قراءة في عروضٍ المونودراما بمهرجان آفاق 2014م..تسع حيواتٍ موحشة.. تفوح بالخيبات والألم!
صفاء البيلي
شاعرة وكاتبة مسرح
ــــ
أن تقف وحدك على خشبة المسرح، وعلى مدى بصرك تتفجر ثناياك بحكايا الوقت والغربة، ولحظات الفرح والانبهار أو الحزن والدهشة، تخرج حيواتك التي عشتها جميعا، أو بعضها فتتعاطف مع ما تريد منها وتلفظ منها ما تريد وتلقيها في سلة مهملاتك.. أن تتطهر وتسمو حين تخفت الإضاءة ومع أول كف في تصفيق الجمهور تجد أنك انتهيت من اللعبة؛ لعبتك أنت أو الحياة التي كنت تجسد.. !
إنها المونودراما.. المغرية بكل فتن الأنا والنرجسية، تمنح متعاطيها مشاعر الامتلاء الفني والزهو الروحي، ولكن من يدري أنك صنعت لبنة من لبات نجاحك وتوهجك.. أم خلعت أخرى من جسد كيانك الفني الذي صنعت؟ لتسبح بإرادتك أو مرغما ما بين البوح والاستدعاء واجترار الخيبات و الأحزان والمشاعر الإنسانية وهموم الوطن.
هذه هى السمة العامة في معظم العروض حيث يسيطر القهر .. قهر الآخر، والمعاناة من الكبت والضغوط الاجتماعية والسعي لنيل الحرية على سبيل الفرد والوطن.
فعلى مدى يومين متتاليين شاهدت تسعة عروض للمونودراما عبر مهرجان آفاق الدولي الذي أقيم مؤخرا بمصر والذي افتتحه د.صابر عرب وزير الثقافة وبإشراف من المخرج الفنان هشام السنباطي، في الفترة من24 وحتى 25 من نوفمبر 2013 بقاعة صلاح جاهين بمسرح البالون وكان مقررا أن تكون العروض أحد عشر عرضا، وبعد اعتذار عرضيّ “امرأة عنيفة من تأليف صفاء البيلى و إخراج أبوبكر الشريف، و “المصرى راجع” تأليف محمد جلو و إخراج ناصر الدمياطى، صارت العروض تسعة عروض هى: “صورة ماريا” تأليف ليديا شيرمان وإخراج منار زين و”هتموت لوحدك” تأليف شادى الدالى وإخراج محمد الحلوانى، و”وجع دماغ” تأليف و إخراج وليد الزرقانى ،و “أخترت” تأليف وإخراج محمود منير و”صفارة عبث” تأليف و إخراج جون ميلاد و “س” تأليف وإخراج مينا صدقى و “عفوا أرسطو دعنى أجرب” تأليف د. عبد الرحمن عرنوس وإخراج محمد يسرى، و “مرض” تأليف و إخراج أحمد حسن و “طب من بؤك” تأليف و إخراج فادى أمين. وتتراوح مدة العروض ما بين 15 دقيقة حتى 30 دقيقة.
صورة ماريا.. حين يكون العجز طريقا!
لم يكن عرض” صورة ماريا أول عروض المهرجان لكنني وددت البدء به عبر رحلة القراءة التي ستمتد لتشمل كل العروض نظرا لموضوعه الهام والجاد الذي يناقشه.
فاختيار نص الكاتبة الكرواتية ليديا شيرمان هوداك الذي يحكي عن معاناة المرأة عموما في أي حرب، دون الالتفات إلى البعديْن الرئيسييْن “الزماني والمكاني” على اعتبار كونها بشرا، كائنا حيا.. يشعر ويحس بكوارث الحروب وفظاظتها حين تحط بأرضها، ربما تستطيع التحمل كثيرا لكنها سرعان ما تأكلها ويلات تلك الحرب وتطحنها تحت قعقعات سيوفها وطلقات بنادقها وأحذية جنودها الثقيلة، فتكون أولى ضحاياها.
النص الأصلي لـلكاتبة الصربية “ليديا شيرمام هوداك” ومعنون بـ “صوت ماريا” وتم تقديمه كثيرا على خشبات المسرح العربي فقد قدمه مؤخرا المخرج السوري، الأرمني الأصل “مانويل جيجي” في دمشق بنفس الإسم.
ولكن يبدو لنا أن المخرجة منار زين امتلكت رؤية خاصة حيث استبدلت الصوت بالصورة ليصير اسم العرض: “صورة ماريا” فقد قامت بعمل ما يشبه تبادل الحواس فبدلا من استئثار مفردة “الصوت” في العمل الأصلى كان الاستخدام لمفردة ” الصورة” التي لا تخرج اللوحة الورقية البيضاء معلقة والرسم بخط بدائي باللون الأحمر القاني “لون الدم”.. تلك التي عبرت بها عن درامية الوجع المتقد والنزف الروحي قبل الجسدي، كما استبدلت المخرجة الابنة بالأم والأخت بالإبنة.. واستخدمت سينوغرافيا غنية في مدلولها فقيرة في أدواتها..
فالبطلة فتاة مصابة بأزمة نفسية بسبب ظروف الاحتلال التي منيت به بلادها وتعرضها للاغتصاب على يد الجنود، ومع دخولها لمستشفى نفسية للعلاج، تحاول طبيبتها النفسية “لوتشيا” التخفيف عنها، وتقليل الضغوط التي تثقل رأسها الصغير، وفي كل مرة تواسيها تحكي لها عن لحظاتها الصعبة التي تعرضت فيها لاغتصاب الجنود، وهذا الاغتصاب الجسدي الذ يمثل على الجانب الآخر اغتصاب المحتل لجسد الوطن، كلمات ماريا المريضة كالرصاص يخترق عقل وقلب “لوتشيا” الطبيبة الطيبة التي كانت تبدو صامدة طوال الوقت أمام مريضتها.
حاولت المخرجة منار زين في “صورة ماريا” عمل اسقاط مواز للأحداث في النص الأصلي فكما كان يحدث لماريا من تحرش من جنود الاحتلال وأثناء الحروب حتى لا تدافع الفتيات عن حريتهن عرّضت المخرجة أنه يمكن أن يتم التحرش في الواقع المصري كما حدث من قبل في “ميدان التحرير” وميادين الثورة المصرية لإبعادهن عن المشاركة في التظاهرات. كما مزجت بين “مسرح القسوة” حيث التصادم والعنف بين البطلة والآخر، و”المسرح الفقير”، فلا توجد أية بهرجات بصرية في السينوغرافيا كانت عبارة عن لونين الأسود والأبيض، الأسود خلفية المسرح بستائره، والأبيض عبارة عن خيمة مستطيلة على يمين المسرح أقرب ما تكون ملتصقة بالأرض مغايرة عن الارتفاع الطبيعي، للدلالة على مدى وطأة الحصار والغربة التي تعاني منهما البطلة، كذلك في الملابس التي كانت عبارة عن ثوب أبيض قصير واسع يسمح للممثلة بالحركة على الخشبة بحرية، وعلى مقدمة المسرح يسارا لوحة بيضاء عليها رسمة بدائية، رسمت خطوطها ماريا وفق نصيحة “الطبيبة” لوتشيا،: “ارسمي ففي داخلنا صورنا وحقيقتنا” وهنا تفاجئ “لوتشيا” ماريا أنها أصيبت “بالسرطان” ولم تشتكِ ولم تيأس لتتفاجأ ماريا بهذه القوة الجبارة وتكتشف كم كانت ضعيفة وهشة، لكنها مع كل جلسة علاج، تعيد وتكرر مذهولة قصة اغتصابها وخوفها على اختها، وتعبرعن حيرتها الشديدة إذ كيف تتصرف إزاء هذا الحمل غير الشرعي الذي ابتليت به على يد المحتلين، ثم سقوط جنينها وعذابها في محاولات الهروب الدائمة..
ومع لحظة معرفتها بحمل الطبيبة “لوتشيا” المصابة بالسرطان تنشأ عقدة أخرى في المسرحية، لتضج تساؤلاتها صراخا وحيرة فكيف لها أن تتصرف بحملها من الأعداء؟ ماذا تفعل بجسدها المفجوع بالحرام يتحرك في كل لحظة يذكّرها بالرعب وتسعى للتخلص منه فيما لوتشيا المصابة بالسرطان لا تستطيع التخلص من جنينها بسبب مرضها. ولكن المصادفة وحدها هى التي ساعدتها، فقد تخلصت من الجنين عبر إحدى لحظات هروبها، في حين لم تستطع “لوتشيا” الطبيبة المتزوجة التي تربي أولادها وترعى زوجها ومريضتها “ماريا” وكثيرات مثلها.. تموت ويموت معها أجنة كثار!
النص بالأساس قد يدعو في مجمله إلى المصالحة، والتسامح، رغم أهوال الحرب التي لا يستطيع أحد التقليل من شراستها، حيث تحتفظ الجدة بالطفل ثمرة هذه الحرب على الرغم من عدم اعترافها بالحرب ولربما فعلت ذلك ليصير هذا الطفل شاهد عيان على مأساة الحروب، لكن في عرض … “صورة ماريا” تخلصت ماريا من الجنين ليس ذلك فحسب بل وأصيبت بالصدمة التي دفعتها لممارسة تشويه صورتها التي رسمتها بخيوط أشبه ما تكون بالشخبطة لطفلة في السابعة من عمرها.. ليخرج العمل من رحم المعاناة إلى واقع المقاومة رافضة إجهاض روح المرأة واللعب بحياتها على كافة الأوجه.
“صورة ماريا” تأليف ليديا شيرمان، تمثيل و إخراج منار زين. ومدته 30 دقيقة
عفوا أرسطو .. مقاومة العبث
وهذا العرض من العروض القليلة المشاركة في المهرجان التي اعتمد فيها الشباب على نص لكاتب معروف محترف وهو د. عبد الرحمن عرنوس رحمة الله عليه وهو كاتب مسرحي تلقائي قدم تجارب طليعية وتجريبية هامة منها له عشرات التجارب المسرحية نذكر منها “مسرح المقهى” الذي قدم بمقاهي استرا وسوق الحميدية مسرحيات قصيرة مثل عوضين وما الذي حدث في الصالة و”الفخ” وهذه التجربة مؤرخة في كتاب للمستشرق ادوارلين وقدم تجربة مسرح العربة حيث تقدم العروض من خلاله على سيارة نقل في مواقع مختلفة بالقاهرة والاقاليم، و”مسرح العربة” و”مسرح الشارع” ثم بعد ذلك مسرح البواخر في البدايات ببورسعيد ومسرح الصيادين.
وعرض ” عفوا أرسطو.. دعني أجرب” من تلك العروض التي تهتم بالتجريب على سبيل الموضوع، من خلال ممثلة شابة متجولة، تحاول عرض موهيتها للجمهور، تحمل معها حقيبة فيها كل ما تمتلك من أدوات لعرض تلك الموهبة، وتواجه صاحب المسرح الشرس الذي يرفض صعودها على الخشبة لكنها تفعل ذلك في غفلة منه حتى تعرض تجربتها على الجمهور، منتقدة حال المسرح الذي لم يعد يعتمد سوى على الجسد والكلام المكشوف وانتفاء عصر المسرح الجاد وهى في كل هذا تواجَه بمقولات أرسطو عن المسرح من مثل: “المسرح دراما وتصاعد وصدام” إلخ.. وما تقدمه هى مجرد محاولات باهتة لا تقترب من معنى المسرح الذي وضع قواعده.. لكنها تحاوره بعناد مؤكدة له في كل مرة ترتدي فيها شخصية جديدة أنها “تجرب”، ومن حقها أن تكون لها بصمتها الخاصة في المسرح الذي هو ملك الموهوبين، ويكفيها أنها تصنع حالة، حالة من الفهم واستيعاب ما يدور حولنا في هذا العالم، فتحمل حقيبتها التي تحتوي على عصا كبيرة غليظة تستند عليها، قميصا لامعا لغجرية، شالا لشاب صعيدي، برنيطة” كبيرة تغطي عينيها لمستوطن أجنبي من زمن الاحتلال الانجليزي لمصر، ..
استطاعت الممثلة ان تملأ فراغ الخشبة الخاوية إلا من خيمة في الخلفية وحقيبة من أدواتها واكتفى المخرج بكونها ترتدي “تيشرت وبنطلون” أسود لتستطيع تلوين العشرين دقيقة بألوان عديدة تتعانق مع الأسود والإضاءة المترددة والموسيقى بتنوعاتها الصاخبة والهادئة لتلقي للجمهور برسالتها .. أن عليه الاختيار في النهاية بين الغث والسمين فيما يقدم له من فن.
العرض من تأليف د.عبد الرحمن عرنوس تمثيل وفاء عبد الله وإخراج محمد يسري ومدته 20 دقيقة
“هتموت لوحدك”.. إعاقات الروح أقسى!
كثيرا ما يعاني الشخص المعاق ذهنيا وجسديا الكثير من التعنت والمعاملة السيئة من المجتمع، حيث يعني مشاعر الوحدة والاجتناب حتى وهو وسط الجماعة، هذا ما يحدث عادة، لكن المفاجأة هى أن تتحول الوحدة إلى حكايات مشحونة بالحب والفن حيث يقرر البطل ألا يموت بمفرده، ويخلق من وحدته عالما ممبلؤا بالتفاصيل من خلال هوايته ” رسم البورتريهات” وصديقته”لوسي” الدبدوبة التي تمارس معه كل طقوس الحكي، فيخاصمها ويصالحها، يلعب معها وينهرها، يجرب معها كيف يمكن أن يعاكس الفتيات على الرغم من أن الجميع يهتفون في وجهه في الشارع حينما يرونه” العبيط أهوه” إنها محاولة للالتقاء مع العالم عبر بعض مكوناته حتى وان كانت تلك المكونات في مخيلة البطل، ذلك البطل الذي ملأ حوائط الحجرة و من خلفه ببورتريهات رسمها بيده المرتعشة حتى وإن كانت خطوطها غير واضحة وعبارة عن”شخبطة” فيكفيه أنه لم يستسلم للسكون والموت.
الممثل محمد الحلواني حاول تجسيد الشخصية الصعبة التي كانت تفلت منه في بعض الأحيان رغم محاولاته الجادة في القبض عليها، لكنها خرجت مقبولة بمعنى أنه جعل المشاهد يتعاطف معها حتى وهو يقلد الشباب في حركاتهم ويعاكس الفتيات في الشارع بالألفاظ الممجوجة.. فيبدو كطفلٍ يتعلم الهجاء لأول مرة فيضحك الجمهور وفي ذات الوقت يتعاطفون معه.
“هتموت لوحدك”.. رسالة شجية درامية مركبة تؤكد أن الإعاقة ليست إعاقة الجسد بل هى اعاقة الروح أكد على تجسيدها صوت مها عمران الرقيق وأشعار أحمد السيد.
والعرض: أشعار أحمد السيد، وديكور:محمد عبد المنعم، وإيقاع أحمد عادل، وعزف الكمان لأحمد سيد، والتلحين وعزف البيانو والغناء اللايف للفنانة مها عمران، ومن تأليف شادي الدالي، وتمثيل وإخراج محمد الحلواني ومدته: 15 دقيقة.
وجع دماغ: الاختيار الصعب!
ماذا تفعل وأنت تعيش حياتك بالطول والعرض، ترقص وتغني وتشرب الخمروتفعل ما تحب وما لا تحب وفجأة ظهر لك ملاك الموت خصيصا..ليخبرك أنه سيقبض روحك بعد ساعة بالتمام والكمال؟ هل ستخرُّ باكيا؟ أم ستعود تائبا عن ذنوبك مستغفرا ربك؟ وتحاول طلب العفو والمغفرة ممن طالهم أذى منك؟ أم ستظل في نفس الحالة التي كنت عليها قبل هبوط ملاك الموت لك ليخبرك باقتراب أجلك.. ترى أي الحالالات ستختار؟!
هذا ما يحاول عرض “وجع دماغ” مناقشته بشكل واضح من خلال “عبد الحكيم” الشاب المتحرر الذي يظل طوال الوقت مغيبا عن الوعي من شرب الخمر حتى في اللحظات التي يكاد يفيق فيها من لوثتها نراه موجها نظره إليها.
يبدأ العرض بوعي غائب وروح تقاوم الحزن والدموع والحب، عبرحالة من اللامبالاة تتلبس البطل الذي نراه طوال الوقت مرتديا “روب” للدلالة على استقراره في شقته، يبدأ دوما كل منولوجات بوحه بعبارة يكررها: “ممنوع الحزن ممنوع الدموع ممنوع الحب” ويظل يمارس تقاطعاته اليومية، فحين يفتح الراديو تفاجئه أغنية شعبية هابطة فيرقص على أنغامها ثم يدق الجرس يفتح ليجد “الواد جرجس” ابن الجيران يعاكسه كالعادة ويجري، فيشتمه بأقذع الشتائم، ثم يرن الهاتف، فيكلم أخته شادية، كل هذا وهو شبه سكران.. فجأة يأتيه ملاك الموت “عزرائيل” ليخبره أنه سيقبض روحه بعد ساعة واحدة، وتموج الدنيا وتنقلب روح عبد الحكيم.. لا يستفيق من سكره تماما، لكنه يترك زجاجة الخمر؛ يتركها على مقربة منه كارتباط نفسي بينه وبينها كعادة.. محاولا أن يعدل من حياته فهل تكفيه ستون دقيقة لاصلاح ما قد أفسده طيلة حياته؟
وهنا تبدو المأساة والتخبط، فنوى أن يصلي لكنه لا يفشل في تحديد مكان القبلة، وأخيرا تسوّل له نفسه أن يجعل القبلة على نفس خط زجاجة الخمر، وما أن يبدأ بأداء الصلاة، إلا ويداهمه جرس الباب ورنين الهاتف وصوت جرجس و..و..و..إلخ، إنه سوء الحظ الذي لا يريد له أن يتوب!
يصاب بهستيريا منادياعلى نفسه يا عبد الحكيم”! لتتوقف الصورة ويظلم المسرح ليبدأ من جديد.. مرددا “ممنوع الحزن ممنوع الدموع ممنوع الحب”! منتبها إلى الساعة على الحائط.. فلا يجدها فيصاب بهستيريا .. متسائلا:”هىّ الساعة كام دلوقت” ؟ لنستنتج معا أن الساعة ربما لم تكن موجودة من الأساس وأنه كان يهلوث إثر فقدانه الوعي.. وقد استخدام الأغاني الشعبية ثم فيروز وعدد من السيمفونيات العالمية إنما يدل على روح مرتبكة تعيش حياة لا تتمناها فهى بالفعل حالة من اللخبطة.. كما أن المراوحة بين تناول الحكاية بحس كوميدي في النصف الأول من العرض ثم تحوله إلى ما يشبه التراجيدي.
تتفاقم حالة سوء الحظ مع أول مرة يقف فيها للصلاة جرس البيت وشتائم جرجس ورنين الهاتف وفي كل هذا تظل رجاجة الخمر بجوار القبلة، الزجاجة في منتصف المسرح وهو واقف يصلي على نفس الخط.
إن هذا العرض ليس إلا دليلا على التوهان الذي يعيشه كثير من الشباب خاصة حينما تتشابك الظروف وتسيطر عليهم الخيبات واليأس وغياب القدوةة فيغرقون في اللهو والخمر.. لينتهي العرض حيث البطل موليا ظهره للجمهور رافعا رأسه للسماء فاتحا بهذا الفعل المجال لقراءات جديدة لنهاية عرضه .. فمن الجمهور من سيقول: انه كان سكرانا ولم يدر ما فعل، ومنهم من سيقول: إنه كان يتخيل واهما كل ما حدث.. ومنهم من سيتساءل: أين الساعة التي كانت تشغل باله طوال العرض وآخرون سيؤكدون أنه يرفع رأسه لاستقبال ملاك الموت مستسلما!
العرض من تأليف وتمثيل وإخراج وليد الزرقاني. ومدته 25 دقيقة.
المجايلة.. خطوط التوازي ما تزال قائمة!
عدد من عروض المهرجان تشترك في التعبير عن حالة واحدة من السخط والقهر والمعاناة التي يلاقيها الجيل الحالي من آبائهم الذين يمثلون الجيل السابق فلا يشعرون بهم ولا بآمالهم وطموحاتهم، منها “صفارة عبث”،و “سين”، و “اخترت”، فكيف كان ذلك؟
صفارة عبث.. صورة الأب المعقدة
ففي مونودراما “س” .. تتشابك خيوط اللهجة العامية المصرية مع بعض المونلوجات القصيرة جدا باللغة الشاعرية الفصحى.. حيث يبدأ العرض بتكرار كلمة “جنون” وتتكرر الكلمة وكأكما يحاول البطل أن يثبت للمشاهد أن عليه مشاركته هذا الجنون الذي لا سبيل إلى الفكاك منه الا بشيئين، “الحب” أو “الموت” وبكليهما سيحدث الإقلاع عن هذا الجنون..
صفارة عبث يرسم بتفاصيل السينوغرافيا البسيطة التي ارتكزت نازلة من أعلى المسرح بماسكات وعرائس قفازات صغيرة معلقة وبعض الرسومات لبورتريهات متغايرة الملامح.. تجسد ملامح الصورة النفسية المعقدة للشباب الذي يعيش حالة الصراع الأبوي، فيظل طوال الوقت خائفا من أبيه المتسلط، مكررا جملة” أنا رجل” التي دوما ما يؤكد عليها والده ويلح، لتظل الرجولة عبئا عليه وتكون هنا لها معنى مختلف تماما عن المعنى الذي يؤمن به البطل، فالبطل يرى رجولته في حريته وحريته تتمثل في: “عزف الموسيقى، واختيار ملابسه وقمصانه، وهواياته، ولعبه وأقنعته، حتى الفتاة التي سيحبها وسيرتبط بها، وكلمات الحب التي يمكن أن يتلفظ بها، لكنه يقع فريسة للأب وسيطرته وقيوده.
لكن يحدث ما يجعل علاقة البطل بالأب تتحول إلى مسار آخر فبعد أن يسافر إلى الخرج ويغيب عدة أعوام يشتاق له من خلالها ويتهيأ لعودته فيفاجأ به عائدا محمولا على الأكتاف في “نعش” ليتحول لدى البطل إلى أيقونة، فيتذكر انه كم كان حنونا وعطوفا ليس ذلك فحسب، بل إن البطل أضفى عليه خصيصة من خصائص المرأة/ الأم / الجدة” وهى الحكي.. حكي الحكايات والهدهدة، ويندم في النهاية أشد الندم على أنه لم يفهمه، وهذا ما أعتبره عيب من عيوب الكتابة في هذا النص، حيث بدا التذبذب في اتجاهات الشخصية ” الابن” وعلاقتها بالأب ” المتجبر” ثم نزول مستوى الدراما لمنحنى آخر، لدرجة أن يجعله راويا للحكايات .. فتأرق المشاهد بين بين الحنق والرضا والذبذبة في مشاعر الإبن.. كما يتذبذب الجو بين الهجير والصقيع!
“صفارة عبث” تمثيل: مينا ميلاد تأليف و إخراج جون ميلاد ومدته 30 دقيقة
“س” .. الخروج من الشرنقة!
حين تجد نفسك واقعا تحت سيطرة خوفك من العالم فتقرر أن تمكث وحيدا تصنع عالمك الخاص من العرائس وأشكال مصغرة من عوالم الخارج، “كازينو” و “حجرة صالون” و”عروسة تمثل الحبيبة” وأخرى “الجد” وثالثة “الصديق” وتجد بشدة في أن تتعايش مع هذا الواقع الافتراضي المصنوع بيديك، والذي يوفرعليك عناء التعامل مع الزيف الخارجي الذي تعلم علم اليقين أنه لا فائدة ترجى منه غير المكائد والآلام والمصائب وكل المساوئ الذي يمكن أن تقابلها في حياتك..
هنا عبر هذا الواقع الافتراضي يصير كل شيء افتراضيا أيضا..فالبطل “س” يحول صاحبه إلى حرف “خ” وجده إلى حرف”جيم” حتى هو نفسه سعيد بذلك.. بتحوله ومن يحب إلى مجرد حروف تمارس صنع حياتها والتخطيط لها على شكل غير الذي يريده له الآخرون..
فها هو “س” يكشف ما يحدث في واقع المجتمع الخارجي من زيف وغش من خلال ذهابه لمسابقة لنيل وظيفة مع صديقه” خاء” فيؤكد له الأخير أنه لن ينالها لعدم امتلاكه “واسطة” تمكنه من ذلك، كما تألم بشدة حين كشف له “خاء” أن حبيبته نقلت حبها لمن هو أكثر منه يسرا وغنى، وجاء موقف “س” لوالد حبيبته لخطبتها بالفصحى شعرا.. بشكل أظهر جدارة الممثل في التعبير عن حالة التردد والتردي والتعنت التي أصابت الشباب في مقتل.
وكان استخدام العرائس بشكل كبير وواسع حتى انها طغت على خشبة المسرح، وما به من قطع الديكور البسيطة.
استطاع الممثل “مينا صدقي” تجسيد حالة الضياع والرهبة وخشية إقامة أية علاقة مع العالم الخارجي حتى إنه كان يحصل على غذائه عن طريق أنبوب يلتف حول خاصرته، وكلما هموا بإخراجه للحياة، يرفض.. خوفا من المواجهة، يظل حبيس ظروفه وحياته حتى يشده ذاك الأنبوب الذي يشبه المشيمة .. مشيمة الأم فيستسلم صارخا كأنما يولد من جديد، استطاع الممثل توصيل فكرته بطريقة السهل الممتنع، مع إجادة في أداء شخصيتي الجد والصديق، ووالد الحبيبة التي اختار لها أبوها زوجا غيره.
“س” إضاءة : بيتر سمير, عماد سليمان, مينا عونى, أبانوب جمال، ملابس و اكسسوارات : مينا حنا – مايكل وسيم، سينوغرافيا: مارك ماجد – باسم جمال، مساعد مخرج: مارك ماجد، ديكور و موسيقى: باسم جمال، تمثيل و تأليف و إخراج : مينا صدقى، ومدته: 30 دقيقة.
“اخترت”.. وزمان اللا اختيار!
كما يأتي عرض “اخترت” ؟ ليستعرض أيضا شخصية البطل المهزوز الذي يشكو من تدخلات والده الدائمة بل وكل من حوله في تفاصيل حياته فيمنعه من ممارسة هواياته فلا موسيقى ولا شعر ولا رسم ولا كتابة.. ولا ولا لاءات كثيرة تتمثل في حبل مشنقة جديد يكاد يخنقه..
يبدأ البطل في رفض كل تلك الأوامر ليعلن انه اختار حياته بكل تفاصيلها..ولكن لم يوفق العرض في صنع حالة درامية تشد الجمهور، فبدا كحالة موحشة من الرفض فقط كما يفعل الطفل حين يرفض أن ينزل على أوامر الكبار.. وكان لواما أن يأتي ذلك عبر شكل من أشكال الدراما التي تستطيع المونودراما استيعابها، كما اختفى تأثير الإضاءة والسينوغرافيا تماما كأنه تم تحييدها هنا..
“اخترت” تمثيل: كريم خالد، سينوغرافيا و موسيقى: أمجد الشرقاوى تاليف وإخراج : محمود منير ومدته 25 دقيقة.
“طب من بقك”.. زمن الثورات المنهوبة!
هل توقعت أن ترى حياة أمة وهى تنقلب رأسا على عقب، حال من الوجع السياسي هو ما يحاول المرور عليه عرض” طب من بؤك” لكنه جاء مرورا به الكثير من المباشرة فيما يشبه الواقع المؤلم، فقد حاول “طب من بؤك” التعبير عما يدور في الواقع المصري، في مونودراماه التي تقوم على تكنيك المسرح داخل المسرح، حيث الممثل الذي يقوم ببروفة فيطلب من زملائه تعديل الإضاءة وضبط الصوت.. إلخ.. وفيه يبحث شاب حائر محب عن علاج لأمه / مصر.. التي تعاني من داء عضال فيأتي لها بالطبيب الذي يفوّض ابنه الطالب لمعالجتها فيصيبها بجرح شديد، ثم يذهب بها للدجال الذي يستنفذ منها الكثير، ولكنه يفشل، وتتواصل محاولات الابن المستميتة، والفاشلة في إنقاذها حتى يموت هو فداء لها منوّها عن اشتعال الثورة المصرية من جديد مارا على ما تمر به مصر من تغيرات على الصعيد السياسي.. والاقتصادي والاجتماعي بشكل سريع وسطحي..لا يتناسب مع جلال الموضوع.
استخدم المخرج عددا من الأغاني الرومانسية التي توحي تعزز الانتماء للوطن.. وأهدى العرض لروح مينا دانيال ” أيقونة الثورة” ولكن ذلك لم يغفر له المستوى الواضح من سطحية المحتوى الدرامي والأداء وانتفاء معظم عناصر العرض الأخرى.
“طب من بؤاك” تأليف و اخراج وتمثيل فادى أمين. مدته: 30 دقيقة.
” مرض ” تشويه مريع لصورة الرجل/المرأة معا!
ونأتي سريعا على العرض الأخير ” مرض” والذي يسلط الضوء على قضية المجتمع الذكوري وفكره المتحجر، وكيفية مواجهة المرأة لصعاب الحياة التي تستحيل في ظل وجوده، وسط قوانين الغابة المتمثلة في واقع مجتمعي غابت شمس تفتح أفكاره.
العرض عبارة عن مونولوجات طويلة ” وهذا فهم خاطئ لمعنى المونودراما” لتجسيد أوجاع ومعاناة المرأة المكسورة سواء أمام روحها أو أمام الآخرين، كل ذلك بمشاعر متواترة من المرارة لما تمر به من انتقادات ونظرات نارية من المجتمع الذي لا يقدرها ككائن له وجوده.
العرض سيطر عليه السينوغرافيا اعتمدت فقط على شرائح كثيرة ملأت خشبة المسرح من المناديل الورقية كأنما يريد المخرج إغراق الممثلة في هذا اللون الأبيض الذي كانت كوال الوقت تمزق فيه، ولا أدري لماذا؟ كما كان أداء الممثلة بطيئا وصوتها منخفضا طوال العرض، يوحي بالملل مع عادية الموضوع المُلاك والذي تم مناقشته عبر مستويات فكرية أكثر استنارة وعمقا متمثلة في قضايا وليس قشور سطحية لم عبر عن الواقع الحقيقي للمرأة سوى في مخيلة صناع العرض!
العرض: إيقاعات وسينوغرافيا وتأليف وإخراج: أحمد حسن وإضاءة: أحمد جمال تمثيل : نورهان خالد ومدته 25 دقيقة.
ملاحظات عامة على العروض:
1ـ العروض المقدمة لمجموعة من الشباب.. المؤلف في معظمها هو المخرج و الممثل، وهذا يرجع إلى عملية الاستسهال التي يقع فيها هؤلاء الشباب حيث يعتقدون دوما أن المونودراما لا تحتاج إلى كثير من الجهد والعمل، فأتت كثير من العروض غير مكتملة النضج، وكانت بحاجة إلى تريث في بنائها بدءا من اختيار النصوص المناسبة حيث تفتقد إلى السمات اللازمة لفن المونودراما.
2ـ لأن فن المونودراما تستهوي الشباب وتغريهم فيقوم بعضهم بالتأليف والإخراج بل والتمثيل هذا يؤدي إلى تحجيم الرؤية الإبداعية بل أحيانا كثيرة افتقادها، حيث يتركز العمل كله على فرد واحد فتأتي الحالة المسرحية مترهلة باهتة تعبر عن وجهة نظر مشوهة.
3ـ معظم العروض لم تستفقد من العناصر التي كان من الواجب استغلالها كالإضاءة ما عدا عروض قليلة ” صورة ماريا” و “س” وجع دماغ” وصفارة عبث، عفوا أرسطو. وغير ذلك كانت الإضاءة واحدة محايدة بيضاء.
4ـ السينوغرافيا في معظم العروض فقيرة جدا ولا أقصد هنا فقر المواد ولكن فقر التخيل والرؤى..فلم تك هناك ثمة سينوغرافيا متحققة بشكل يقترب من المستوى المطلوب سوى في عروض “صورة ماريا” و “س” و”صفارة عبث” و”هتموت لوحدك” بدرجات متفاوتة وذلك لعدم اعتماد المخرج على سينوغرافي متخصص يقوم معه بهذا العبء ليتمم معه الرؤية الكلية التي تصعد بالعرض لأفق ورؤى المشاهد الذي يأتي متوقعا الكثير.
ــــــــــــــــــــــــ
مجلة المسرح الإماراتية