مقالات ودراسات
الناقد المغربي د. أحمد بلخيري يكتب: “العلامة والمسرح*
المسرح نسوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
د. أحمد بلخيري
فتحت السيميائيات آفاقا واسعة لتطوير البحث المسرحي عند الغربيين، فظهرت سيميائيات المسرح باعتبارها فرعا من السيميائيات. وعلى غرار السيميائيات بصفة عامة، فإن سيميائيات المسرح تدرس العلامة. لكن العلامة التي تدرسها هذه الأخيرة هي العلامة المسرحية بشقيها الدرامي والفرجوي.
وطاديوز كاوزن TADEUZ KOWZAN البولوني (1922-2010) من رواد البحث السيميائي في مجال المسرح. من كتبه في هذا الميدان كتاب “سيميائيات المسرح”1. يتكون هذا الأخير من مائتين وثلاث صفحات موزعة على أربعة عشر فصلا كانت عناوينها على النحو التالي:
1- العلامة والمسرح
2- نظريات العلامة
3- علامات طبيعية/علامات اصطناعية
4- علامات حوافز/علامات اعتباطية
5- علامات اتفاقية
6- تواصل مسرحي
7- نموذج السيميوز المسرحي
8- أيقنة أو محاكاتية؟
9- مرجع ومرجعية
10- تعدد وغموض العلامة
11- استعارة واستعارية 12- رمز ورمزية
13- قيمة جمالية وقيمة وعاطفية للعلامة
14- خاتمة
هذا علاوة على بيبليوغرافيا، وفهرس خاص بالأسماء، وآخر خاص بمواد الكتاب. عنوان الفصل الأول هو “العلامة والمسرح”. افتتحه كاوزن بالإشارة إلى اثنين غير ميتين هما العلامة أو بالأحرى، حسب استدراكه، نظرية العلامة والمسرح. ثم تحدث عن القول المأثور وهو أن السيميائيات ماتت وكذلك العلامة. لقد كان هذا القول تقريبا موضة في اصطلاحي سيميائي معين في الستينيات والسبعينيات من قرننا، حسب قوله، أي القرن العشرين.
وهو يرى أن بعض العقليات، التي سماها “المابعديات”، قد ابتذلت السابقة بعد (Post-) حيث يوجد سيل من المصطلحات مثل ما بعد حديث، ما بعد حداثة، ما بعد تحديث، ما بعد البنيوية، ما بعد السيميائيات، وحتى ما بعد مابعد حديث (Post-Postmoderne) ومابعد الطليعة.
رفض كاوزن هذا من خلال المتن والهامش أيضا. ففي المتن قال إنه رغم تلك المابعديات، ومنها ما بعد السيميائيات، فإن علم العلامة هو في أفضل أحواله أكثر من ذي قبل حتى لا أقول إنه في أفضل حال بشكل جيد. أما في الهامش فأشار إلى أن عينات كثيرة قد وُضعت من لدن فلاديمير كريسينكي Vladimir Krysinki في تواصله “سيميوزيس سابقة “حداثة”” في المؤتمر الرابع للجمعية الدولية للسيميائيات في أبريل 1989. هذا التعسف، حسب قوله، الاصطلاحي أثارته أيضا مزحة باتريس بافيس “من يقول مابعد حداثة يقول حداثة ومن يقول حداثة يقول كلاسيكية”. ماتت العلامة، تحيا العلامة. تسجل البيبليوغرافيا الخاصة بالسيميائيات خلال هذا العقد فقط من 1975 إلى 1985 حوالي إحدى عشرة ألف حالة.
وإذا كنت قد قلت، يقول كاوزن، إن علم العلامة هو ربما في أفضل حال بشكل جيد، فذلك لأنه يمتد في مجالات متنوعة أيضا من علم الأحياء (البيولوجيا) وألعاب المجتمع، التسويق (الماركوتينغ) واستراتيجية صراع نووي، الكيمياء والتحليل النفسي، الإثنولوجيا والديزاين، الفيسيولوجيا العصبية والعلوم السياسية، صناعة السيارة وعلم الوراثة، الحقوق والبَسْتَنة، رسم الخرائط والتنبؤ بالوَرق .(Cartomancie) وكان سيميائي شهير قد قال:”السيميائيات قطار يمر، هناك أشخاص يركبونه وهناك آخرون يغادرونه. لكن القطار يسير”.
هذا القطار هو في حالة سير منذ القديم. المحطات التي سجلت مساره هي غالبا أسماء مشهورة: أفلاطون وأرسطو، القديس أوغسطين وأبيلار، روجيه بايكون وأوكام، فرنسيس بايكون والنحاة المناطقة لبورت روايال، لوك وليبنتز، بيركلي وهاريس، كوندياك وهيجل، وأخيرا بورس وسوسور لكي لانتجاوز بداية القرن العشرين. القطار يواصل سيره، وسيواصله قريبا إلى نهاية الإنسانية أو، على الأقل، إلى نهاية حضارتنا كما يقول كاوزن. مات المسرح، عاش المسرح. نهاية المسرح، باعتباره شكلا فنيا وباعتباره شكلا لملء وقت الفراغ، تم التنبؤ بها بانتظام منذ القديم عند الرومان. وقد أبرز هذا الموضوع مأساة حادة في عصرنا. ذلك أننا شاهدنا مؤلفات درامية تعلن نهاية المسرح أو نهاية مسرح.
ومع ذلك، رغم ميلاد وازدهار السينما، ورغم الحضور الواسع للتلفزة (أو ربما بفضل التلفزة)، فإن الظاهرة المسرحية هي في أفضل حال أكثر من ذي قبل على الأقل كميا: فرجات عديدة دائما تمت مشاهدتها دائما من لدن جمهور واسع أكثر من السابق. إن التأمل في العلامة والتأمل في المسرح كانا حاضرين منذ بدايات الفكر الفلسفي والجمالي في الحضارة الأوروبية. وما كان معروفا بشكل أقل هو أن الإثنين معا ارتبطا في كتابات كثير من الفلاسفة والمنظِّرين بدءا من أفلاطون وأرسطو. إن مصطلح العلامة ارتبط بعدد من مظاهر الفرجة عند القديس أوغسطين وفرنسيس بايكون، وميشيل دو بور Michel de Pure، وجان بابتيست دي بوس Jean- Baptiste Du Bos ، وشارل باتو Charles Batteux، وجوزيف ماري دوجيراندو Joseph-Marie Degérando (أو جيراندو Gérando).
وإذا كانت هناك مراجع قليلة تتعلق بالمسرح في كتابات بورس وسوسور، فإن بعضا من الذين جاءوا بعدهم يشهدون على الفائدة غير اليسيرة للظاهرة المسرحية. فطيلة هذا العقد 1931-1941 ظهرت دراسات أكثر انتظاما ربطت المسرح بعلم العلامة في تشيكوسلوفاكيا: دراسات أوتاكار زيش OTAKAR ZICH ، وجان موكاروفسكي JEAN MUKAROVSKY، وبيتر بوغاتيريف PETR BOGATYREV، وجندريش هونزل JINDRICH HONZL. لكن عددا من هؤلاء المؤلفين كانوا يعرفون جيدا المسرح دون امتلاكهم للكفاءة في السيميائيات، بينما بالنسبة للآخرين كان العكس هو الحقيقة. كاريل بروساك KAREL BRUSAK، وجيري فلتروسكي JIRI VELTRUSKY هما وحدهما اللذين كانا يشعران بالراحة في المجالين معا،
لكن ذلك في 1939-1940 في بداية الكارثة العالمية. بعض الجمل لرولان بارت ROLAND BARTHESمنذ 1956، وخصوصا بعض الصفحات المنشورة سنة 1963 (مع إلهام مؤكد حيث”أسس المسرح سيميائيات جيدة”) كانت بمثابة مفجر: إن الرغبة في الارتقاء بسيميائيات للمسرح ستظهر. فيما يخصني أنا، يقول كاوزن، امتطيت قطار السيميائيات سنة 1966بعد قراءة كتاب عناصر السيميائيات لبارت. وقدت نفسي مباشرة نحو عربة “مسرح” في هذا القطار محاولا تطبيق بعض المكتسبات الخاصة بعلم العلامة في مجال كان عندي غاليا منذ مدة طويلة. النتيجة الأولى الملموسة في هذه المسيرة مقال منشور في ديوجين (رقم 61، يناير-مارس 1968) عنوانه “العلامة في المسرح مدخل لسيميائيات فن الفرجة”.
هذا البحث تم تطويره ليكون الجزء الثالث من كتابي “أدب وفرجة” (1970، الطبعة الثانية 1975) “في عالَم العلامات”. حسب تعبير كاوزن السابق، فإن هناك عربات أخرى في هذا القطار لغير المسرح تتعلق بميادين ومجالات أخرى. منذ 1970، كان خمسون كتابا مكرَّسا ، كليا أو جزئيا، لسيميائيات المسرح باللغة الفرنسية، والإيطالية، والألمانية، والإنجليزية، والإسبانية، والتشيكية، والبولونية، واليونانية. أما المقالات في المجلات المتخصصة وغيرها فكانت بلا عَد، والتعليم الجامعي المتخصص تطور في عدد من بلدان العالم. إنها الآن ساعة التركيب يقول كاوزن. والكتاب الذي وضعته رهن إشارة القراء هو ثمرة تأمل استغرق عقدين من الزمان، وتميز بعشرين دراسة عالجت جزئيا هذا المظهر أو ذاك الخاص بالفن المسرحي من منظور نظرية العلامة. وعن ثنائية سيميولوجيا-سيميائيات قال كاوزن إنه من الضروري توضيحها. فمن المعلوم أن هذه الثنائية تُفسَّر أساسا بوجود مصدرين: سوسور (فرانكوفون FRANCOPHONE)) وبورس (أنجلوفون ANGLOPHONE).
وقد كانت هناك قدرة على الاستفادة من وجود هذين المصطلحين ،سيميوطيقا-سيميولوجيا، في كل اللغات من أجل التمييز بينهما. فهناك كُتاب رغبوا، على سبيل المثال، في جعل كلمة سيميوطيقا خاصة بنظرية أو العلم العام للعلامة، وجعل كلمة سيميولوجيا خاصة بتطبيق هذه النظرية في هذا المجال أو ذاك. لكن هناك آخرون كان لهم تطبيق معكوس: سيميولوجيا=علم عام، وسيميوطيقات خاصة أو متخصصة. خطأ عدم التوافق حول هذه النقطة كان واسعا جدا، كما يفعل اليوم عدد كبير من السيميولوجيين-السيميوطيقيين للتمسك بهذين المصطلحين باعتبارهما غير قابلين للتبادل. وإذا كان اختياري الشخصي، يقول كاوزن، يسير في اتجاه “سيميولوجيا” (لا يجب أن ننسى القاعدة السوسورية: “علم يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية”، فإنني سأستعمل، في هذا العمل كله، دون تمييز “سيميولوجيا” و”سيميوطيقا” (وكذلك “سيميولوجي” و”سيميوطيقي”) مع وضع أحيانا المصطلحين جنبا إلى جنب، تتوسطهما عارضة (-)، بهدف تسجيل رغبة توحيدية اصطلاحية بينهما. تدقيق آخر يتعلق بمصطلح “مسرح” منظورا إليه في تعدديته لاسيما في فرنسا. إنه يشمل الأدب الدرامي من جهة، والفرجة أي العرض المسرحي من جهة أخرى. باستعمال هذا المصطلح فأنا أشير، يقول كاوزن، إلى هذه وذاك، تارة إلى هذا وتارة أخرى إلى ذلك مع محاولة إفهام دائما عن أي ظاهرة منهما يتعلق الأمر.
ويبدو لي أنني ألححت بما فيه الكفاية حول ضرورة التمييز بين الأدب الدرامي والفرجة تفاديا للخلط بينهما. لقد تجنبتُ، قدر المستطاع، ابتكار كلمات جديدة، المرض الخطير للعلوم الإنسانية في عصرنا إلى حد الإفراط الاصطلاحي. الاتجاه الاصطلاحي لعدد من الكتاب ذهب بعيدا بحيث يستحيل متابعتهم دون استحضار معجمهم الشخصي. إن المفردات الموجودة تبدو لي غنية، يتعلق الأمر فقط بحُسن اختيار المصطلحات واستخدامها بصرامة مع التقيد بمنطق داخلي. وهناك ابتكار اصطلاحي واحد، يتعلق الأمر بكلمة Sémique2، وهي كلمة ليست جديدة، بشكل دقيق،
لكنني استعملها بمعنى جديد تقريبا. إنها تستعمل هنا لملء فراغ يمكن الشعور بع في علم المصطلح الفرنسي: يتعلق الأمر بالحصول على صفة انطلاقا من مادة “علامة”. أما الأنجلوفونيون فليس لديهم هذا المشكل لأنهم يستعملون اسم SIGN صفة (SIGN FONCTION, SIGN PROCESS) . وللإيطاليين صفة SEGNICO المشتقة من SEGNO (علامة). ماهي مكانة ودور سيميائيات المسرح داخل علم العلامات كما تُقدَّم في عتبة3 القرن الواحد والعشرين؟. كانت اللسانيات خلال عقود من الزمن بمثابة اختصاص –مِصباح، والسيميائيات هي اليوم واعية بخصوصيتها التي تعود إلى تعدد وسائل التعبير، واختلاف المواد المستعملة، وتعدد المستويات المتزامنة في التواصل. إن الفن المسرحي هو، بين كل الفنون، وربما بين كل مجالات النشاط الإنساني، الذي تظهر فيه العلامة الأكثر غنى حيث التنوع والكثافة. إن المسرح يستعمل الكلام مثلما يستعمل أنظمة للدلالة غير لسانية. فهو يستعمل علامات سمعية وبصرية أيضا. إنه يستفيد من أنظمة العلامات في التواصل بين الناس وتلك التي يتم ابتكارها لحاجة النشاط الفني إليها. إنه يستعمل العلامات الموجودة في كل مكان: في الطبيعة، في مختلف المهن، وفي كل مجالات الفن. عمليا لا يوجد نظام للدلالة غير قابل للاستعمال في الفرجة، ولا وجود لعلامة غير صالحة للاستعمال فيها.
لهذا السبب يمنح المسرح مجالا خاصا ملائما لمجابهة العلامات الأكثر تنوعا في دراسة السيميوز Sémiose أي اشتغال العلامات في الحياة الاجتماعية. أخيرا، هذا إعلان للقارئ. إذا كانت نظرية العلامة لا تهمك حقيقة أو، بالعكس، إذا كنت تعرف عن ظهر قلب سوسور SAUSSURE وبورس PEIRCE ومُنظِّرين آخرين يمكنك المرور مباشرة إلى الفصل الثالث. ستعود، احتمالا، إلى الفصل الثاني أثناء القراءة أو بعد الانتهاء منها. لكن يبدو لي، يقول كاوزن، من الناحية المنهجية، أن هذا الفصل، ذا الخاصية التاريخية، مبرَّر، بل لا غنى عنه. هذه هي الأفكار التي تضمنها الفصل الأول من كتاب “سيميائيات المسرح” لطاديوز كاوزن. وهو كتاب جدير، في نظري، بالقراءة والاستفادة منه من الناحية المنهجية.
والجدير بالإشارة هو أنه توجد في البحث المسرحي اليوم كتب تتعلق بسيميائيات المسرح منها كتاب “سيميائيات المسرح”4 لمحمد التهامي العماري وهو أيضا كتاب جدير بالقراءة. وكنت قد أنجزت دراسة عن سيميائيات المسرح في البحث المسرحي العربي ستنشر لاحقا.
هوامش:
*هذا هو عنوان الفصل الأول من كتاب كاوزن المذكور في الهامش أسفله.
1-TADEUSZ KOWZAN, Sémiologie du Théâtre, Nathan, 1992 2-تمت ترجمة Séme ب”وحدة معنوية دنيا” في كتاب “السيميائية المعجم المعلل في نظرية اللغة” لألجيرداس جوليان غريماس وجوزيف كورتيس، الدار المتوسطة للنشر، تونس، 2020، ص 623، ترجمة أحمد الودرني ومراجعة شكري السعدي.
3-نُشر كتاب كاوزن، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، سنة 1992. 4-محمد التهامي العماري، سيميائيات المسرح، دار الحوار، اللاذقية، سورية، ط 1، 2021. . .