الكاتب السوري الكبير “عبد الفتاح رواس قلعه جي يكتب: ” هاروت وماروت… التراث بين المرجعية ومعملية التجريب!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
هاروت وماروت
التراث بين المرجعية ومعملية التجريب
عبد الفتاح رواس قلعه جي
ما من شيء ذي بال في الفن والأدب سوى الجديد، وللوصول إليه في المسرح لابد من التجريب. ومغامرة التجريب لا تعني الانزياح عن الذاكرة الشعبية، فالعملية هي عملية إبداع أكثر مما هي عملية ابتداع.
ثمة نقطة مرجعية دائما للانطلاق: قد تكون فكرة أو حكاية قديمة أو أغنية شعبية أو مثلاً شائعاً أو لعبة طفلية أو غير ذلك مما تختزنه الذاكرة الجمعية، ولا بد للمسرحي أن يدرك أولاً هذه الحقول المعرفية السحرية التي تختزن تجارب إنسانية، وأن يؤمن بخصوبة المادة التراثية، ويتبين مدى طواعيتها للتشكيل المسرحي، وسيكون لديه دائماً ما يقوله من خلال هذه المادة وهذا التشكيل؛ لأن الهدف ليس الاسترجاع وإنما هو تقديم رؤية فكرية وجمالية فنية. وإن حمل المأثور من مرجعيته وجماهيريته إلى معمل المسرح هو التأصيل نفسه، وهو جوهر التجريب.
البحث في الدال والمدلول
يبدأ المسرحي عمله بانتقاء مادته من المأثور الشعبي، يقع عليه مصادفة أو من خلال مطالعاته أو بحكم جماهيرية المأثور، لكنه وحده كمبدع يدرك الإمكانات الدلالية والدرامية فيه والتي تحقق طموحاته في تقديم رؤيتيه الفكرية والفنية على منصة التشخيص. لقد وجد ونوس في تقديم المملوك جابر جلدة رأسه لتحمل رسالة إلى العدو دالاًّ دراميا متوهجاً ، وفي شخصية جابر مثالاً للانتهاز في مرحلة الضعف والفتن والحروب. وقد يأتي التوجه إلى مادة تراثية معينة نتيجة لمحرض، فحين قال طه حسين: من يكتب لنا عن إرم ذات العماد انبرى خليل هنداوي وكتب مسرحيته، ومثل هذه الموضوعات الغارقة في أعماق الزمن لها سحرها الخاص.
غالبا ما يبحث المسرحي عن مادة من المأثور الشعبي أو الديني ليعبر من خلالها عن نظرته إلى الحياة وعن قلقه الفلسفي واستشرافه للآتي ، وفي ذلك يلتقي أكثر من مسرحي، كاتب أو مخرج، في مادة ويفترقون الفكر وتشكيل الأحداث والشخصيات والتناول الفني. وسنأخذ مثالاً على ذلك القصة القرآنية عن هاروت وماروت، وهي قصة موضوعها السحر نفسه ، ولها سحرها الحكائي والشعبي.
- الإشارة القرآنية لقصة الملكين هاروت وماروت ببابل كانت الأساس الذي انطلق منه كاتبان مسرحيان في مسرحيتين تحملان العنوان نفسه ” هاروت وماروت ” وهما لخليل هنداوي من حلب وعلى أحمد باكثير. صدرت مسرحية الهنداوي عام 1933م وقد جاءت تحمل قلقه الفلسفي وتردده بين الشك واليقين في محاولة جادة للوصول إلى المعرفة اليقينية. يقول:
” كتبت هاروت وماروت في ظروف من حياتي مضطربة ولذا جاءت تحمل قلقي الباطني وطموح نفسي”.
وجاءت تالية مسرحية علي أحمد باكثير تحمل دعوة إلى الإيمان بالله، وفيها يتحدث الحكيم هرمس بمفهومات إسلامية بالرغم من الفارق الزمني البعيد بين عصر بابل والإسلام.
هرمس: إني كنت وما أزال أدعو الناس بملء صوتي إلى توحيد الله لتقريب ذلك اليوم الذي تتحد فيه الإنسانية وتتعاون على ما فيه خيرها وصلاحها، وإلى نبذ الآلهة المتعددة التي لا تملك لها نفعاً ولا ضراً وإنما تفرقهم شيعا تتناحر وتتنابذ في سبيل الشيطان”.
وفي المسرحية يتحدث باكثير عن عالم يبلغ فيه الإنسان سن الرشد ، يوتوبيا جميلة، حيث يسود الإيمان وينمحي الظلم والعدوان.
إيلات : ومتى يبلغ الإنسان رشده؟
هرمس : يوم لا يسيطر فيه سفهاؤه على حكمائه. ولا يبغي أقوياؤه على ضعفائه.
أما الكيانات السياسية والدول التي تقف في وجه هذا الهدف الأسمى فلا بد أن تبيد، وثمة ولادات جديدة دائما حتى تتحقق تلك اليوتوبيا الإنسانية السعيدة. والمؤلف هنا يتخطى الدلالة التاريخية القريبة إلى الدلالة الأبعد والتي تتقاطع مع الواقع، فما يقصده هو أنه لابد للنظم العالمية الطاغية أن تتفكك وتنهار، ولابد للعروش المتجبرة أن تتداعى، كأنما يرهص بظهور العولمة حديث اليوم.
عزريائيل : إن بابل قد وقفت في طريق تقدم الإنسان فوجب أن تبيد لينشأ مكانها جيل جديد من إنسان جديد.
ثمة مصطلحات تنتثر في ثنايا المسرحية تشير إلى معاصرة على المستوى اللغوي حيث يستعمل عبارات حديثة مثل : أسرار علمية، صواريخ .
ايلات : أجل قد وقعت يا هرمس . ألم يَثر ذلك الإله حين رأى أولئك العلماء قد أوشكوا أن يغزو الفضاء بصواريخهم فبلبل الله ألسنتهم في البرج لتبقى الأسرار العلمية مخزونة في صدورهم؟
يسمي باكثير شخصيات مسرحيته بأسماء معبودات في العصر الجاهلي: مناة . العزى. يعوق. بعل..أما أميرة القصر فتأخذ اسم ” إيلات ” وهي ” اللآّت ” وهذا ينسجم مع غرض المسرحية الرئيس وهو الدعوة إلى الإيمان . أما الهنداوي فيسمي أميرة القصر وبطلة مسرحيته ” بيدخت ” و يسمي شخصيات مسرحيته بأسماء بابلية قديمة.
وإذا كان هرمس الحكيم في مسرحية باكثير هو المؤمن الداعية إلى التوحيد والصلاح والأخلاق الفاضلة فإنه في مسرحية الهنداوي وانسجاما مع قلق الكاتب الفلسفي وشكه هو الساحر نوبخت الذي يريد قهر السماء.
نبوخذ : وماذا تريد أن تصنع بعد قهرك السماء؟
نوبخت : أريد أن أقطع كل علاقة بين السماء والأرض ، أريد أن ألفت نظر الإنسان إلى الأرض.
إذن يشترك الكاتبان في فكرة القهر وامتلاك القوة العظمى غير أنهما يفترقان في الهدف فيسير كل في اتجاه. فإيلات في مسرحية باكثير لا تريد قهر السماء وإنما تريد استعمال القوة التي يمدها بها السر السماوي في قهر العالم وبسط نفوذ بابل على الأرض، كأنه يشير بذلك إلى ما تبغيه القوة العظمى اليوم في العالم من امتلاك الآلة المدمرة والتكنولوجيا الحديثة للسيطرة على العالم، ترى هل كان باكثير وهو في منتصف القرن الماضي يستشعر نشوء نظام عالمي جديد ، وبوادر زحف العولمة على الشعوب من سماء حرب النجوم والصواريخ؟
إيلات : لقد أدركت الآن أنني أستطيع أن أصعد إلى السماء حيث أشاء. لأخضعن شعوب العالم كلها لبابل وحياة سواع، لأجعلنها جميعا تركع لعظمة بابل.
ماروت : لا يحق لك أن تستخدمي السر في البغي والطغيان.
ترى ألا يحق لنا أن نسأل :هل يتحدث باكثير عن بابل أم عن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم؟ .. ولكن المبدع مرهص دائما بالحدث قبل وقوعه.
في الوقت الذي يدعو فيه باكثير الإنسان إلى مزيد من الإيمان ، واعداً البشرية بضربة إلهية تقضي على الظلم والطغيان ( إيلات تتحول إلى حجر في الزهرة ) من غير أن يكون ذلك عن طريق ثورة وطنية أو شعبية ، فإن الهنداوي في مسرحيته يؤكد على لسان نوبخت على قيمة الإنسان ، فهو محور الأشياء وغاية الوجود ، ويشحن نفسه بالرغبة التي تولد الثورة ، وحرية الإنسان دائما مقرونة بالقلق والعذاب.
نوبخت : تعلموا أن تولدوا بالثورة، لأن ما يولد بالثورة لا يموت.. ثوروا حتى تعلم الأرض أن عليها أحياء.
وإذا كانت إيلات تريد بسط سيطرتها على العالم شأن القوى العظمى اليوم فإن بيدخت تتخفف من أثقال المادة وتصفو نفسها، في حين يسقط في هذه الأثقال الملكان،وهذا يذكرنا بتاييس بطلة أناطول فرانس.
والإنسان ( هرمس ) يستغفر للملائكة لدى باكثير بعد أن هوى الملكان في الخطيئة واليأس فيئسا من استقبال الله لتوبتهما. أما الهنداوي فلا يأس لديه ، وثمة أمل دائما.
هاروت : بابل .. بابل.. غلبنا على أمرنا.
ماروت : تحمَّل العذاب ولا تيأس.
الخطيئة في مسرحية الهنداوي تفتح للملكين باب الأمل والحب الحقيقي والمختلف عما عرفاه في السماء، وذلك هو المكسب الجديد لهما من الأرض والخطيئة.
ماروت : نحن اليوم أكثر تعلقاً بالسماء من كل يوم.
وعندما يصيح نوبخت : أعلن يا نبوخذ ظفر الإنسان على الملائكة.
يقول الملكان : بل أعلن ظفر الإنسان على الإنسان.
لقد انتصر الإنسان في مسرحية الهنداوي مرتين : مرة حين جذبت نوازع الطين إليها نوازع النور وغرق الملاكان في حب جسدي أثيم . ومرة حين تخلص الإنسان ( بيدخت ) من نوازع الجسد ليصعد إلى عالم النور السماوي.
وتنتهي مسرحية هاروت وماروت لباكثير بهذه المقولة : إن من يتحدى الإرادة الإلهية في الحق والخير والإيمان يهلك ويتحول إلى حجر ، كأنه يهدد الذين يكفرون بالله والإنسان ، ويقرع طغاة العالم بالحقيقة الأبدية وهي الموت كأنه يقول ” فاعتبروا يا أولي الألباب ”
عزريائيل : يا أهل بابل إن ملكتكم إيلات قد وصلت إلى كوكب الزهرة.
أصوات : ( هاتفة ) إلى كوكب الزهرة ! تباركت يا إيلات ، المجد لك يا إيلات.
عزريائيل : ولكنها لن تعود.
مناة : ( بأعلى صوتها ) لا تصدقوه ، إن ملكتكم ستعود عما قريب.
عزريائل : لقد مسخت حجارة في ذلك الكوكب ، فهي باقية إلى يوم القيامة .
- إن التجريب المسرحي في سعيه إلى الجديد وإعادة التكوين يضبط البحث علاقته مع المأثور، والمسرحي في هذه الحالة باحث بطريقته الخاصة، تحكم بحثه قواعد الفكر والفن والإبداع. ولابد له من فترة تتبع واستقصاء للوثائق الضرورية قبل الدخول إلى المعمل المسرحي.
في مسرحيتي ” عرس حلبي وحكايات من سفربرلك” استمرت فترة البحث والاستقصاء أكثر من سنة، كنت أبحث عن دالاّت تقودني إلى الحاضر من خلال الماضي المستمر، وذلك في الكمّ الكبير الذي جمعته من الهنهونات والشديات والأمثال والحكايات والطقوس الاحتفالية من خلال الوثائق والالتقاء بمعاصري تلك الفترة. ثم بدأت مرحلة الاختيار الصعبة بما تتطلبه خطة الدراما والفكر في العمل. ربما تكمن الصعوبة في أن مأثورات معينة كأغنية شعبية أو حكاية وبحكم جماهيريتها تغريك بإدراجها في تركيبة العمل المسرحي لكن الشرط الدرامي والرؤية الفكرية تبعدها، ثم تجد أخرى أقل جماهيرية مكاناً لها، وهنا يقدم المسرح للمأثور خدمة في توسيع مساحة انتشاره.
وبما أنني قدمت في النص الأصلي المطبوع مادة واسعة مفتوحة على مرجعيتها كي أترك للمخرج حرية الاختيار والتجريب، لهذا حين قرر المسرح القومي بدمشق عام 1983 تقديمها اتصل بي المخرج محمد الطيب لإعداد النص وإعادة توضيب موتيفات العمل ومشاهده ليكون نصاً للخشبة، وكانت فرصة لي كي أعيد النظر في رسم أو تعميق بعض الشخصيات، فالفكر الإنساني متحرك باستمرار ضمن شروط زمانية ومكانية متبدلة.
المخرج الذي كان حريصاً على تقديم مادة شعبية في مشهدية محفوظة في ذاكرة الخشبة والواقع أكثر من حرصه على خوض مغامرة التجريب على المأثور نفّذ العمل في احتفالية جميلة لكنها بعيدة عن دهشة التجريب.