مقالات ودراسات

مسرحية “وأسميناه” وثنائيات الواقع المتعددة..  أ.د مجيد حميد الجبوري


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

 

              مسرحية (وأسميناه ..) وثنائيات الواقع المتعددة

                                                   أ.د مجيد حميد الجبوري

بعد مجموعتها الأولى (نزهة في الجحيم) التي ضمت خمسة نصوص مسرحية ؛ والتي أعلنت عن ولادة كاتبة مسرحية عراقية جديدة ؛ وولادة كاتبة مسرحية بصرية أولى ؛

 

 

بدأت الكاتبة المسرحية (نهاوند الكندي) مرحلة جديدة أكثر جدية وأكثر خبرة ونضجا ؛ إذ خرجت علينا  – مؤخرا – بنص  مسرحي جديد بعنوان (وأسميناه..!) سعت فيه بجدية وحرص كبيرين تجاوز الهنات وتصحيح العيوب السابقة ، وقراءة متأملة لهذا النص تفصح عن كاتبة يمكن أن تضع لها قدما ثابتة في أرض الأبداع المسرحي ، وتشير الى مؤلفة مسرحية يمكن أن تكون لها شخصية أبداعية مميزة ؛ فنص (وأسميناه…!) يُعد بحق نصاً متطوراً يناغم مع ما يمر به العالم في الوقت الرهن ، فالكتابة تتخيل وجود حرب كونية يخوضها العالم ليس بين قوى عسكرية وقوى عسكرية أخرى ، وليس بين تحالفات دولية ضد تحالفات دولية أخرى ؛ بل أن حربها الكونية المتخيلة تدور بين تحالف يمثله العالم كله ضد كائن لا يرى بالعين المجردة ؛ ولا يرى إلا بصعوبة بالغة بالمجهر ؛

 

 

ذلك هو فايروس (كوفيد 19) ؛ وأثناء هذه الحروب الضروس التي تشترك فيها كل الأسلحة من طيران ودروع وصواريخ وقنابل مختلفة وجيوش من مختلف بلدان العالم تحدث هدنة صغيرة ؛ يتحرك فيها الناس لقضاء ضروراتهم القصوى ؛ لكنها هدنة تقطعها بين الفينة والأخرى أصوات الانفجارات وأزيز الرصاص ؛ وتقطع أجواءها الطائرات المقاتلة مفرغة حمولاتها القاتلة على رؤوس الناس ؛ في وسط هذه الفوضى ؛ وفي وسط تعثر الناس بجثث القتلى المنتشرة في كل مكان؛ يدخل الى (بيت الرب) – كما تسميه الكاتبة – رجل دين يتبعه زوج وزوجته للبحث عن مكان آمن تلد فيه زوجته الحامل ؛ وقد ضغطت عليها أوجاع وآلام المخاض من جهة ؛ ورعب ما يجري من مجريات الحرب من جهة أخرى؛ بينما رجل الدين ينادي الناس لكي يعجلوا للدخول الى (بيت الرب)

 

بعد أن هجره أولئك الناس واصبح مكانا موحشا ؛ يبدو أكثر رعبا مما يجري في خارجه ؛ يعقب ذلك اقتحام جنرال عسكري مع ثلة من جنوده المكان وهو يطلب تفسيرا لتواجد رجل الدين في هذا المكان ويسأل عن هوية من هم معه ؛ ويبدو من خلال الجدال؛ أن هناك لقاءات سابقة بين الجنرال ورجل الدين ؛ إذ يتهم الجنرال ؛ رجل الدين بتواجده المريب كلما حدث أمر خطير ؛ وأن مثل هذا التواجد المريب يثير الشكوك ؛ إذ ربما يكون لهذا التواجد علاقة بما يجري في الخارج ؛ ولعل (رجل الدين) يكون سببا في إثارة هذه الحرب الكونية ؛ فيرد عليه (رجل الدين) بعنف دافعا عن نفسه هذه التهمة الخطيرة ؛ معلنا أن كل الحروب التي خاضها العالم سببها هم جنرالات الحرب ؛ وهكذا تدور حرب كلامية متوترة جدا بين الجنرال ورجل الدين حول أسباب الحرب الكونية التي تجري حاليا ؛ وتستمر هذه الحرب الكلامية المحتدمة طوال المسرحية دون أن يخرج منها منتصر أو خاسر ؛ وأثناء هاتين الحربين (الخارجية والداخلية) أو القتالية والكلامية يكون الزوجان تحت سطوة الطرفين ؛ فتارة يسحبهما الجنرال الى الخارج للتخلص من سطوة رجل الدين ؛ وتارة يسحبهما رجل الدين الى الداخل للتخلص من سطوة الجنرال ؛ أما الزوجان فيبدو أنهما مختلفان في موقفهما من الأثنين السابقين ؛ فعلى الرغم من انزعاجهما مما يجري من نزاع وبالرغم من رعبهما من الحربين الدائرتين ؛ غير أن موقف الزوج كان موقفا توفيقيا ؛ فهو يبطن كرهه للأثنين ؛ لكنه يبدي موافقته ورضاه دائما للجانب الأقوى مبررا موقفه هذا ؛ بأنه يريد أن يكسب الجانبين الى صفه من جهة؛ وأن يتجنب أذاهما من جهة أخرى ؛ أما موقف الزوجة فكان أكثر وضوحا ورفضا ؛ فهي تهاجم الأثنين ؛ وتسخر من أراءهما ؛ بل تدخل في مشادات كلامية معهما ؛ ولولا أنها حامل وعلى وشك الوضع ؛ لربما تلقت أذى كثيرا من الطرفين ؛ لتختم المسرحية بوضعها طفلا ، تحمله عاليا باتجاه السماء وتصدم المتلقي بقولها: (( اللهم أني نذرت ما أحمل بين يدي، قربانا خالصا لك، بسمه الذي أخترناه له ، في زمن الموت الأسود(صارخة) كوفيد)). وبذلك تحقق المؤلفة نهاية مفاجئة تكسر أفق التلقي ؛ وتشكل نهاية درامية صادمة.

إن أهم ما يلفت النظر الى هذه المسرحية من الناحية الجمالية ؛ هو أن كاتبة المسرحية اشتغلت على عدة ثنائيات ؛ أولاها ثنائية الوهم/ الحقيقة ؛ فهل هذه الحرب هي حرب حقيقة بين أطراف قتالية مسلحة ؛ أم أنها حرب خيالية مفترضة تدور في عالم افتراضي لا وجود له ؛ وعلى مستوى الواقع الراهن فأن الثنائية يبدو أنها تتخذ لها مساحة كبيرة في تفكير الكثير من البشر على الكرة الأرضية ؛ فالفايروس الذي ظهر لأول مرة في مطلع العام 2020 ينظر له البعض على أنه وهم مختلق لم يظهر لأسباب طبيعية ؛ بل هو فايروس مصنع في أحد المختبرات ؛ ومنهم من يؤكد بأنه فايروس ينحدر من عائلة فايروسات الأنفلونزا ؛ وأن جميع البشر معرضون للإصابة به وهو حقيقة لابد من التعامل معها بوصفها حقيقة وبائية يمكن لها أن تكرر في أي وقت من الأوقات وفي ظل أي ظروف تتيح لهذا الفايروس بالانتشار.

أما الثنائية الثانية التي تفصح عنها هذه المسرحية ؛ فهي ثنائية الدين/ السياسة ؛ ففي المسرحية صراع على البقاء والوجود بين الدين والسياسة ؛ وهو صراع بين ما هو مقدس وبين ما هو مدنس؛ وكل منهما يحاول القضاء على نفوذ الثاني ؛ فلا السياسة بكل نفوذها وسلطتها وقوتها العسكرية تستطيع التغلب على سلطة وقوة الدين المقدسة؛ ولا الدين بكل معتقداته وأفكاره وسطوته وتطرفه وعنفه بقادر على التغلب ؛ وإزاحة السياسة جانبا ؛ وهذا الصراع يجد صداه في الواقع ؛ بذلك الصراع الذي تخوضه العديد من دول العالم مع التنظيمات الإرهابية والمجموعات المتطرفة والمتشددة التي اتخذت من الدين واجهة أو ستاراً لممارسة جرائمها الإرهابية وضغوطاتها المتشددة والمتطرفة أينما حلت أو وجدت .

أما الثنائية الثالثة التي يفصح عنها نص مسرحية (وأسميناه..!) فهي ثنائية الداخل/ الخارج ؛ فرجل الدين يحاول إدخال جميع الناس الى (بيت الرب) بوصفه مكان للأمان والسكينة والاطمئنان مع كل الخراب الذي يشيع فيه ؛ بينما يدعو الجنرال الناس الى الخروج من هذا المكان والخلاص من سلطة رجل الدين ؛ لأن المكان هو مكان غير آمن ومعرض في أي لحظة للقصف أو التدمير ؛ وأن دعوات رجل الدين وابتهالاته لن توفر الحماية لهم ؛ وفي كلا الحالين فأن من هو في الداخل ومن هو في الخارج معرض للخطر ؛ فمن هو في الداخل مهدد بانهيار المبنى الخرب؛ ومن هو في الخارج معرض للقتل بسبب القصف وسقوط الصواريخ وانفجار القنابل ،  وعلى مستوى الواقع فأن النص يحاول التلميح الى صعوبة احتمال العيش في داخل الوطن بسبب الأزمات المتلاحقة والمستمرة التي يعاني منها المواطنين تحت ظل الفساد وقمع الأصوات وتشدد المتطرفين والمليشيات المسلحة ؛ وفي المقابل يحذر النص من الهروب الى الخارج والعيش في الغربة وفي مجتمعات لا تتلائم مع طبيعة المواطن الذي يعيش في وطنه الأصل ؛ لذلك فالمواطن يعيش بين نارين ؛ نار تلفحه في الداخل ، ونار تنتظره في الخارج.

على أن الثنائية الرابعة التي يطرحها هذا النص هي ثنائية المنتفض/ والتوفيقي ؛ فالأول تمثله في المسرحية شخصية (الزوجة) التي بالرغم من آلامها وأوجاعها فأنها تعترض وتنتقد وتنتفض على كل من رجل الدين والجنرال وحتى على زوجها ،ويقابل هذه المنتفضة؛ التوفيقي الذي يمثله في هذه المسرحية : (الزوج) الذي يحاول المهادنة والقبول بكل ما يعرض أمامه ويسعى الى تجنب المخالفة والاعتراض على أي موقف حتى وأن كان فيه إذلال وظلم له ولزوجته؛ علما بأن الأثنان يتعرضان الى نفس القدر من الظلم والحيف ؛ وهذه الثنائية لها ما يقابلها على مستوى الواقع ؛ فهناك المنتفضون الذي أعلنوا بأعلى الأصوات معارضتهم للأوضاع القائمة ؛ رافضين كل الفساد والظلم والحيف الذي لحق بجميع أفراد الشعب ؛فكانت مكافئتهم زيادة في الظلم والتعسف الموجه ضدهم ؛ بل اصبح مصيرهم  معلق بين الاختطاف والاغتيال والملاحقة والمطاردة ؛اما الطرف الثاني فيمثله الأغلبية الصامتة التي بالرغم من تعرضها للظلم والتعسف ؛ غير أنها بقيت صامتة خائفة ؛ وغير قادرة على الاعتراض ؛ مرتضية قبول ما تتعرض له ؛ وقانعة بتوفيقية مذلة ؛ خوف أن تتعرض الى ظلم أو تعسف أكثر.

أما الثنائية الخامسة التي يمكن ملاحظاتها فتلك المفارقة التي تتضمنها ثنائية الأضعف/الأقوى ، فالمسرحية تجعل من الأضعف المتمثل بالفايروس الذي لا يرى بالعين المجردة ولا يكاد يرى بالمجهر هو الأقوى القادر على هزيمة وقتل الأنسان الذي هو ككيان ووجود يُعد الأقوى والأقدر على حل كل المعضلات ؛ والأقدر على اجتياز كل الصعوبات لكنه يظهر هو الطرف الأضعف في هذه المعادلة ؛ وهذه الثنائية انعكست في الواقع مثل ما انعكست في المسرحية ؛ فالواقع والمسرحية أحدهما يحاكي الآخر بالنسبة لهذه الثنائية ؛ فقد أستطاع هذا الكائن الضئيل من هزيمة كل البشرية على صعيد المعمورة .

أضافة الى ما تقدم فان قراءتنا لهذه المسرحية وجدت أن كاتبة المسرحية تحررت من خطاب المونودراما ذات الصوت الواحد الذي كان سائدا في مسرحياتها السابقة ؛ لتكتب نصا يندرج تحت خانة الدراما المستوفية لاشتراطاتها الفنية الضرورية. كما أن النص يقدم رؤية تنبؤية لما هو محتمل الوقوع مستقبلا ؛ إذ يلاحظ وجود مؤشرات سياسية عالمية – حاليا – تتحدث  عن إمكانية حدوث حرب بين دولتين من دول العالم العظمى ؛ كواحدة من النتائج التي سوف تفضي لها جائحة (كورونا) ؛ فكثير من التحليلات السياسية والفكرية الدولية تشير الى ما تنبأت به الكاتبة ؛ وهذا ما يعلي من شأن الكاتبة ويمنحها سمة تشوف المستقبل والتنبؤ بأحداثه المستقبلية ، وهذه من سمات الكتاب ذوو الحس العالي بالمسؤولية الثقافية والمجتمعية المعاصرة لزمنهم وواقعهم.

ومن الملاحظات الفنية الإيجابية عن هذا النص ؛ أن الكاتبة تخلصت كثيرا جدا من الخطاب السردي الإخباري الذي كان يهيمن على خطابها المسرحي في نصوصها السابقة ، واقتربت كثيرا من الخطاب الدرامي المشوق؛ الذي يتوفر على قدر كبير من التوتر الدرامي ؛ الذي يثير أنتباه المتلقي ويزيد من اهتمامه وترقبه.

وأخيراً فأن خاتمة المسرحية تضمنت مفاجأة مدوية تكسر أفق التوقع ؛ عندما تصرح الزوجة بتسمية وليدها بأسم (كوفيد) ؛ ما يشكل صدمة للمتلقين وتجعلهم يتذكرون المسرحية ونهايتها لفترة طويلة.

أ.د مجيد حميد الجبوري

                                                                     8/2/2021


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock