الباحث والناقد المغربي د. أحمد بلخيري يكتب: الصراع من أجل الحياة في مسرحية “السندباد”للمخرج العراقي أحمد محمد عبد الأمير
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
د. أحمد بلخيري*
باحث وناقد مسرحي من المغرب
هناك عنصران تراثيان في مسرحية “السندباد” للمخرج المسرحي العراقي أحمد محمد عبد الأمير. لكن الموضوع من صميم الزمن الحاضر. العنصر الأول يتجلى في عنوان المسرحية:”السندباد” الشخصية الموجودة في “ألف ليلة وليلة”.
وهي شخصية تقتضي الحركة، والتنقل، والسفر، والبحر. والعنصر الثاني هو “خيال الظل” الذي كان يعتمد في القديم، أي عند مبتكره شمس الدين محمد ابن دانيال (1238-1311م)، على “البابة”.
وهي مشهد تمثيلي، أو فصل تمثيلي، يكون فيها بطل واحد. واللغة فيها قد تجمع بين اللغة العربية الفصحى المبسطة والعامية. لكن الوسائل التقنية والفنية التي كان يستعملها محمد ابن دانياال في زمانه، ليست هي الوسائل التقنية والفنية التي استعملها المخرج المسرحي أحمد محمد عبد الأمير. لقد كان للتكنولوجيا دور مهم في مسرحية “السندباد”. وهذا طبيعي، لأن الفن عموما، ومنه المسرح، يواكب تطور العصر.
وإذا كانت بابات ابن دانيال عبارة عن “مسرحيات اجتماعية فكاهية”، فإنه يمكن القول بأن مسرحية “السندباد” ليست مسرحية اجتماعية فكاهية. إنها بالأحرى مسرحية وجودية؛ بمعنى أن الصراع فيها، والصراع عنصر جوهري في المسرح، هو صراع وجود من أجل البقاء أي من أجل الحياة. لا يمكن أن يكون موضوعا للفكاهة، كما في بابات ابن دانيال، الهجومُ على شعب بطائرة حربية، أو بسبب تفسير لازمني، منغلق، ومحدود جدا للدين،
بل بسبب الجهل بالدين. وهما معا، أي الطائرة الحربية ورمز تفسير الدين الإسلامي تفسيرا متزمتا، ومنغلقا، ومتعصبا عقديا (Dogme)، موجودان في المسرحية المذكورة. كانت بداية المسرحية بفتح الستار إيذانا ببداية المسرحية. في هذه الأخيرة، عبرت الأحداث المسرحية، التي هي عماد الحكاية، عن صراع بين إرادتين، إرادة الخير (الشعب+ الحياة)، وإرادة الشر (رموز الحرب).
لكن هذه الأحداث وهذه الحكاية كانتا في المسرحية بوسائل فنية غير اللغة اللفظية (الميم Le mime). لقد عوَّضت الحركة، وجسد الشخصية المسرحية، عموما في المسرحية، ومنها قبضة اليد، وحركات الأصابع، ورفع اليدين والركوع مثلا، فضلا عن الألوان والمؤثرات الموسيقية، كل ذلك عن طريق خيال الظل، عوّضت كلها اللغة اللفظية.
لهذا، يمكن القول بأن هذا العرض المسرحي يفتح ليس أفقا واحدا بل آفاقا عديدة للتحليل والتأويل. كما يمكن اعتبار هذه المسرحية مسرحية تجريبية، مارس مخرجها من خلالها التجريب المسرحي عن وعي ودراية، إذ كان كل شيء فيها خاضعا لتصور فني يحدد البعد والمرمى من الفعل المسرحي في انسجام مع العرض المسرحي برمته. ولأن عنوان هذه المسرحية هو السندباد، فإن هناك شخصية مسرحية ذكورية فاعلة في كل المشاهد من البداية إلى النهاية. ولهذا السبب، يمكن اعتبار هذه الشخصية هي السندباد. وبهذا تكون المطابقة بين العنوان وهذه الشخصية المحورية في المسرحية.
بعد فتح الستار، ظهرت دوائر متعدد الألوان، كما ظهرت قطعة أو بقعة بيضاء، ثم بدأت الشخصيات المسرحية في أداء أدوارها. بالإضافة إلى السندباء، ظهرت في البداية شخصية مسرحية نسوية عبرت الخشبة وهي تُعَبر بحركات يديها وجسدها. ويمكن القول إن بداية الصراع، في المسرحية، كانت مع ظهور يد مدلاة في اتجاه السندباد ثم اختفاء هذا الأخير، فظهور هذه اليد مرة اخرى والشخصية المذكورة. هذه اليد تريد القبض عليه، وقد استعملت في أحد المشاهد الضرب. وقد كان لحركة الأصابع دور مهم في سيرورة المعنى داخل المسرحية. ذلك أن هذه الأصابع، كانت مرة مسنونة أي مخروطة كأن كل أصبع فيها رمح، وليست أصابع بشرية، وهذا رمز للشر.
ترمز إلى هذا الشر أيضا في المسرحية قبضة اليد الممدودة مرة والمدلاة مرات عديدة. والضحية دائما هو السندباد. لكن ما هي الجهة صاحبة الشر بالتحديد في المسرحية؟ قبل الجواب عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أن شخصية السندباد تقترن بالسفر والرحلة والبحر. وفعلا كان هناك السفر في المسرحية، فقد انتقل السندباد من فضاء إلى فضاءات أخرى منها الفضاء الطبيعي.
وكل ذلك ارتباطا بموضوع المسرحية. ومن علامات هذا السفر هو فتح الباب التقليدي العالي الكبير حيث ظهر فضاء آخر ذو بنايات عالية بعضها له علاقة بالمقدس. كما يوجد البحر أيضا وأمواجه وصوت هذه الأخيرة. ورغم وجود سفن على مياه البحر، فإن شخصيات عديدة كانت تسبح فيه، ومن هذه الشخصيات تلك التي ظهرت على شكل سمكة (ذيل سمكة). لا يقدم العرض المسرحي تلك السباحة على أنها كانت من أجل الاستمتاع بمياه البحر.
ذلك أن لصورة جثة الطفل السوري إيلان، وهو ملقى في شاطئ البحر بعد أن لفظه، التي ظهرت في المسرحية، فضلا عن موضوع المسرحية، دور في إعطاء معنى لتلك السباحة غير الاستمتاع.
ظهرت في المسرحية كذلك حشود بشرية في فضاءات عامة مفتوحة (الناس والسيارات)، وقد كان السندباد يوجهها منفردا بحركات يديه. هذا التوجيه وتلك الحركات يمكن تفسيرهما انطلاقا من السياق العام للمسرحية. هذا السياق الذي ظهر فيه علم داعش والشخصيات المقنعة المسلحة من أجل القتل.
هذا علاوة على الطائرة الحربية التي حلقت فوق الناس والمباني السكنية. وقد ظهرت أكثر من مرة واحدة. لكن رغم قتامة الصورة، وضراوة الصراع، لأنه استعملت فيه أسلحة مختلفة (البندقية والطائرة الحربية والمسدس)، فإن النهاية حملت بشرى، تتمثل في المشهد الأخير حيث كانت الشجرة التي تنمو، وهي لاتنمو إلا لأن هناك حياة.
بشائر الحياة عبر عنها الرقص والإيقاع الراقص من لدن الشخصيات المسرحية غير تلك الحاملة للسلاح والتي ترمز في المسرحية إلى الشر والقتل. كان الراقص في الجهة اليمنى هو السندباد، وكانت الراقصة في الجهة اليسرى شخصية مسرحية نسوية. ومثلما استغلت، فنيا، المسرحية الحركات المسرحية المعبرة، مثل رفع اليدين والسجود في أحد المشاهد على سبيل المثال، وقبضة اليد المرفوعة من لدن السندباد تعبيرا عن الانتصار، فقد استغلت المسرحية أيضا أقنعة متعددة الأشكال ، وكذلك فتحات العيون في تلك الأقتعة ذاتها.
هكذا قدم المبدع والمخرج المسرحي أحمد محمد عبد الأمير عرضا مسرحيا تجريبيا متميزا، خضعت فيه اللغة المسرحية للدراسة الفنية المعمقة من لدنه قبل الإنجاز. كما أنه قام بتحيين وتطوير خيال الظل لمواكبة العصر. يتجلى التحيين في الاستعانة بالتكنولوجيا خدمة للعرض المسرحي.
ويتجلى التطوير في عدم اقتصار العرض المسرحي، وهو يعتمد على خيال الظل، عل الفكاهة فقط. ذلك أنه من خلال هذا العرض المسرحي، تم تقديم قضية شعب يصر على الحياة بفضل نضاله، ورغبته في الانتصار على رموز الموت الإيديولوجية والعسكرية. وقد كانت البطولة فيه بطولة جماعية رغم هيمنة السندباد على أحداث المسرحية. هذا، ويمكن تعميق هذا التحليل إذا سمحت الظروف بإعادة مشاهدة هذه المسرحية المتميزة. *كان هذا التحليل بعد مشاهدة واحدة للعرض المسرحي.