العراقي “يوسف العاني” حياة في المسرح ..لم يدفعه المنفى إلى التغريب في نصوصه 2 / 1
عبيدو باشا
كاتب وناقد مسرحي من لبنان
ـ
ليس للدم صوت. طاف الدم بالعراق على مدى عقود طويلة. لا يزال المسرحي العراقي ، مع ذلك، يمتلك شهوة العمل بالمسرح. لن يسمي المسرح خطأه، لأنه جره من عشرينيات القرن الماضي إلى عشرينيات القرن الراهن ، القرن الحادي والعشرين. وعلى جري العادة، لعبت المسرحيات الأولى بالعراق، كما بالدول العربية الأخرى، في الصالات السينمائية، لأن الصالة المسرحية غيبت باستمرار في المخططات التوجيهية الأولى بالمدن العربية. لا حضور للمسرح في العقل العربي، بذلك تشي غيابات الصالات المسرحية ومحاولات تدوير حضور الصالة السينمائية على حاجات المسرحي. عروض كراكوز وعيواظ في أول الأمر، بمجاورة حفلات طرب شعبي وقراءة مقامات. أبرز من قرأ المقامات في العشرينيات ،الأخوان عكار ورشيد القندرجي.
قدمت العروض البدائية، على مجموعة من المنصات المرتجلة في «ملهى أوبرا» و«مقهى سبع» (الآن مقهى البلدية) و«أولمبيا سينما». محركون أتراك وموسيقيون يهود مع راقص وقراء مقامات عراقيون وعروض سينمائية نادرة اتهم قاصدوها بالزندقة. عام ١٩٢٤، أسس محمد خالص الملا حمادي أول فرقة مسرحية بتاريخ العراق، قدمت «هارون الرشيد» على مسرح بدر السعادة. غير أن الممثلين ، لم يحضروا يوم العرض، ما عدا خضوري يهودي، ما اضطر حمادي إلى لعب كل الأدوار، حتى ضج الجمهور به، ما دفعه إلى الهرب من غضبهم. قدم الرجل مسرحية أخرى. ثم انكفأ. بيد أن المسرحية الثانية، عايدة، شهدت ظهور أول ممثلة مسرحية على خشبة المسرح، عناية الله محمود.
إثر ذلك، تأثر العراقيون بزيارات الفرق المصرية، أبرزها فرقة جورج أبيض وفرقة فاطمة رشدي وزوجها عزيز عيد، حتى تسنى لهم ، الإستقلال عن تأثيرات التجارب الخارجية، مع تأليف بعض الفرق ذات الأسماء البارزة بتاريخ العراق. الفرقة الوطنية مع حقي الشلبي وجمعية إحياء الفن والفرقة العصرية وفرقة المعهد العلمي التمثيلية،الفرقة العصرية والفرقة الشرقية مع صبري شكوري. وجمعية انصار التمثيل. وجد المسرح العراقي قنديله الضائع بتلك الفرق، بدون أن يجد نار القنديل، حتى الخمسينيات ،
حيث راحت اسماء الفرق تزيد وتزدهر وتزيد اسماء المسرحيين، الأشبه بالمخلوقات الباحثة عن طبائع اللغة المسرحية، ثم في طبائع اللغة. هكذا ، خرجت التجربة إلى مداها الأرحب مع الكثير من الكتاب والممثلين والمخرجين الطليعيين، من صلاح القصب إلى قاسم محمد وبدر حسون وجواد الأسدي وسامي عبدالحميد وفاضل السوداني وابراهيم جلال وفؤاد التكرلي وكاظم حيدر وغيرهم ممن يعتبرون جزءاً من البازل المسرحي العريق بالعراق. اعتمد الأمر على التجريب دائماً، بعيداً من الهويات الخاطئة وسوء الفهم. وصل الأمر بصلاح القصب إلى حد الاستغناء عن المنطوق في صالح المشهد في «أحزان مهرج السيرك». هذا غير المسرحيات الإيمائية. كتابة العرض بالنص أكثر. أبرز كتاب المسرحية العراقية، يوسف العاني. كتب عشرات المسرحيات على مناهج الكتابة المختلفة. أسس تجارب أسهمت في تطوير رؤية المسرحي للمسرحية، وللمسرح. رجل لا يبحث عن الصيغة، حتى يجدها . هذه واحدة من ميزاته.
تسعون سنة عمر يوسف العاني، ذلك أنه من مواليد العام ١٩٢٤، قضى جلها في صالات المسرح العراقي، كاتباً وممثلاً. منح جائزة مهرجان الشارقة الثامنة بالدورة الرابعة والعشرين للمهرجان. الجائزة تكريم. كرمت الجائزة مسرحياً لم يساوم وهو يمارس التضمين في نصوصه، بين اعتقال وهجرة. بين حرب وأخرى. لم يجد ضالته إلا باكتمال تجربته. اكتمال التجربة يقتضي أن لا تؤول التخبطات إلى أن تختفي من السجلات . كأنها اكتملت . لا يؤكد العاني ذلك ولا ينفيه. لأن الكلام على اكتمال كلام نهاية. « لم أنهِ تجربة ، حتى اللحظة، مع أنني كتبت عشرات المسرحيات ، قادني بعضها إلى الإعتقال وبعضها الآخر إلى الهجرة. تناقش وزير التربية ووزير الثقافة حول الغرض من صبغ النار بالأحمر، في واحدة من مسرحياتي. خلص الوزيران، بعهد صدام حسين، إلى أن النار الحمراء هدفها الترويج للشيوعية في بلاد البعث. هدف يهدد استقرار البلاد وسيادة النهج السياسي الواحد السائد بالدولة في تلك المرحلة. تركت البلاد إلى بلاد أخرى. تركتها إلى بلاد بعيدة بسبب لون النار الحمراء. لو أن للنار لونا آخر لاستعمله الإخراج. غير أن الحكاية ، حكاية ائتلاف سياسي فرط بين البعثيين والشيوعيين، بالقرن المنصرم. ما عرض الشيوعيين ، إلى أقسى الممارسات ، بعد أن خرجوا من السطور الموزونة لقصيدة البعث العراقي».
لا يعرف الكثيرون أن الهجرة حملت يوسف العاني إلى ألمانيا، حيث استقبلته هالينافايغل زوجة المسرحي الماركسي برتولد بريشت، وآوته في تجربة مسرح «البرلينر انسامبل». واحدة من أبرز التجارب الطليعية بالعالم. لعل التغريب، بنصوصه ، من تلك المرحلة. لم تدفعه الإقامة إلى التنازل في كتابة نصوصه على التغريب، لا لأن التغريب لا يحسن الأمور ، بل لأن الإنزلاق فيه يؤدي إلى بناءات معقدة لا منطقية أمام حاجات النص. حيث أن نصوصه ضد الإخلاص والإستقرار.
إذ لا يزال العاني يردد بأنه كتب. وأنه ، حين كتب، لم يكتب على ضوء منهج أو مدرسة» كتبت، بدون أن استلهم شيئاً، من ناحية الوزن أو المعنى، سوى قيمة العراق المعنوية. سوى قيمة المسرحي المعنوية، سوى قيمتي المعنوية ، حفرتها كما يحفر الظن بالإنسان. قيل الكثير عن نصوصي. هذه مكتوبة على التغريب وتلك بالروح الوثائقية، وثالثة على روح الحكاية الشعبية ومحفزاتها وآلياتها. لا أنفي الإفتقار أو ضعف الحضور أو قوته، على هذا النص أو ذاك. التطبيق، بعيد، عن كتابة نصوصي. كتبت ، قرأ الآخرون ما قرأوه بالنصوص المكتوبة. هم الأدرى بما كتبت. «لا يزال المسرحي التسعيني، يتمتع بحضور ذهني لافت. لا يزال يتمتع بحضور جسدي لافت على الرغم من الأزمات الصحية، التي واجهها في السنوات الأخيرة. يطلب نص المقابلة، بعد نشر المقابلة . «لأنني أحتفظ بكل شيء» كتب العاني بالعربية الفصحى وبالعامية. غياب أسلوب بالكتابة، افتقار لأول بيتين بقصيدة طويلة. «لأن تتمة معنى الأول في الآخر .
وبالعكس. “كتب العاني نصوصاً قصيرة بروح أرسطية. كما كتب نصوصاً على محور التغريب والملحمية البرشتيين. صدَّر الهم الإجتماعي العراقي مسرحياته، من «رأس الشليلة» إلى«الخرابة» و«المفتاح» و«هوليوود بلا رتوش» وصولاً إلى «أنا أمك يا شاكر»، ذلك أن وعيه الإجتماعي والطبقي والإنساني تأسس وأخذ شكله الملموس ، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما انقسم الناس بالعراق بين مؤيد للجيش الأحمر وبين مؤيد للجيش النازي. «انحزت إلى الجيش الأحمر ، لأنه مشكل من الفقراء، وهو يذود عن أرضه. لم أكن قومياً، معادياً للإنجليز والحلفاء. حسمت أمري، حين وجدت أن الإنحياز إلى قضايا الفقراء إنحياز إلى قضاياي. هكذا ، انخرطت بالنضالات المطلبية، قادها يساريون وممثلو القوى الوطنية والديمقراطية الأخرى» اختار ما رآه صحيحاً، لكي لا تقود الكارثة إلى كارثة. بنى نصوصه الأولى ، كالأخيرة، على الأزمات المبنية على نفسها. كتب بنثر لا أجوف، بعيداً من شيوع العناصر ذات الكرامة الكلاسيكية العالية بالنصوص الكلاسيكية.
بدأت العلاقة بكل ما شكل الخلفية الفكرية في حياة ونصوص يوسف العاني، برومانسية عالية، حيث راح يتعاطف مع معاناة الناس المحتاجين وأحزانهم إرتباطاً بحزنه الشخصي المبكر . حزن مربك لا يغطي الأمور ، بضوضاء موت الوالدين الدائم في أذنيه وعقله . لأن الكذب لا يسمح بإيجاد طرق الخروج من الصعوبات . جهات التجاوب كثيرة. الأبرز فيها، معطوفاً على يتم الولد الصغير، عيشه وسط الفئات الشعبية الكادحة، إذ لم يكذب عقله ما رآه وهو يحل في الخان الخاص بعمه. هناك فارت الناس الطيبة بوجهه، هناك عاين ورصد. هناك راح يتحسس الأوضاع اللارحيمة على الحمالين وبائعي الخضار والحرفيين والسماكين. لا يزال يذكر الخان، كما لو أن الخان ، هنا والآن. لا يزال يتذكر، باعة سوق حمادة وسكان المناطق الشعبية في محلة خضر الياس وبائعة الفول والتاجر الصغير وعمه ، عمه توفيق الخانحي الذي رباه، بعد موت والديه. عم عرف ، باستمرار ، بالنزاهة والشرف والأمانة في معاملاته التجارية وتربية ابنائه. صاحب البيت المفتوح أمام الجميع. الناس وأعيان البلد والوزراء والنواب وكبار التجار. «هذا معين مسرحياتي الأول والأخير. الكلام على البطالة والجوع والمرض. بدأت بكتابة مسرحيات قصيرة، قدمت بين فصول المسرحيات الطويلة أو في نهايات المسرحيات الجادة المقدمة بالمسرح المدرسي والمسرح الجامعي. بعدها أسس «مجموعة جبر الخواطر» مع شهاب القصب. مات الأخير مبكراً بالسل. كتبا كل على حدة وبشكل مشترك، مسرحيات هزلية من فصل واحد. لم يكتبا نصوص «فارس» ( farce)مضللة ، لأن ثمة فروقا شاسعة بين الكوميديا والفارس . ثم،كتبا مسرحيات تخصصت بمس الجروح الاجتماعية.
أخذت الكتابات هذه، تتعمق، بتوجهاتها النقدية الجديدة، في قنص فسح الحرية الهاربة من تأزمات الأوضاع السياسية بالعراق. تأثرا بمسرحيات صفاء مصطفى الجريئة والرائدة، كاتب ما وصف بالمسرحيات «اليسارية». لا يخفى تأثر يوسف العاني بالنمر الهزلية الخاصة بالممثل الشهير جعفر لقلق زاده ومسرح نجيب الريحاني وأفلام شارلي شابلن الصامتة. مالت مسرحيات العاني، على قوس التأثرات والتأثيرات هذه، إلى الطبقة الوسطى والعمال والناس المسحوقين. اشراقه الأول بكتابة المسرحيات الشعبية الواقعية، من الإختلاط والإندماج بمن يكتب عنهم. دائماً، مسرحيات بفصل واحد. عودة المهذب ، ماكو شغل، موخوش عيشه، لو بالسراجين لو بالظلمة، حرمل وحبة سودة، فلوس الدوا، اكبادنا تمشي على الأرض. بنصوصي تلك، بنصوصي بشكل عام، عودة إلى الأصول والموروث الثقافي العربي والتقاليد الشعبية. كتبت «المفتاح» على أهزوجة شعبية. بنيت أعمالي، على عدم القطع مع الروافد الإنسانية، ذات الأبعاد الثقافية الواضحة والمخبوءة. انحاز إلى الإنسان وجوهره، إلى الإبداع من خلال الانحياز هذا، إلى الكرامة والأرض والحق لأجل الوطن وحمايته واستمراره ، الوطن بالدرجة الأولى».
مجلة نزوى