرح الأولى المتجذرة في اللاشعور البنيوي الإنساني . هكذا يتخلص أرطو من شراك الميميسيس و سلطة المحاكاة الأرسطية و تواطئها القسري مع المنظومة الكاترسيسية السيكودرامية التي تعضد العقيدة الخطية للدراما الغربية المستبدة و المتحجرة … مستعيضا عنها بكاترسيسية طقوسية سحرية تفضح زيف الكلمة و أقنعة الديكور و بهرجة الملابس و الملحقات ….. إنها عدوى التعري … وعدوى الإرتياب و التوجس من النسق السلطوي لعلامات العقل الغربي الذي يعتقل جموح التمسرح السحري .
لهذا سيمسك أرطو بتلابيب الممثل الطقسي ليقذف به إلى معمعان الجنون النيء … ليغترف من لعنة وبائية جارفة تتغيا الاحتفال بلحظة انخطاف متعالية أو لحظة ” الطاعون المقدس ” الذي يستحيل ترياقا سحريا ينقذف في أفئدة و جوارح المنتشين و الملسوعين بلدغات التمسرح الوبائي … إنها لدغات سامة … تلسع جسد الممثل الممسوس و المسكون بشهوة مستحيلة … و رغبة صاخبة لفضح التواطؤ المشبوه و العلاقة التاريخية المزيفة بين الدال و المدلول .
هكذا يحرض أرطو الممثل على تخصيب أناه العليا … و تلقيح ذاته وتطعيمها بلعنة التخطي الإفريسي التي تغدو مسا … وباء … طاعونا شهوانيا … عدوى شيطانية … لذة جحيمية … رغبة كاترسيسية نيئة تدفعه دفعا للتخلص من جلده الموسمي و التطقسن في معمعان الوجود المتعدد و المتجدد .
لهذا يتعاقد المسرح الطقسي مع حالات التوغل الصوفي و التماهي المطلق مع حالة التجلي الطقوسي لتخصيب نطفة الوجود الأنقى … حينذاك يتحمل الممثل أمانة انتهاك حدود الحجب المصطنعة و الممنوعة و المصادرة … محررا في ذاته الشيء الأكثر أصالة … و الأكثر روحانية … ذلك الحيوان البدائي البري المنطلق و المخترق لمساحات ” الحقيقة ” المتوارية
خلف علامات ” المدنية ” الموبوءة .
يقول انطونان أرطو ” إن المسرح كالطاعون على شاكلة هذه المذبحة و هذا الانفصام الجوهري … إنه يطلق الصراعات … ويخلص القوى من أسرها … و إذا كانت هذه القوى سوداء … فهذا ليس خطأ الطاعون أو المسرح … و إنما خطأ الحياة ” .