ننشر نص مسرحية على بابِ الله.. تأليف الكاتب العراقي: علي عبد النبي الزيدي

المسرح نيوز ـ القاهرة: نصوص
مسرحية
على بابِ الله
تأليف
علي عبد النبي الزيدي
(السعادةُ أن لا نكتشفَ الحقيقة!)
المؤلف
الشخصيات
سعيِّد: في السبعينيات من عمره كما نظن.
وحيِّد: في السبعينيات من عمره كما نظن.
حميِّد: في السبعينيات من عمره كما نظن.
1-(إشارة المرور الضوئية خضراء…)
المكان: تقاطع شارع عام، نرى إشارة المرور الضوئية /الترفك لايت/ على جانب الشارع.
-نظن أن الوقت ليلاً…
-الهدوء يعم الشارع بشكل غريب /الترفك لايت/ يشتعل باللون الأخضر لمرور السيارات.
-“سعيِّد و وحيِّد”.. يقفان بالقرب من إشارة المرور الضوئية، وهما يتهيآن لعبور الشارع…
سعيِّد: وصلتُ أخيراً كما يبدو…
وحيِّد: (يهز رأسه) كما يبدو!
سعيِّد: الدنيا باردة.
وحيِّد: سؤالٌ يا جاري القديم.. ما معنى أن تصلَ روحُك للمكانِ بعدك بأيام؟!
سعيِّد: الروحُ تنامُ أيضاً (يتفحص وجهه باستغراب) ولكن ما اسمُك أنت؟
وحيِّد: أنا؟ أنا اسمي “وحيِّد”.
سعيِّد: وحيِّد؟ كيف تكون وحيِّد بوضعِ الشدَّة على الياءِ للتصغيرِ واسمُك تعبان؟
وحيِّد: أتذكّرُ بأن اسمي “وحيِّد” ولكنهم يدعونني تعبان، ربما لأن روحي تَصلُ بعدي للمكانِ بأيام!
سعيِّد: لا يهمُّ.. فالأسماءُ زائدةٌ أصلاً.
وحيِّد: ولا تؤدي الى معنى!
سعيِّد: لو قلتُ مثلاً.. أنتَ تعالَ وأنتِ تعالي.. ما الذي سيتغيّرُ في هذا الكون؟
وحيِّد: لا شيء……… وأنتَ ما اسمُك يا جاري القديم؟
سعيِّد: أنا؟ أنا اسمي ولهان…
وحيِّد: كيف تكون “ولهاناً” واسمُك “سعيِّد” بوضعِ الشدَّةِ على الياءِ للتقليلِ من حجمِ السعادة؟
سعيِّد: أتذكر بأن اسمي “ولهان” ولكنهم يدعونني “سعيِّد، ربما لأن روحي على العكسِ من روحِك تصلُ للمكانِ قبلي بأيام!
وحيِّد: لا يهمُّ.. فالأسماءُ زائدةٌ أصلاً، وقد صرتُ عجوزاً فوق السبعين من عمري.
سعيِّد: الأسماء لا تؤدي الى معنى، وعندما يشتعلُ ضوءُ إشارةِ المرورِ الحمراءِ سنعبرُ الشارعَ بدهشة.
وحيِّد: إي.. أمسكُ بذيلِ معطفكِ ونَعبر!
سعيِّد: (ينظر في أفق الشارع) المشفى قريبٌ من قلبي.. بالرغمِ من أن معطفي ليسَ فيه ذيلٌ يا أخي.. ناهيك بأنني لا ألبسُ معطفاً كما ترى.
وحيِّد: لا يهم… (يشير بيده) أنا أراهُ، ذاك…………. هو المشفى.
سعيِّد: البنايةُ البيضاءُ؟ زوجتي المريضةُ جميله، اسمها جميله طلبت أن أجلبَ معي أدوات الماكياج وأجمل الثياب لتخرج بها من المشفى بكاملِ أناقتِها! فدوه لعمرها.
وحيِّد: لأنها لا تريدُ أحداً أن يرى الذبول في روحِها.
سعيِّد: طبعاً.. عيناها ناعستان “جميلة” والله، وكبيرتان لدرجةٍ تراني وأنا أجلسُ في المقهى.
وحيِّد: ما شاء الله… (ينتبه) هذا لا يجوز.. لقد وقفت في مكاني على رصيف الشارع يا سعيِّد.
سعيِّد: لأنك وقفت في مكاني أيضاً.
وحيِّد: ولكنه مكاني الذي أقفُ فيه منذ أربعين عاما!
سعيِّد: وأقفُ فيه أيضاً.
وحيِّد: عنادك لا يطاق (يغير الموضوع) لا أخفيك.. أنا في ورطةٍ (يشير لأصابع يديه) انظر الى يديَّ، أصابعي الخنصرِ والبنصرِ والوسطى والإبهام.. كلُها مبتورة.
سعيِّد: وكيف بُترت هذه الأصابع المسكينة؟!
وحيِّد: ألا تتذكّر؟ كنا عندما نجوع في سنواتٍ خَلتْ نأكلُ أصابعنا من الجوع، ولم يسلم عندي سوى إصبع السَّبابة.
سعيّد: كيف لا أتذكّر يا وحيِّد؟ أنا عكسُك فقد أكلتُ أصابعَ قدمي اليسرى واليمنى!
وحيِّد: ها.. كنتُ أسمعهم يقولون بأن أصابع الأقدام أطيبُ من أصابع اليدين.
سعيِّد: إي لذيذة، دسمة. ولماذا لم تأكل أنتَ اصبعك السبابة؟
وحيِّد: تركتهُ لكي أشتمُ به هذي الحياة التي شتمتني كثيراً.
سعيِّد: حقك وحيِّد عيني… أتدري بأنهم يرشُّونَ زوجتي “جميلة” في ردهاتِ المشفى صباحاً ليتعطّروا بعطرِها الرومانسي بدهشةٍ الى آخرِ الليل؟!
وحيِّد: يرشّون جميلة؟ لذلك لم نعد نشمُّ في المشفى رائحةُ المعقمات وما شاكل.
سعيِّد: اليومُ موعدها لكي أُعيدها لبيتِنا! للأسف.. سيظل المشفى دون عطرِها الرومانسي.
وحيِّد: أشعرُ بأنها تنتظرُك عند بابِ المشفى بكاملِ هيبتِها…
سعيِّد: ولكن إشارة المرورِ ما زالت خضراء، وقد صرتُ عجوزاً فوق السبعين من عمري.
وحيِّد: لا تقلق، سنعبرُ الشارع معاً. أنت تشتغلُ عندك نظرية المؤامرةِ دائماً، إنها ستون ثانية فقط ونعبر، “شوية صبر.”
سعيِّد: روحي……………… “خربانة”!
وحيِّد: (يوبخه) الطبيبُ منعك يا جاري أن تمشي على روحِكَ إليها ولكنك لا تسمع نصائح الأطباء.
سعيِّد: وهل تريدني أن أمشي على قدميَّ؟ هل يقبل ضميرك بذلك؟ أمشي على روحي حتى تلتقي مع روحِها الحلوة، أوووف “اشكد حلوة” جميلة.
وحيِّد: معادلةٌ معقدة وقد عقَّدتني معك. إذن سنصلُ في الموعدِ المحددِ لخروجِها من المشفى يا “سعيِّد” بوضعِ الشدّة على الياءِ للتقليلِ من حجمِ السعادة.
سعيِّد: (ينظر لمكان ساعته اليدوية، وهي غير موجودة) إنها الثالثةُ بعد منتصفِ الليل بحسبِ توقيتِ ساعتي!
وحيِّد: (ينظر لمكان الساعة) ولكن لا أرى ساعة في يدك!
سعيِّد: أنا أنظرُ لساعتي البيولوجية يا أخي.
وحيِّد: بيولوجية؟ (ينتبه لوقوف سعيِّد) لقد وقفت في مكاني مرةً أخرى على الرصيف يا سعيِّد.
سعيِّد: عجيب.. أنت وقفت في مكاني يا أخي مرة أخرى.
وحيِّد: هذا مكانُ وقوفي القديم.
سعيِّد: ووقوفي أيضاً.
(يتبادلان المكان…)
وحيِّد: (ينظر لأفق الشارع البعيد) هدوءٌ أبيض، حتى الضفادع نامت ولم تعد تُنقنِق، خطيّه! ولكن هل تظن أن الثلجَ سيتساقط هذه الليلة؟
سعيِّد: لالا.. فالطبيبُ أكدَ لي ليلةُ البارحةِ أن زوجتي ستغادر المشفى دون ملابسِها الشتوية، والمشكلة أن خزانةَ ملابسها في غرفةِ نومنِا فارغةٌ تماماً!
وحيِّد: الملابسُ ترحلُ أيضاً يا سعيِّد وتطير!
سعيّد: الملابس تطير؟ ولا أعرفُ أين اختفت عشرات النفانيف وبدلة الزفاف وما شاكل!
وحيِّد: اشترِ لها من السوق يا أخي.
سعيِّد: أنا أعرفُ ذوقها، لا شيء في السوقِ يناسبُ ابتسامتها! ولكن أنت لماذا ترافقني؟!
وحيِّد: أظنُّ بأنك طلبت مني أن أكونَ معك يا سعيِّد بوضعِ الشدَّة على الياء للتقليلِ من حجمِ السعادة، ناهيك.. بأنني أريدُ أن أعبرَ الشارع لبيتِ خطيبتي!
سعيِّد: (يتذكر) إي، تذكّرت يا جاري القديم (صمت) وحميِّد؟ أتعرف لماذا “حميِّد” جارنا لم يأتِ معنا كعادتِه؟
وحيِّد: هذا لأنه يشخرُ بصوتٍ يُزمجر فلا يسمع طرقات الباب، وأنت سترافقني في الساعةِ التاسعةِ فجراً لموعدٍ مُفرحٍ يا سعيِّد.
سعيِّد: أحبُّ الأخبار السعيِّدة والتي تتزامن مع خروجِ زوجتي من المشفى وهي تمشي على روحِها.. يا بعد روحي…
وحيِّد: دعنا نتفق.. ستحضر معي أنت وجميلة لحفلةِ الخطوبة يا سعيِّد!
سعيِّد: خطوبة؟! خطوبةُ من يا وحيِّد؟
وحيِّد: خطوبتي!
سعيّد: خبرٌ عظيم.. سأرقصُ في خطوبتِك مع جميلة رقصةً عصماءَ يا جاري القديم.
وحيِّد: (يشعر بالبرد) إشّا.. الدنيا باردة (يخرج من جيبه علبتان فيهما خاتم الخطوبة) انظر لخاتم خطيبتي، لقد وضعته تحت وسادتي ليلة البارحة.. فشممتُ عطرها في حلمي.
سعيِّد: (ينظر للخاتم) شمِمتَ عطر جميلة؟
وحيِّد: (يصرخ به) يا جميلة يا أخي.. أقول لك عطرُ خطيبتي.
سعيِّد: ها.. خطيبتُك.
وحيِّد: ولكن المشكلة.. كيف أضعُ خاتم خطوبتي في اصبعي البنصر المبتور؟! ناهيك.. أخافُ أن أضعَ الخاتم في إصبع السبابةِ فيظنُّ أهل خطيبتي بأنني أسبُّهم!
سعيّد: مشكلةٌ معقدة! عقّدتني معك. (يفكّر) يمكنك أن تستعيرَ اصبعي البنصر لبعض الوقتِ لتضعَ فيه خاتمُ الخطوبةِ فأنت جاري القديم ولا فرق بين اصبعِك واصبعي.
وحيِّد: لالا، خطيبتي تعرفُ بأنني أكلتُ أصابعي في سنواتٍ خلت، ثم أنني أغارُ أن تمسكَ خطيبتي بإصبعي البنصرِ وهو إصبعُك أصلاً.
سعيّد: يغارُ، هُجم بيتك! لذلك فضَّلتُ أكل أصابع قدمي اليسرى التي تتغطّى بحذائي من البردِ وما شاكل!
وحيِّد: أتدري؟ أبي أكل أصابع يديه كلها من الجوع.. من أجلِ أن يكونَ مثلُنا الأعلى في أكلِ الأصابع، أمي للأمانةِ كانت تقدّم لنا أصابعها على المائدةِ طازجةً ولا تأكلُ شيئاً منها.
سعيِّد: أكلتم أصابَع أمِكُم؟!
وحيِّد: إي، كُلُّها.. من الجوع! وللعلم.. اصابِعُها حنونةٌ وترفةٌ.. كانت تذوبُ في أفواهِنا!
سعيِّد: ما هذه الرومانسية يا ربي؟ إشّا.. الدنيا باردة (يهم بعبور الشارع) جميلة تنتظرني، سأعبرُ الشارع حتى لو كانت الإشارة الضوئية خضراء.
وحيِّد: (يمسكه) لالا.. لن تعبر، حرام.. هذا انتحار.
سعيِّد: قلتُ لك اتركني أعبر وليحدث ما يحدث.
وحيِّد: ألا ترى السيارات مسرعة؟
سعيِّد: قلت لك اتركني.. أريدُ أن أضحي من أجلِ جميلة.
وحيِّد: ستصبح جميلة أرملة يا أخي!
سعيِّد: أرملة؟ وأين ذهبتُ أنا؟
وحيِّد: تموت.
سعيِّد: وهل يمكن أن أموتَ دون أن تصبحَ جميلة أرملة؟
وحيِّد: لا أعرف، ستزعلُ منك.
سعيِّد: (يهدأ) حقا؟ جميلةٌ تزعل مني؟ ولكن لماذا لم تُخبرني بخبرِ خطوبتِك السعيدِ يا وحيِّد؟
وحيِّد: لقد جرت الأمور بشكلٍ بطيء.
سعيِّد: تقصدُ سريعاً سريعاً.
وحيِّد: لالالا.. بطيئاً بطيئاً.
سعيِّد: يقال أن السعادةَ سُلحُفاة.
وحيِّد: إيييي.. والعالمُ كلُه أرانب!
(يحاولان الضحك -كما نظن- وهما يرددان كلمة سلحفاة وأرانب، بعدها يتوقفان)
سعيِّد: (ينتبه) لقد وقفتَ في مكاني يا سعيِّد.
وحيِّد: وأنت وقفتَ في مكاني أيضاً.
سعيِّد: هذا احتلال.
وحيِّد: اعتداءٌ سافر.
سعيِّد: ايقاعك بطيء.. “دمرتني” وحيِّد…
وحيِّد: وإيقاعك بطيء أيضا يا سعيِّد! “عقَّدتني”.
سعيِّد: أنت جاري منذ خمسين عاماً وأفرحُ من أجلِك والله.
وحيِّد: معلومةٌ جديدة، وتخيّل أنت جاري أيضاً منذ خمسين عاماً.
سعيِّد: أيضاً؟ عجيب…
وحيِّد: إي والله.
سعيِّد: (يشعر بالبرد) إشّا.. الدنيا باردة.. (ينتبه) إشارةُ المرورِ الضوئيةِ ما زالت خضراء!
وحيِّد: لا تُبالغ.. هي ستون ثانية ونعبرُ الشارع بعدها بأمان.
سعيِّد: الإشارةُ الخضراء جميلة يا جاري! واسم زوجتي أيضا جميلة، سبحان الله.. أوووف لقد عشنا قصة حبٍّ فيها الكثيرُ من الجمالِ الدهشةِ والغزوات، آخ من الغزوات.. ولا تسل عن معنى الغزوات (يصيح) أحبُّ جميلة لدرجةٍ أخافُ عليها أن ينفجرَ حبِّي بوجهِها فتستشهد!
وحيِّد: حبُّكَ عذري وأنا أعذرُك أيضاً، ولكن لماذا السياراتُ مسرعةٌ وتخطفنا هكذا خطفاً؟ (يطلع صوتاً للسيارات من فمه)
سعيِّد: لأنها تريدُ اللِّحاق بالحياة!
وحيِّد: إي.. اليومُ عند الساعةِ التاسعةِ فجراً سأجعلُ السيارات تُسرع خطفاً لكي تستطيع اللحاق بالحياةِ وحفلةِ الخطوبة ولكن اصبعي البنصر…
سعيِّد: (يقاطعه) إيقاعُك بطيء.. دمرتني بالبنصر، عقّدتني يا أخي.. وعليك أن تعرفَ بأنني لن أسمح لزوجتي جميلة أن تتمرضَ مرةً أخرى وتدخل المشفى.
وحيِّد: لا تسمح يا سعيِّد، لا تسمح.. أنا رجلٌ وحيدٌ كما تعلم خرجتُ من فطرِ الأرض، هكذا، وأريدُ من زوجتِك جميلة أن تُزغردَ في حفلةِ خطوبتي فزغاريدُها كما أعرف كأنها دويُّ انفجارٍ لصاروخِ مدفعٍ بعيد المدى يرعد رعِد، ما شاء الله.
سعيِّد: طبعاً.. رغم أن قلبَها يشتغل بشكلٍ مدهش.
وحيِّد: مدهش؟! كيف يمكن أن يكونَ القلبُ مُدهشاً يا سعيِّد؟
سعيِّد: استغلُّ فرصة أن الاشارةَ الضوئية الخضراء لم تتحوّل فأشرحُ لك.. لقد وضعت أذني اليمنى على قلبِها، كان ينبضُ بدهشةٍ جداً، ولا أدري لماذا أقولُ بدهشة.
وحيِّد: لا عليك.. يمكنك أن تقولَ بـ دهشةٍ بدهشةٍ بدهشةٍ مليار مرة.. فنحن ننتظر الإشارة الضوئية الحمراء لكي نعبر الشارع الى بيتِ خطيبتي.
سعيِّد: ربما أراد أن يقولَ لي أسرارٌ مهمة.
وحيِّد: من تقصد؟
سعيِّد: “هاي شبيك”؟ قلبها.
وحيِّد: وبأيِّ أسرارِ أرادَ البوح لك؟ وأنا أعرفُ أن أعظمَ أسرارُ جميلة أن قلبَها ينشغلُ للحظاتٍ بغسلِ المواعينِ في المطبخ فلا تفكر فيك يا سعيِّد.. فتحسبُ هي ذلك خيانةً لقلبك!
سعيِّد: إيييي.. وفية، سمعتُ من قلبِها كُلُّ شيءٍ بدهشة، لقد كذَّبتُ عليك قليلاً يا جاري، أنا في الحقيقةِ وضعتُ رأسي كله على صدرِ زوجتي جميلة وهي على سريرِ المرض كعادتي عندما أريدُ الغناء لها.
وحيِّد: لا عليك، كذبةٌ خضراء. إي.. كنتُ أسمع صوتك وأنت تغني لها.
سعيِّد: تسمع صوتي؟ هذا يعني تسترق السمع؟
وحيِّد: لا.. ليست بسرقة، الجدارُ الفاصلُ بين بيتِك وبيتي لا يمنع من مرورِ الغناء أبداً كما تعرف، حتى أن زوجتَك الفاضلة جميلة والعصافير كانت تشارك أيضاً بالغناء.
سعيِّد: العصافيرُ أيضاً تسترقُ السمع؟ عشنا وشفنا، أنا أغني وجميلة كلَّ يومٍ نفسَ الأغنيةِ منذ أربعين عاماً يا تعبان.. لأننا بصراحةٍ لا نعرفُ غيرها.
وحيِّد: أدري.. فالحَمامُ والقططُ والعصافير حفظتها منكما عن ظهرِ قلب، حتى الفئرانُ والخفافيشُ والصراصرُ والنملُ وأبو سبعٍ وسبعينَ وسواهم.. كانوا كلَهم يغنون معكما. ما هذه الرومانسية العجيبة يا ربي؟
سعيِّد: هي على وجهِ الدقّةِ كانت جميلةَ الجميلاتِ وبدهشة.
وحيِّد: إي.. أنا كنتُ أسمعُ بدهشةٍ أيضاً تلك الأغنيةَ الساحرةَ التي حفظتها حتى الجدران عن ظهرِ قلب!
سعيِّد: الجدرانُ تسترقُ السمع أيضاً؟ عِشنا وشفنا.
وحيِّد: سأغنِّيها… (يغني…)
سعيِّد: (يغني معه ولكنه سرعان ما يوقفه) توقف.. أنا لم أغنِ هذه الأغنية من قبل يا وحيِّد…
وحيِّد: عجيب.. فمن كان يغنيها يا تُرى؟
سعيِّد: “شمدريني”… (بمعنى كيف لي أن أعرف)
(يتأملان اشارة المرور الخضراء…)
2-(الإشارة ما زالت حمراء)
سعيِّد: ألا ترى بأننا تأخرنا كثيراً؟
وحيِّد: عن خطوبتي؟
سعيِّد: يا خطوبة.. أقصد عن المشفى فخطوبتك في الساعةِ التاسعةِ فجراً.
وحيِّد: ونحن الآن في الساعةِ الثامنةِ بعد منتصفِ الليلِ بحسبِ توقيت ساعتك البيولوجية.
سعيِّد: إي.. والإشارةُ الضوئية ما زالت خضراء ولا نستطيع عبور الشارع.
وحيِّد: ستدهسنا السيارات المُسرعة كما ترى والتي تُريدُ اللِّحاق بالحياة!
سعيِّد: حياة؟ من هذه؟
وحيِّد: خطيبتي.. (يشير للبيت بيده) ذاك هو بيتُ أهلها الأبيض.. أراه جيداً.
سعيِّد: أبيض؟ ومن قال لك بأن اسم خطيبتك حياة؟
وحيِّد: اقترب قليلا…
سعيِّد: أين اقترب؟
وحيِّد: من قلبي، الطبيبُ قال لي مرةً أن قلبَك لا ينبضُ مثل باقي قلوبِ البشرِ دم تك أو تك دم، لا عيني لا، إنه يرددُ: حياة دم حياة تك وهكذا! (يرقص ثم يتوقف) خافَ الطبيبُ من الموضوعِ وطردني من عيادتِه شرَ طردةٍ لأن قلبي لا يرددُ دم تك مثل باقي البشر! حتى أنني الآخر خفتُ أن يكونَ في قلبي جنّيٌ ولا أدري!
سعيّد: “جني مثلك” أنا واثقٌ في قلبِ كُلِّ عاشقٍ جِنّي يقول دِم واسم الحبيبةِ بعدها بدلاً من التك…
وحيِّد: (يهم بعبور الشارع) سأعبرُ الشارع لبيتِ خطيبتي حتى لو كانت الإشارة خضراء.
سعيِّد: حرام.
وحيّد: اتركني أعبر.
سعيِّد: انتحار (يمسكه) هذا تهورٌ يا وحيِّد وقلّةُ إيمان.
وحيِّد: ولكن خطيبتي الآن تنتظرني بفستانِ خطوبتِها الأسود.
سعيِّد: أسود؟ ما هذه الرومانسية يا ربي؟
وحيِّد: ايقاعك بطيء.. “دمرتني”.
سعيِّد: انت دمرتني…
(يظهر / حميّد/ يسير ببطء على عكاز، وقد تجاوز السبعين من عمره…)
حميّد: أريدُ تفسيراً لا يقبل الشك.. ما معنى أن تَخرجا لإشارةِ المرورِ الضوئيةِ الخضراءِ دوني أيها الجارانِ القديمان؟
سعيِّد: التفسيرُ لا يدعو للشكِّ يا سالم الذي يسمونَهُ “حميِّد” بوضعِ الشدَّةِ على الياء للتصغير.
وحيِّد: لقد طرقنا الباب لثلاثِ مراتٍ يا حميِّد ولم تخرج لنا يا سالم.
حميّد: سمعتُ طرقات الباب، أعترفُ بذلك.. ولكن لم تقولا كلمة سر الليل حتى يمكنني فتح الباب لكما، فلا أمان في هذه المدينة.. وأنا أخافُ بصراحةٍ على البلابل التي أربيها تربيةً صالحةً في بيتي كما تعرفان!
وحيِّد: إي، لم نقل سر الليلِ يا سالم والمدينة لا أمان لها.
سعيِّد: المهمُّ أنت معنا الآن والبلابلُ قد ربَّيتها أنت نِعم التربية.
حميّد: أستغربُ فعلاً.. منذ أربعين عاماً وأنتم تنسون كلمة سر الليل وهذا أمرٌ خطيرٌ في جبهةِ القتال.
وحيِّد: قتال؟ أنا في الخامسةِ والسبعين وستّة أشهر من عمري الآن.
سعيِّد: وأنا أصغرُ منك بشهرٍ وواحد وعشرين يوماً فقط.
حميّد: وللدقَّةِ.. أنا أكبرُ منكما بثلاثةِ أشهرٍ وواحدٍ وعشرين يوماً كاملات.
سعيِّد: ايقاعك بطيء أنت الآخر يا حميِّد.. “عقّدتوني”
حميِّد: وايقاعك أيضاً.
وحيِّد: (ينتبه) لقد وقفت في مكاني يا سعيِّد مرة أخرى.
سعيِّد: وأنت وقفت في مكاني أيضاً.
حميِّد: وكلاكما يقف في مكاني…
وحيِّد: لقد ذهبتُ للسوقِ لشراءِ باقة وردٍ لكي أقدمها لخطيبتي “حياة” في حفلةِ الخطوبة.
حميِّد: “إي شكو بيها.”
سعيّدِ: لابدَّ أن تكونَ رومانسياً أمام أهل خطيبتك حتى لو كان قلبُك من صخرٍ” جلمود ما حن عليَّ.”
حميِّد: وستكون باقة الورود شاهدة على حبِكما.
وحيِّد: يا شاهدة الله يخليك، أسواق الورودِ كلها مغلقة تماماً!
سعيِّد: مغلقة؟ هذه أولُ مرةٍ أسمع أن عندنا أسواقاً للورود!
حميِّد: وماذا ستفعل؟
وحيِّد: (يخرج إناءً صغيراً فيه ماء وقد وضع وردة حمراء صغيرة في وسط الاناء) لقد وجدتُ هذه الوردةَ الذابلةَ في قارعةِ الطريق.. نظفتها من الغبارِ والطين، ووضعتُها في إناءِ الماء، قلت ربما تصحو قليلاً من ذبولِها.
حميِّد: ذابلة؟ (ينظر للوردة) ولكنها ليست بوردةٍ طبيعية!
وحيِّد: من يدري يا حميِّد؟ أفضلُ من أن أذهبَ بيدٍ خاليةٍ لحفلةِ الخطوبة.. إحراجٌ يا أخي من أهل خطيبتي، احراج…
سعيِّد: تظلُّ الوردة وردة حتى لو كانت ذابلة، والإشارة الضوئية ما زالت خضراء.
وحيِّد: وهل وردتي فقط من أصابها الذبول في هذه الحياة؟
حميِّد: لا عليك.. خطيبتك ستراها أجمل وردةٍ في الكون.
سعيِّد: العالمُ كلهُ ذابلٌ يحتاجُ الى نهرٍ كبيرٍ ليصحو!
وحيِّد: ومتى يمكن اللحاقُ بالحياةِ مثل السياراتِ التي تَخطفنا هكذا؟
سعيِّد: إشّا، للأسف.. جميلة زوجتي تشعرُ بالبردِ رغم أنني أدفِئها بروحي؟
وحيِّد: يقال.. من يحضن زوجته بدفءٍ يُطيل الله بعمرهِ عاماً كاملاً عن كُلِّ عناق، وهذا حديثٌ صحيحٌ متفقٌ عليه.
سعيِّد: إي متفق عليه، لذلك سأطيل البقاء في هذه الحياة! (يفتح كيساً صغيراً وضعه جانباً، يخرج منه ثوباً نسائياً أسود اللون) انظرا.. لم أجد في خزانةِ ملابس جميلة سوى علبة الماكياج اليابسة، يابسة “كلش” وهذا الثوب.. النفنوف الأسود!
حميّد: وهل هي طويلةٌ أم قصيرةٌ؟
حميِّد: أم بين بين؟
سعيِّد: من؟
حميِّد: زوجتك جميلة؟
وحيِّد: نحيلةٌ أم سمينة؟
حميِّد: “يقصد رشيقه لو متروسة”؟
سعيِّد: “متروسة شنو؟” أنا لم أعد أتذكر! ولكنني أتذكر فقط بأن جميلة لا ترتدي الملابس السود أبداً ولا أدري من وضعَ هذا النفنوف الأسود في خزانتِها!
وحيِّد: ربما كانت تتمرن على لبسِ السوادِ حداداً عليك يا سعيِّد!
سعيِّد: “برد حيلك.” عجيب.. حتى علبة الماكياج وجدتها يابسة!
وحيِّد: الماكياج يحزن أيضاً على صاحبتِهِ عندما تمرض!
سعيِّد: إي.. وقد مسحتُ دموع علبة الماكياج.
حميِّد: كيف سيلتقي الماكياج اليابس مع وجه جميلة اليابس هو الآخر؟
سعيِّد: عيب عليك، استحِ.. الماكياج ينتعش بوجهها!
حميّد: ما شاء الله.. هل سمِعتما بالخبر؟
وحيِّد: الأخبارُ متلاحقةٌ، تركضُ ركضاً.. والسياراتٌ مسرعةٌ تُريدُ اللِّحاق بخطيبتي حياة.
سعيِّد: وما الخبرُ يا جاري؟
حميّد: لقد طلبوا مواليدي للتجنيدِ أو الجنديَّة.. وسأذهبُ للحربِ لكي أقاتل الأعداء.
وحيِّد: إعداء؟ إياك أن تذهبَ للحربِ دون مِنجل يا حميِّد، فكُلُّ الأيامِ هناك من حصاد!
سعيِّد: إي.. المِنجلُ مهمٌّ هناك في الجبهة، ومن هم هؤلاء الأعداء يا سالم برأيك؟ أتعرفُهم؟
حميّد: لا والله؟ فأنا لم أتشرف برؤيةِ وجوهِهِم من قبل، لا بأس.. سيضعونني في جبهةِ القتالِ ويقولون قاتل فأقاتل الأعداء.
وحيِّد: ومتى ستذهب للحرب؟
حميّد: بعد شروق الشمس مباشرةً.. لا أخفيكم سراً، لم أحمل بندقية في حياتي، ولا أعرف كيف أطلق الرصاص!
سعيِّد: سهلة سهلة.. كلها طاك طيك ططك، أو ططك طيك طاك…
وحيِّد: وماذا ستفعل يا حميِّد؟
سعيِّد: هل ستواجه رصاص الأعداءِ بالشتائم مثلاً؟
وحيِّد: بالسبابة؟
حميّد: وكيف أواجه الأعداء بالشتائم يا سعيِّد؟
سعيّد: يعني يضربك برصاصةٍ في قلبِك مثلاً فترد عليه: لعنةُ الله على والديك فيسقط قتيلاً من شتيمتك!
حميِّد: قلتُ سآخذُ معي سكين المطبخ الطويلة لكي أقاتل بها الأعداء! ما رأيكما؟
سعيِّد: أنا افضِّلُ أن تقع أسيراً بيد الأعداء وتعود بعد أن تنتهي الحرب الطويلة مجنوناً والحمد لله.
وحيِّد: وهل تعرف كيف تقاتل بالمِنجل؟
حميِّد: نعم نعم.. فأبي كان فلاحاً قديماً يزرعُ ورود الياسمين مع الحنطة!
سعيِّد: أنا عن نفسي لم تقبلْ جميلة زوجتي أن أذهبَ للحربِ، وقالت أقبلُ بشرطٍ واحدٍ: أن أذهبَ معك للجبهةِ وأقاتلُ، وأغسلُ لك ملابسك ووجهك يومياً من ترابِ الموت!
حميِّد: ما هذه الرومانسية يا ربي؟
وحيِّد: لن أكون “وحيِّد” بعد أن تتم خطوبتي اليوم بسلامٍ وشموعٍ وزغاريد جميلة.
حميّد: والخبرُ السعيِّد.. يوم أمس استلمت شهادتي الجامعية من كليةِ الآدابِ قسم الفلسفة، وغداً سأذهبُ للحربِ لكي أقاتل الأعداء بفلسفتي ومِنجلِ أبي الفلاح.
سعيِّد: إي.. مقاتلٌ فيلسوفٌ شرس. أرجوكما أن تدعاني أعبر الشارع حتى لو كانت الاشارة خضراء، لقد تأخرتُ على جميلة، وأنتما تعرفان جيداً ماذا تعني ليَ جميلة!
حميّد: لالا.. لن ندعك تعبر الشارع، ستدوسُ السيارات على قلبِك الطيب.. فهي مسرعة.
سعيِّد: سأعبر وليكن ما يكون…
(يهمُّ سعيِّد بعبور الشارع ولكنه وحيِّد وحميِّد يمسكان به…)
وحيِّد: هذا تهور.
حميِّد: وقلّة إيمان.
وحيِّد: انتحار.
سعيِّد: ولكن جميلة كما تعرفان…
حميِّد: نعرف.
وحيِّد: ما هذه الرومانسية يا ربي؟
حميِّد: حرام…
وحيِّد: (لـ حميِّد) يا أخي ابتعد عن مكاني.
حميِّد: ابتعد عن مكاني أولاً فأبتعد عن مكانك.
سعيِّد: لن أسكت بعد الآن على احتلال مكاني.
وحيِّد: هذا استلاب…
سعيِّد: ايقاعكما بطيء.. “دمرتوني”. أتذكَّرُ جيداً أن خزانةَ ملابس جميلة كانت تمتلئ بالنفانيف والدشاديش والتنانير والقمصان أو ما يسمى بالكوستم وما شاكل… والقضية الكبرى لا أدري من سرقَ بدلة زفافِ جميلة التي كانت تقفُ بشموخٍ في خزانتِها لأربعينَ عاماً من العطاءِ والعنفوان.
حميِّد: دعنا من نفانيف جميلة، ذبحتنا…
سعيِّد: ولكن نفانيف جميلة…
حميِّد ووحيِّد: (معاً يقاطعانه) عقَّدتنا…
(صمت لثوانٍ فقط، ينظرون لإشارة المرور الخضراء بترقب…)
3-الاشارة مازالت خضراء تماما!
حميّد: (لـ وحيِّد) أنا……….. أودُّ اخبارك بأمرٍ لوحدِنا.
وحيِّد: أتمنى أن يكونَ خيراً.
(حميِّد ووحيّد يبتعدان عن سعيِّد قليلاً)
حميّد: ما رأيك أن نُخبرَ سعيِّد بالحقيقةِ؟!
وحيِّد: كيف نُخبره بالحقيقةِ يا حميِّد؟
حميّد: نقول له بأن زوجتك جميلة توفيت قبل أربعينَ عاماً في المشفى ودفنتها بيديك لكي تنتهي هذه الحكاية السخيفة! دمرنا يا أخي.
وحيِّد: لا يمكن.. أخافُ عليه، ستقتلهُ الصدمة وتقتل زوجته المتوفية جميلة معهُ أيضاً.
حميّد: جميلة الميتة تُقتل أيضاً؟ أهكذا تظن؟
وحيِّد: المسكين………… لقد أتعبنا كثيراً.
حميّد: قلبهُ متعبٌ هو الآخر.
صبريّه: وقلبي…
وحيِّد: ولكن ما ذنبنا نقف معه عند الإشارةِ الضوئيةِ منذ أربعينَ عاماً؟
حميّد: لالا، أنت تبالغُ كثيراً وتشتغل عندك نظرية المؤامرة.. إنها ستون ثانية ليس إلاّ، وستتحوّل الإشارة الضوئية من خضراء الى حمراء ونعبر الشارع بسهولةٍ ودهشة!
وحيِّد: ها……. وماذا تقترح؟
حميّد: دعهُ يعش هكذا على أملِ أن تخرجَ زوجته المتوفية من المشفى ويعودا للبيت!
وحيِّد: إي.. سيعودان للبيتِ سويةً بالرُغمِ من أنه كان حاضراً في دفنِها، ولكن من الأفضلِ أن لا نُخبرَهُ بشيءٍ أبداً الى أن يموتَ وينقرض.
حميّد: موافق، انظر إليه.. إنه ينتظرُ بسعادةٍ أن يعبرَ الشارع إليها سيراً على روحِهِ.
وحيِّد: وربما زوجته المتوفية هي الأخرى تنتظرهُ عند بابِ المشفى أن يعبرَ الشارع إليها رحمها الله.
(يتوقفان…)
4-الاشارة مازالت خضراء تماماً!
سعيِّد: (لـ حميِّد) أودُّ اخبارك بأمرٍ لوحدِنا يا حميِّد.
حميّد: أتمنى أن يكون خيراً يا سعيّد بوضعِ الشدَّة على الياء للتقليل من حجمِ السعادةً.
(سعيِّد وحميِّد يبتعدان عن وحيِّد قليلاً)
سعيِّد: ضميري أتعبني، ما رأيكما أن نُخبرَ وحيِّد بالحقيقةِ وتنتهي هذه الحكاية السخيفة؟!
حميّد: كيف نُخبره بالحقيقةِ يا سعيِّد؟
سعيِّد: نقولُ له بأن حبيبتك تزوَّجت منذ أربعين عاماً وأنجبت الكثير من الأولادِ والبنات.. وقد هاجرت منذ زمنٍ بعيد، وبالتحديدِ لقد هربت من البلاد!
حميّد: لا يمكن.. أخافُ عليه، ستقتله الصدمة وتقتل حبيبته التي لا تعلم أبداً بحبِّهِ إليها.
سعيِّد: إي، كان حباً من طرفٍ واحد.
حميّد: المسكين، كان يُحبُها بجنونٍ لدرجةٍ كان ينامُ على الحائطِ وقوفاً لأربعين سنة عند نافذتِها، ولكنه بصراحةٍ أتعبنا معه كثيراً.
سعيِّد: قلبُهُ متعبٌ هو الآخر.
حميّد: ولكن ما ذنبنا نقفُ معه عند اشارةِ المرورِ الضوئيةِ منذ أربعين عاماً.
سعيِّد: لالا، أنت تُبالغُ كثيراً وتشتغل عندك نظرية المؤامرة.. إنها ستون ثانية ليس إلاّ، وستتحوّل الإشارة الضوئية من خضراء الى حمراء ونعبر الشارع بسهولةٍ ودهشة!
حميّد: وماذا تقترح؟
سعيِّد: دعه يعش هكذا على أملِ أن يذهبَ في التاسعةِ فجراً لخطبةِ حبيبتهِ حياة التي تزوَّجت وصارت الآن عجوزاً.
حميّد: أظنهُما سيعيشان بسعادةٍ لا تُوصف بعد يومِ القيامة!
سعيِّد: هو وخطيبتُهُ العجوز التي تزوَّجت وأنجبت الكثير من الأولادِ والبناتِ الحلوات، ولكن من الأفضلِ أن لا نُخبرَه بالحقيقةِ الى أن يموتَ وينقرض.
حميِّد: إي…… وحيِّد.. أكلَ اصبعه البنصر لذلك لن يضع خاتم الخطوبة في يده.
سعيّد: ولم يترك سوى اصبع السبابةِ لكي يشتمُ به الحياة التي شتمتُه كثيراً…
(يتوقفان…)
5-اشارة المرور ما زالت خضراء جداً جداً!
سعيِّد: (لـ وحيّد) أودُّ اخبارك بأمرٍ لوحدنا.
وحيِّد: أتمنى أن يكونَ خيراً.
(وحيِّد وسعيِّد يبتعدان عن حميِّد قليلاً)
سعيِّد: ما رأيكما أن نُخبرَ جارنا حميِّد بالحقيقة وتنتهي هذه الحكاية السخيفة؟
وحيِّد: كيف نُخبره يا سعيِّد؟
سعيِّد: نقول له بأنك ميت! ميتٌ ببساطة.. فقد ُقتلتَ في الحربِ منذ أربعينَ عاماً يا حميِّد!
وحيِّد: أخافُ عليه، ستقتله الصدمة!
سعيِّد: يُقتلُ مرةً أخرى؟
وحيِّد: المسكين.. قُتلَ في الحربِ بعد أن تخرجَ من كليةِ الآداب.. قسم الفلسفة.
سعيِّد: ولكن الحرب يا وحيِّد لا تعرف الفلسفة فهي معقدة!
وحيِّد: وما ذنبنا نقف مع ميت عند اشارةِ المرورِ الضوئية منذ أربعين عاماً؟ يا فلسفة يا بطيخ…
سعيِّد: لالا، انت تبالغُ كثيراً وتشتغل عندك نظرية المؤامرة، إنها ستون ثانية يا وحيِّد.. وسنعبر الشارع بعدها.
وحيِّد: وكم بقي من الثواني برأيك؟
سعيِّد: عشرُ ثوانٍ أو أقل.
وحيِّد: إذن دعهُ يعش هكذا على أملِ أن يعودَ من الحربِ حياً وسالماً لكي يستمر بدراستِهِ العليا للفلسفة! ولا تنس بأنه ذهبَ للجبهةِ بمنجلِ والدهِ الفلاح الذي كان يزرعُ ورود الياسمين مع الحنطةِ فالحربُ حصاد!
سعيِّد: ولكن رصاص الأعداءِ لا يقرأ الفلسفة ولا يعترفُ بالياسمين.. ناهيك عن الحِنطة!
وحيِّد: إي، دعونا لا نُخبره بأنه قُتلَ في الحربِ وشَبِعَ من الموت!
سعيِّد: انظرا إليه.. انه ينتظرُ أن يعودَ من الحربِ حياً وسعيداً ويحقق أحلامه الفلسفية بدهشة.
وحيّد: الله يرحمه…
(ينظرون بسعادة لإشارة المرور الخضراء، إنهم يبتسمون ببراءة وحب وسعادة، ويظلون هكذا دون حركة حتى شروق الشمس، أو هكذا نظنهم…)
(انتهت)
العراق- الناصرية 2022