العراقي وسام عبد العظيم عباس يكتب: كيف يمكن للراديو أن يلتحق بالتطور الرقمي الفائق؟!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات
ـ
وسام عبد العظيم عباس
فكرت كثيراً وانا متجه الى العرض المسرحي، (الراديو) اخراج محمد حسين حبيب وتأليف كين تسارو-ويوا ، الذي قُدم في جامعة بابل كلية الفنون الجميلة بتاريخ 1/6/2021، وقلت ماذا سيقدم العرض من جديد والاستعارة الاسمية له كادت ان تنقرض، كيف سأتفاعل مع عرض مسرحي اسمه راديو، ازاء التطور التكنولوجي الفائق ومغرياته المتاحة في متناول اليد كالسينما وما تعرضه من اعمال عالمية، فضلاً عن مغريات الصورة البصرية للعروض الاستعراضية واشكالها الماتعة التي ترتكز على التقنيات الرقمية والاضاءة الليزرية، بالإضافة الى الألعاب التفاعلية التي هي في كثير من الاحيان اكثر ابهاراً مما يُقدم في عديد من العروض المسرحية ، وما عزز في خاطري هذه الفرضية، تَصَوري ان اغلب شخصيات العرض تنتمي لإيقاع جيل السبعينات، الذي لا ينسجم كثيراً مع الجيل المعاصر والمزاج الذي يعيش فيه ، فتبادر في ذهني ، وأذهان ممن يفكرون بطريقتي.
إننا سنشاهد عرضاً تعليمياً / تربوياً/ مدرسياً بامتياز، وهذا ما لا يمكن ان يقدم لنا المتعة او الإشباع الخيالي بوصفه قائم على وظيفة معينة، بالإضافة الى ان اغلب الممثلين في العرض هم من الذين لديهم خبرة في مجال المسرح المدرسي ومتضلعين فيه ، فافترضت ان اشتغالاتهم السابقة ستتمظهر في الراديو ، وكل المعطيات تؤكد هذه الفرضية ، ابتداءً من تصميم بوستر العرض الذي يُشير صراحة لصورة الراديو/ المذياع هو نفسه لا لشيء اخر يمكن ان يكسر افق توقعي، بقي هذا التصور حتى لحظة دخول القاعة وما زاد على ذلك؛ واقعية الصورة الاولية للعرض والمباشرة المقدمة على الخشبة من خلال بعض الادوات والاكسسوارات التي تظهر، كون الستارة لم تفصل بين الخشبة والصالة ، فهي مفتوحة منذ البداية ، فضلاً عما يعلنه المخرج في شاخصة العرض، ان مدة العرض ستين دقيقه ، قلت في نفسي يا له من عذاب .
بدأ العرض بمشهد استهلال عَرفَ من خلاله المخرج، طبيعة شخصياته التي ستُدير دفة العرض، وكَشَفها لنا مرة واحدة، فتنوعت بين البائع ( حسنين الملا) والموظف(علي التويجري )، وصاحب الدار(مهند بربن) ، والنزلاء الذي فيه (احمد عباس ، ومحمد حسين حبيب) ، ثم يستمر العرض ليكشف عن شخصيتين رئيسيتين/ النزلاء ، امتازت صفاتهم بالكسل والملل والفقر ، وعدم الارادة ، فهما نموذج للإنسان المتقاعس العاجز عن مجابهة المجتمع والانخراط فيه ، تدور احداث العمل في غرفة تنقصها جملة من مقومات العيش الكريم، ليس لديهم ما يفعلوه سوى ان يقضوا الساعات من اليوم في نقاشات لا طائل منها يختلفوا في بعضها و يتفقوا في الاخر ليس عن قناعة انتجها الحوار انما لمصالح خاصة، وهكذا تنتهي لديهم الايام ، ويتهربوا نهاية الشهر من صاحب الايجار باستخدامهم شتى انواع الكذب والخديعة والاحتيال.
على الصعيد الفني لجماليات العرض امتازت الصورة البصرية بمنطقتين الاولى اشبه بمنصة مرتفعة عن خشبة المسرح تتوسطها شخصية مستمعة للأحداث عبر الراديو، قدمها(علي العميدي) التي ظهرت منذ الوهلة الاولى للعرض حتى نهايته، ما يحسب لصانعها ان هذا التشكيل اعطى شكلاً بصرياً مغايراً عزز من تأثيث فضاء العرض، وما يحسب عليه عدم توظيفها بشكل فاعل، اذ بقيت اشبه بالصورة الثابتة طوال فترة العرض ولم يتم تفعيلها والممثل الذي فيها الا في حركة بسيطة تُشير الى تغير موجة الراديو وهي غير كافية، وقد كان بالإمكان ان تتداخل مع القسم الاخر على خشبة المسرح عبر تعليقه على الاحداث سلباً او ايجاباً ، او تفعيل ادائه مع الراديو بوصفه ناقلاً لحركة النزلاء وما يحدث معهم وهذا بطبيعته يمكن ان يزيد من فاعلية الصورة البصرية للعرض .
والقسم الاخر هو المنطقة الثانية على الخشبة بوصفها غرفة للنزلاء، جاء تأسيس المكان والصورة الاخراجية فيه بشكل اعتمد الواقعية في منطلقاته وكل ما قُدم فيها بصورة واقعية بدءاً من الازياء الى الديكور والاكسسوارت، اذ تم توظيف السرير/ المنضدة/ المغلاة/ الراديو /الشاي/ الاكواب وتدور الاحداث وكأنك تسمع النص لا ان تشاهده ما اعطى الحيز الاكبر للمنطوق على حساب الصورة البصرية للعرض ، ولعل الغاية من تقديم العرض بشكله الواقعي هو لان المخرج مدرس لمادة الاخراج في الكلية، اذ اراد ان يبين لطلبته والمشتغلين في المسرح ان العرض يمكن ان يُقدم بشكل واقعي بالاعتماد على حرفية المخرج ومهاراته رغم كل ما للتقنية من ابهار جعل من البعض يتصور انها اطاحت او يمكن ان تطيح بالعرض المسرحي الذي يعتمد على تقنيات الممثل الاعتيادية وتقنيات المسرح التقليدية، اذ اثبت مخرج العرض ان المسرح يمكن ان يُقَدَم بواقعية رغم العصف التكنولوجي الذي اعاد صياغة الفنون بمجملها، وما يحسب له ولـكادره الدرجة العالية من الاتقان والاهتمام بأدق التفاصيل على خشبة المسرح، إذ سار كل شيء بانتظام وانضباط عال، رغم كثرة التفاصيل التي يستخدمها الممثلين ، الا ان كل شيء تم توظيفه بشكل منسجم مع الشكل العام للصورة البصرية وحركة الممثلين فيها ، وما زاد من فاعلية العرض هو الترابط الوثيق بين اجزاءه الذي جعل من ايقاعه متدفقاً لم يسمح لاذهاننا كمتفرجين ان تغادر ولو لثوان خارج ما يحدث في الخشبة على مدى ستين دقيقة وهذا ما لا يتحقق بسهولة الا اذا كان للعرض منطق يساعدنا على متابعة احداثه وتفسيرها لان متعة المسرح مركبة تحدث نتاج المزج بين المراقبة والتفكير والانفعال، والتسلية ،استمرت وتيرة العرض بالتزايد رغم اعتماد الممثلين على تقنياتهم الاعتيادية وما متاح من اكسسوارات دون اي معززات رقمية سانده. و ان الحركة المنضبطة للممثلين وتعاملهم مع مكونات العرض التقنية وترابط اجزاء المَشْاهد مع بعظها والشخصيات جعل من العرض يسعى الى تحقيق الهدف الاعلى وخط الفعل المتصل الذي نادى به المخرج الروسي الكسي بوبوف عبر تحقيق السمترية والترابط المنسجم بين الممثلين ومكونات العرض
اما المنظومة الادائية للممثلين فلها الكفة الاكبر من جماليات العرض، وقد فاقت عمل المخرج في انشاء الصورة البصرية اذ امتازت الشخصيات بتنوع ادائي لافت، واجتهاد واضح في مجمل الشخصيات المقدمة ، لا سيما شخصية (الآلي) التي مثلها ( احمد عباس) ولشدة أدائه المتدفق اعاد في ذاكرتي تساؤلاً فحواه ماذا يفعل الممثل حتى يصل الى جماليات الاداء وذروته ؟ ، ماذا يفعل الممثل في لحظات التجلي الذي تجعلنا كمتفرجين نشعر بتلك النشوة ونتفاعل مع ادائه ؟ اذ قدم جملة من الاداءات المختلفة في آن واحد ، كان جائعاً فأشعرنا بصراع احشاء معدته ، صار ثملاً زكم انوفنا برائحة الخمر، ثم اميراً ليغمرنا برهبة الحكام وعظمتهم ، فضلاً عن صمته المدقع الذي نقلنا الى عوالم خارج فضاء العرض لحظة اكتشافه اقرب الناس اليه (باسي) يمارس الحيلة والكذب والخديعة حينما انتحل صفة رسمية غير صفته وخدع الاخر بها ، فجاء ادائه اشبه بالعصف الذهني الذي جعل من صمته كلام منطوق . ومن خلال مشاهدتي لـ (احمد عباس) بوصفه ممثلاً ازعم ان هذه الجماليات جاءت نتاج جملة من الفواعل :
- الدقة في تفعيل تقنياته الصوتية والجسدية بشكل مهاري عال، وهذا تبلور نتيجة للخبرة المتراكمة و التمرين المستمر للممثل .
- الجهد الادائي الواضح في تحقيق تطابق الفعل الداخلي مع الفعل الخارجي للشخصية .
- الوعي في العمل مع نفسة بوصفه( احمد) ومع الشخصية التي مثلها ( الآلي) وجعل مسافة بينهما .
- تطابق الفعل الادائي لمهاراته العقلية وخياله وانفعالاته ، مع الفعل الخارجي للجسد .
أما اداء الممثل ( محمد حسين حبيب ) فانه وْسِم بالاستراخاء العال والتلقائية في الفعل ورد الفعل، ورغم ما لهذه الصفات من اهمية في الاداء الا انها اوقعته في مطب اخر، اذ انه لم يعطي للشخصية التي مثلها نمطاً معين او سلوكاً خاصاً بها كما فعل اقرانه الممثلين في الشخصيات الاخرى من العمل ذاته ، فضلت شخصيته دون ملامح واضحة ، ولشدة استرخائه غالباً ما كان ينقل حركاته اليومية الاعتيادية المألوفة نفسها على خشبة المسرح ، كظرب كلا يديه مع بعظهما (وهي تصفيقةٌ واحده) في اطراف الاصابع وقد تكررت لأكثر من مره دون تبرير واضح ، فضلاً عن ايقاع شخصيته الذي لم يكن ينساق بوتيرة منتظمة ، فتمظهر ذلك من خلال جملة من الحركات التي تم رصدها ، عبر وضع يديه في جيوب بنطاله ، وتارة اخرى يلفها على ذراعيه وكانه حائراً بها ، ما اعطى انطباعاً غير راكز عن شخصيته، كما بان جلياً عدم اعتماده هيئة واضحة للشخصية التي مثلها في مشهد الرقص الذي قدمه ، فاذا افترضنا ان هذا الاداء للشخصية العفوية التي فيها شيء من شخصية الممثل (محمد حسين حبيب) فهي غير منسجمة مع هيئته وعمره ، لذا كان الاجدر ان يرسم ملامح واضحة لشخصية (باسي) وخطاً يتفرد به عن شخصيته كممثل، وربما يعود السبب في ذلك للوظيفتين المناطة به (المخرج و الممثل) الذي يؤديهما في آن واحده اما على صعيد اداءه الصوتي فقد امتاز بالقوة والوضوح والثبات.
فيما جاءت شخصية صاحب الدار التي قدمها الممثل (مهند بربن) بوصفه سانداً للحدث الرئيس داخل العرض، فقد ساقنا معه ببراعة وحرفة وجعلنا نعتقد انه ثملٌ حقاً، لكن سرعان ما كسر خط فعل الشخصية بمخاطبته لمنفذ التقنيات عبر اعتماده تقنيات الاداء الملحمي، فتحول من ذلك الشخص الثمل الى الشخصية الواعية الراكزه التي وجهت خطابها عبر اللاقص الصوتي بنبر شجي ليكسر التماهي الذي قد يصل بين الشخصية والمتفرجين .
وقد سار على النهج ذاته شخصية رجل الامن الذي جسدها الممثل ( علي التويجري) ولا يؤخذ على ادائه الا في مشهد التوسل لشخصية الضابط التي انتحلها (باسي) من خلال كثرة التوسل وطلب العفو ( ارجوك يا سيدي … سامحني ياسيدي) فقد تكررت مراراً وكأن هناك ضعف في بنية النص لم يتم تداركها من قبل الممثل او المخرج ، وقد كان بالإمكان تعضيد المشهد بحوارات اخرى . وكذا الحال بالنسبة لشخصية البائع الذي قدمها ( حسنين الملا) بوصفها ساندة للشخصيتين الرئيسة في العرض ، فقد كان لهم الفضل في تعزيز ايقاع العرض وتنوعه .
اما على صعيد التنفيذ التقني للإضاءة والصوت فقد وفْقَ كل من (علي عادل) و( علي المطيري) بالتنفيذ المنضبط الذي سار مع ايقاع الممثلين والشكل البصري للعرض .
وان ازدياد وتيرة ايقاع ( الراديو) وتماسكه طوال الستين دقيقة بعرض امتازت خصائصه الادائية والبصرية( بالواقعية) هو الذي عزز الاعتقاد بان الراديو يمكن ان يلتحق بالتطور التكنولوجي الفائق.