مسْكُ اللَّيْلِ.. (مونودراما) للكاتب المصري: إبراهيم الحـُـسيني

المسرح نيوز ـ القاهرة: نصوص
ـ
مِسْكُ اللَّيْلِ..
مونودراما
إبراهيم الحـُـسيني
نوفمبر 2021
اللوحات المصاحبة: للفنان التشكيلي المصري كلاي قاسم
مسك الليل
ــ مونـــــــودراما ــ
مسك الليل: سيدة فى الأربعين من عمرها، تحتفظ بجمالها رغم ما يحمله وجهها من هموم، لها من اسمها نصيب.
هوامش صغيرة :
ـ مسك الليل هو نبات عطري، تفوح رائحته في المساء، ويظل بلا رائحة طوال النهار.
ـ المونودراما عن عـدّة حوادث حقيقية حدثت في أوقات متفرقة، ضرب فيها السيل بعض القرى القريبة من الجبل وقتل فيها الكثير من الناس.
ـ عناوين المشاهد مجـرّد عتبات أولية قد تفيد القاريء، لكن لا تُلزِمُ المخرج بشيء.
ـ المزج ما بين السينمائي والمسرحي وتقنية الهولوجرام، يضيف للصورة، ويثري أبعادها، ويمنحها جماليات متعددة.
1))
رياح أولى
[قرية الجبل، منتصف الليل، يظهر جبل شامخ كوتد عملاق فى خلفية الفضاء المسرحي، تتفرع منه منحدرات جبلية هابطة لأسفل تظهر عليها بيوت صغيرة مبنية من الطين، فى الوادي أسفل الجبل تظهر في الجهة اليمنى مقابر القرية لها شواهد من الأخشاب وملقى عليها بعض الورود وسعف النخيل، فى اليسار منزل “مسك”، وعلى بابه مصباح جاز مشتعل، فى الوسط ساحة القرية حيث شجرة جافة، مكومة تحتها أجولة الغلال وحطب الذرة، الصورة شاحبة جدا، الرياح تشتد فجأة ويعلو صفيرها، السماء تبرق وترعد بقوة، ثم ينهمر المطر.
تضاء شاشة عرض على حائط بيت “مسك” تظهر عليها سيول المطر وهى تنهمر بغزارة، يهتز فتيل مصباح الجاز بسبب الرياح، صرخات متتالية تتعالى، تضاء أنوار البيوت المختلفة واحدا بعد الآخر.
تظهر “مسك” من داخل المقابر، تبدو كامرأة عجوز، تعافر للخروج من تحت الأرض، شعرها منكوش، ملابسها متسخة، ووجهها مُترب، تتسند على عصا طويلة، يظهر صوت نهجانها عاليا، تتقدم بخطى بطيئة لمنتصف الفضاء المسرحى، تخاطب أشخاصًا غير موجودين]
مســـــــــــــك:
ألم أقل لكم إن الطوفان قادم، هل تستطيعون الآن الحفاظ على أرواحكم أو حرمات بيوتكم؟ هل يمكنكم مواراة جثث أهاليكم تحت التراب؟ أم أنكم عاجزون عن فعل أى شىء؟ [تدور وتبحث عن الناس] أين أنتم يا من اتهمتمونى بالجنون؟ هل تستطيعون رفع جباهكم والنظر فى عينى من دون خزى أو عار؟
[تنظر “مسك” لبيوت القرية في غضب، تنطفيء مصابيح البيوت واحدا بعد الآخر، ابتسامة ساخرة ترتسم على وجه “مسك”، تثبت حركتها، تنظر ببطـء لأعلى في حالة قلق وتساؤل، إظلام تدريجي].
2))
سن الألم
[بؤر ضوئية متنوعة، تظهر داخلها “مسك” في ساحة القرية وقد تحـوّلت لحجرة تحقيق، “مسك”، تجيب عن أسئلة يبدو أن هناك من يوجهها لها، وضعياتها المختلفة تعبر عن مرور الزمن]
مســـــــــــــك:
اسمى “مسك”، وأهل القرية ينادونني مسك الليل [تلتفت وكأنها تتلقى سؤالاً آخر] يطلقون على هذا الاسم لأنني أسهر طوال الليل وأنام في النهار، أنا أيضاً الوحيدة بين نساء القرية التي تعلق مصباحا صغيراً على بابها ينير الطريق للمارة عندما يختفي القمر [تلتفت لمكان آخر وكأنها تتلق سؤالاً جديداً] أعمل بصناعة العطر في منزلي، لذلك يحب أهل القرية أن يمروا في الليل أمام بيتي، المصباح يؤنس طريقهم وروائح العطر تنعش أرواحهم
[تنظر لجهة أخرى] سأجيب أسئلتكم كلها لكن هل يمكنكم الظهور أمامي حتى أرى من يسألني، هل أنتم مجموعة من المحققين؟ أم محقق واحد له قدرة على تغيير نبرات صوته ليبدو وكأنه عشرة محققين، لا داعي للغضب فأنا امرأة بسيطة ووحيدة ولا طاقة لي بغضب أحد [تتوقف لحظة ثم تــُـجيب] لا، لم أكن وحيدة طوال عمري، كان لى زوج وابنة، ولكنهما ماتا في السيل الماضي [صمت]
لا يا سيدي ليس فى العام الماضي بل أعني “في السيل الماضي”، سأخبرك بالأمر، قريتنا كما ترى تقع على منحدر الجبل وأسفل المنحدر تقع المقابر، لا أعرف من صاحب فكرة أن يسكن الأحياء منحدرات الجبال بينما يسكن الأموات الوادي المـُـطل على النهر، قالت لى جدتي: [تــُـقلد صوت الجدة] ـ الوادي منخفض يا بنيتي، والنهر من عاداته أن يفيض كل عام، لذا خفنا على الأحياء من الغرق، [ بضحكة ساخرة ] خافوا على الأحياء وتركوا الموتى للفيضان، الموتى لن يموتوا ثانيةً على أية حال، لم يـُـفكر الأجداد بأن السيل من الممكن أن يأتيه من أعلى
[ترهف السمع] كيف أتى من أعلى؟ سأقول لك، أتى عندما… [تتوقف، ثم تصرخ] لماذا تتلهف على معرفة كل شيء في لحظة واحدة، أنا سيدة موشومة بالجنون وباللعنة، أنهكها الفقد والمرض، أنتم تحققون معي كمتهمة بسبب من مات حرقاً أو غرقاً في السيل الجديد
[ تظهر وكأنها تتلقى سؤالاً جديداً] عمري إن قسته بالألم سيكون كبيراً، لكنه بالسنوات قليل، أنا في الأربعين من عمري، يـُـقال إنها سن النضوج، بينما أسميها سن الصدمة، فالمرأة عندما تبلغ تلك اللحظة تدرك أنها لم تعد شابة، وتكره في الوقت نفسه أن يرونها كبيرة، تعرف أكثر عن طبيعة الحياة والناس، ثم تتألم بسبب هذه المعرفة، إنها سن الألم، ويمكنك القول بأنني جاوزت سن الألم بقليل.
[تحني رأسها للأسفل في انكسار، إظلام].
3))
طقس سيئ
[بؤرة ضوئية تعلو تدريجياً، تدخل إليها “مسك”، نرى يديها مقيدتين خلف ظهرها، تحدث شخصاً]
لا تخف، لن أهرب، لم تعد لديّ قدرة على المقاومة؟ [تجد منضدة متهالكة وعليها أوراق وأقلام] هل تريدون أن أكتب أقوالي هذه المرة؟ ليس لديّ جديد لأقوله، رويت لكم الحادثة عشرات المرات، وجوه كثيرة مرت وحققت معي، وقلت كل شيء [صوت بوق قوي، ترتعب] سأحاول [تكتب] كان الوقت فجراً عندما حدث ذلك [تتوقف] لحظة أيها المحقق، هل تريد مني قول الحقيقة؟ أم قول ما تعتقد أنه الحقيقة؟ يمكننى إلقاء اللوم على الطقس كما تقولون، نعم، كان طقساً سيئاً تسبب في الدمار والهلاك، لكن لماذا لا نسأل عمن أفسد الطقس وخرّب الأرض؟
[ترتعش فجأة] لا تصرخوا فى وجهي، سأقول ما تريده [لحظة تفكير، ثم بملل] أنا يا سيدي المحقق من أنزل المطر وأحدث البرق والرعد وأرعب القرية كلها، بعدها أشعلت النيران، بيوتنا مبنية من الطين والخشب ومعروشة بجذوع الأشجار وجريد النخل ويسهل حرقها، نبشت بعد ذلك قبور الموتى وأخرجت الجثث وأحرقتها ثم جلست أدخن سيجارتي، كان دخانها يرسم دوائر رمادية داكنة تظلل رأسي ثم تعلو لتذوب فى السماء، خلاصة الأمر أنا أعترف بأنني سبب مصائب هذا الكون، هل يمكن أن ننهي هذه المهزلة؟ يجب أن تنتهز اعترافاتي وتدفع بأوراقي للمحكمة مع توصية بالشنق، كل ما أريده الآن هو أن أغمض عيني وأفتحها مرّة أخرى على واقع جديد أكثر وضوحاً وصدقاً مما نحن فيه.
[تعطي ظهرها للجمهور، تتجه لعمق الفضاء المسرحي لكنها تتوقف فجأة وهي تحدق بنظرها في غضب]
4))
معظمهم لا يصدق الحقيقة
[تتقدم “مسك” إلى حافة خشبة المسرح، نراها تخلصت من قيودها، تنظر بقـوّة إلى اللا شيء]
مســــــــك:
نعم أنا أكذب، هل عرفت ذلك بمفردك؟! قلت الحقيقة مرّات عـدّة لكنك لم تصدق، مللت من نفسي ومن تكراري للكلمات، لماذا لا تظهر لي؟ هل تخشى مقابلتي؟ أم تفضل مساءلتي عبر الكاميرات، حقي أن أراك كما تراني [لحظة صمت] اسمح لي بأن أتناول الدواء [تنصت لصوتٍ ما] لا تشغل بالك بما أعاني، فهذا شأني وحدي، كل تلك الآلام تخصني وألفتها، صار المرض فصلاً من فصول يومي، أتعذب معه وأفرح معه، أحمله أينما ذهبت [ساخرة] أو يحملني هو، آلام العظام تزداد، جسدي يخونني دوماً، أريد الجلوس، الدم يندفع داخل عروقي محاولاً تفجيرها كي يتحرر
[تجلس على كرسي متهالك] كل مقاعدكم غير مريحة، اسمع، يمكن أن تصدق ما تراه قابلاً للتصديق من كلامي وتقم بفعل ما، أي فعل، أريد إنهاء تلك اللحظة، سأقول لك ما حدث في قريتنا لآخر مـرّة ولك أن تصدق أو لا، إنها الحقيقة ولا أملك غيرها، أرجوك انصت، فلن أكرر لو قتلتموني.
[تصدر كحة خفيفة، تزداد حالة الكحة حتى تكاد “مسك” تقع على الأرض، يتعالى نهجانها، تقع، تحاول النهوض بصعوبة].
ربما تكون هذه آخر كلماتي، لست متشائمة ولكنه المرض، هل جربت آلامه، أنا لا أتمناها لأحد، لا تخف فمرضى ليس مُـعدياً، يمكنك أن تظهر وتلمسني بلا خوف، يا سيدي إنه المرض [لحظة صمت، تكمل] المرض اللعين، هل تعرفه؟ [تسمع ثم تنفجر] لن أكتب على هذه الأوراق شيئاً فانصت واسمع ما حدث لآخر مـرّة.
[تغير في الإضاءه، تتحـوّل للون أبيض خافت يناسب بداية ظهور الفجـر، تظهر أصوات زقزقة العصافير]
5))
تمـرّد السيـل
[تفوح رائحة جميلة، “مسك” داخل منزلها تعبئ زجاجات العطر، حولها أصص نبات “مسك الليل”، تظهر لمبة الجاز خارج دارها مضاءة، تتصاعد أصوات الرعد، تفتح النافذة، يظهر البرق والرعد عنيفاً في الخارج]
مســــــــك:
كانت ليلة شتوية باردة، الرياح تعوي في الخارج كطفل جائع يريد التهام أي شيء، انطفأ المصباح بسبب الرياح، ساد الظلام وعوت أصوات الرياح، كادت تصم أذنيَّ، بيتي يهتز من قـوة ضربات الرعد، حتماً سيتهدم البيت، تلفحت بعباءة زوجي وصعدت لأعلى السطح لأرى ما يحدث، أول ما صادفني نقرات بحجارة صغيرة فوق رأسي، رفعت عينيَّ لأرى السماء، تساقطت قطع صغيرة من الثلج، البرق يـُـنير القرية كشمس وهاجة، هل هذا هو يوم القيامة؟ شيء كبير جداً سيحدث الليلة، لا أعرف ما هو، لكنه حتماً سيحدث، اختفيت بين ثلاث من صوامع الغلال الممتلئة بالقمح فوق سطح البيت، راقبت ما سيحدث، وجدت شيئاً يدفعني من الخلف ومن الأمام ويقبض على جسدي وأنفاسي، ما هذا؟ نظرت حولي مرعوبة فوجدت صوامع الغلال تضيق على جسدي وتحاصره، ذابت الصوامع بسبب المطر، تحلل طينها والتصق بجسدي وتناثرت حبات قمحها كشلالات صغيرة، خرجت من بينها زحفاً على قدمىَّ ويدىَّ، تلك اللحظة أضاء البرق الدنيا فرأيت سيول المطر تتفجر من فوق الجبل وتجرف في طريقها للوادي كل شيء أمامها، السيول تقترب من البيوت، صرخاتي لن تستطيع إيقاظ أهل القرية، الرياح تخفي صرخاتي بزمجرتها العالية، المطر لم يتوقف لثانية طوال الليل، الشوارع غـرقت، الأسطـح تميل، البيوت تتحـلل، الناس تصرخ وتجـري بلا هدف، السماء تنتفض وتعلن غضبها العارم، الطبيعة تعاقبنا على شيء ما، لا بد أننا قد فعلنا ما أغضبها كي تصب علينا جام غضبها بهذا الشكل.
[تعرض الشاشة مشاهد مختلفة حقيقية ومتخيلة لغضب الطبيعة، “مسك” تقف في حالة ارتباك كبيرة، يهتز سطح البيت، تسقط أرضاً، نظراتها متجمدة.. إظلام]
6))
غضب الطبيعة
[بؤرة ضوئية صغيرة تتسع تدريجياً على وجه “مسك” تظهر حالة الرعب البادية عليها]
مســــــك:
لم تعد عيناي قادرتين على رؤية ما حولي، بحثت عن مصباح السطح القديم وأشعلت فتيله في خلسة من الأمطار والرياح، رفعته لأعلى لأتبين ما يحدث، [تتوقف وكأنها رأت شيئاً أرعبها] لا أستطيع أن أرى، لم يكن ينقصنا إلا ذلك، سنحترق جميعاً، السيول حطمت في اندفاعها براميل الجاز المُعلقة أعلى الأعمدة تلك التي يخزّنها أهل القرية لاستخداماتهم، السيول اقتلعتها من جذورها، تحطمت جميعها، وطفا ما بها من جاز فوق سيل الماء، قدماي تغوصان لأسفل، سقف البيت يترنح تحتي، توازني يختل، أسقط رغماً عني لأسفل، حوائط البيت تحللت أمام قوة المطر، ما زلت أغوص في حطام المنزل، تيار الماء يجرفني أنا وحطام البيت معه للوادي، رفعت مصباح الجاز لأعلى، فتيل المصباح ما زال مشتعلاً، غطّى الماء والجاز رأسي، سقط المصباح من يدي واشتعل كل شيء فجأة، ما هذا الرعب؟
ـ رياح ومطر وثلج، برق ورعد، نيران تأكل كل شيء، بيوت تتهاوى وأطفال يصرخون، الغضب يحاصرنا ولا مفر..
[لحظة أسى، ترفع “مسك” رأسها لتجيب]
لم أشعل النيران، سقط المصباح من يدي ولم أحطم براميل الجاز كي أمهّد للاشتعال، توقف الزمن وحدث كل شيء في لحظة خاطفة، نحن لا نشعر بالكوارث وقت حدوثها، إنها تباغتنا فلا ندري من أمرنا شيئاً، لا أصدق أنني أحيا حتى الآن، لم أمت من تهدم البيت، ولا من الغرق، أو النيران، كنت أجاهد للبقاء ولم يتبق لديّ إلا نفس أخير، لمست قدماي في تلك اللحظة جذع نخلة مشقوق، كان زوجي قد شقّه بالطول لنصفين واستخدمهما في تعريش السقف، أمتنا عشرات النخيل من أجل بناء أسقف تحمينا حر الصيف وصقيع الشتاء، تمسكت بجذع النخلة، جرفني السيل من المنحدر لأسفل الوادي، لحظات السقوط عنيفة ومروعة، تأرجحت كورقة شجر ذابلة يمنة ويسرة، تخبَّط رأسي ما بين الأشجار وحوائط المنازل المتهدمة، ما زال الجبل يـُـلقي بحمم السيول علينا، هذا هو الجحيم بعينه، من بين ركام المنازل تخرج صرخات الناس، جميعنا يـُـقاوم ويـُـحاول الاحتماء من النيران بالغطس داخل الماء أو بالصعود لمكانٍ مرتفع، الطبيعة تكشر عن أنيابها ولا عاصم اليوم من أمر الله، لا حيلة لنا في معاندة التيار، قلت لنفسي.
ـ لو كانت هذه هي النهاية فلا داعي لمقاومة الموت.
وجدت نفسي أستسلم للموت، ها هي مسك الليل تموت غرقاً واحتراقاً، يا الله، هل هذا هو يوم القيامة حقاً؟ إن كان أمر الله سينفذ فلينفذ الآن، أغمضت عينىَّ وفردت ذراعىَّ على سطح الماء وهتفت عالياً.
ـ مرحباً بالموت.
[تتمدد على الأرض وكأنها تستريح وتتخفف من كل شيء، تغمض عينيها في هدوء، تتلاشى الإضاءة].
7))
ونـــس الليــــــل
[مقابر القرية، تتسع البؤرة الضوئية الصغيرة عندما تعثر على “مسك” حيث نراها وقد بدأت في التحرك]
مســــــــك:
اشتقت للأحباب الذين فارقونا، سنلتقى بعد دقيقة واحدة، سآتي لكم راضية مرضية وفي هدوءٍ تام [تبتسم] برغم النيران والصرخات وجثث الموتى حولي، أحب أن ألقى الله وأنا مبتسمة، ها أنا ذا أتهيأ للقاء ذلك الوحش الأسطوري المُـسمى بالموت، ما هذا؟! أليست هذه هي شجرة النبق الكبيرة التي تتوسط مقابر قريتنا؟ [بملل] اللعنة على ذلك الأمل المخاتل الذي يتجدد ولا يموت.
[تتحسس نفسها]
ـ أنا لم أمـُـت، كيف حدث ذلك؟
تشبثت بأحد الفروع بقـوّة، التعب أنهك قواي، ياللعجب! عندما استسلمت للموت لم أشعر به لكنني عندما تمسكت بالحياة، اخترق جسدي كرمح مارق، روحي تنسل الآن من جسدي.
ـ هل التمسك بالحياة مـُـرهق إلى هذا الحد؟
شعرت بشيء أملس تحت قدمي، جذبته لأعلى فإذا به جثة لفتاة ماتت حديثاً [تتأملها صارخة] أعرف هذه الفتاة جيداً، إنها ونس ابنة صاحب مشتل الورد بجوار النهر، لقد أتت مـِـراراً إلى داري، كانت تحب شراء العطر مني، رائحة العطور الأوروبية كانت تستهويها، لم تقنع يوماً بما أقلده منها، لكنها كانت تقول: [تقلد ونس] ـ العطر المُـقلد أفضل على أية حال من لا شيء.
ذات ليلة وجدتها تطرق باب داري وتهديني مجموعة من أصص الزرع، سألتها:
ـ ما هذا يا ونس؟
أخبرتنى بعينين ضاحكتين أنها تهديني إلى نفسي [تكرر بتساؤل] تهديني إلى نفسى؟! ما هذا التعبير الغريب؟ لمحت الفتاة الذكية السؤال على شفتيّ من دون أن أسأله فشرحت لى المعنى، قالت بصوتها المترنم كقيثارة سماوية.. [تقلدها] ـ هذا هو نبات مسك الليل..
ـ مسك الليل … إنه اسمى..
ابتسمت وهى تحنو بلمستها الرقيقة على أوراق النبات وقالت.. [تــُــقلدها] ـ مسك الليل يحمل سراً لا يبوح به إلا لمن يحبه، نراه كامناً طوال النهار من دون أي فائدة إلا شكله الجميل وأوراقه شديدة الخضرة، لكن في الليل يتحـوّل لقنينة عطر باريسي، يتـوّهج بالحياة، يتشبع بالعشق باذلاً كل الجهود لإسعاد من يحب، يستطيل فارداً وريقاته وناثراً عبرها عطره الفواح..
بسبب مسك الليل صارت داري في الليل مصنعاً صغيراً لصناعة العطر المـُـقلد، وحديقة فواحة بالعطر الطبيعي [تضحك بقـوة] أهدتني ونس إلى نفسي، أهدت مسك الليل إلى مسك الليل، هذا النبات بدد وحدتي الليلية، كنت أتحدث إليه، أشكو له، كثيراً ما تخيلت أنه يرد علي … لا، لم يكن تخيلاً، كان مسك الليل يرد دوماً على مسك الليل.
[تتأمل ما حولها في رضا وتسرح بخيالاتها بعيد، إظلام].
8))
حـــد الألـــم
[دفقات من العطر تنتشر في الأجواء، تظهر إضاءة صباحية، “مسك” ترقص وكأنها تسبح في الفضاء].
كنت أحكي بالكلمات، ومسك الليل يرد بهمس العطر بدلاً من الحروف، حكيت له كيف فقدت زوجي وابنتي عندما فاض النهر وأغرق الوادي، كنـّـا ليلتها نحتفل بحصاد القمح، نرقص ونغني ونحلم، زام النهر وأطلق صرخة ألم أسقطت الأحلام منا، ضاق مجرى النهر ففاض ماؤه علينا وأغرقنا، كانت ليلة شبيهة في رعبها وعتمتها بهذه الليلة [صمت، تضع رأسها بين كفيها] عندما انتهى الفيضان لم نجد الحصاد ولا البشر، أحدهما اختطف الآخـر، أو يبدو أن هناك شيئاً أكبر أخذهما معاً، بعد يوم وليلة كف النهر عن إغراقنا وظهرت الجثث، لم تستطع القرية أن تفتتح لكل جثة قبراً خاصاً، حفرت قبرين اثنين، أحدهما للرجال والآخـر للنساء [تكتم تأثرها] كلما أردت زيارة قبر ابنتي أزور كل فتيات ونساء القرية المدفونات معها [تنتبه لجثة ونس] يالحسرتي! لقد دفنت ابنتي عاليا بالقرب من ونس، والآن نبش السيل القبور، وأكلت النيران الأحياء والأموات بلا تفرقة، من سينقذ من؟ سيل الماء يعلو وألسنة الحريق ما زالت تتأجج، درت كالمجنونة أبحث بين الجثث عن ابنتي.
[تـُــقلب في الجثث، تجري هنا وهناك]
ـ ما الذي أفعله؟ كيف أبحث عن إبرة في كوم من الجثث؟ هل أصابني الجنون؟ كيف لي أن أعرف إبنتي بعد عام من وفاتها؟! العظام والجماجم تتشابه، رائحة الموت واحدة..
لم أجد يا سيدي المحقق أي سبيل يوصلني لابنتي، لذا قررت انتشال كل الجثث التي أخرجها السيل وأقلق رقادها، فلربما كانت عظام ابنتي بينها، ظللت أنتشل الجثث الطافية وأجري بها إلى حافة الربوة العالية حيث لا تصل مياه المطر، ضربات القلب تزداد، الوجع يكسرني لمائة قطعة، انهارت قواي، ركنت رأسي فوق عظام الأهل ونظرت للسماء في استعطاف كبير:
ـ لماذا تغضبين علينا؟
كانت السماء ملبدة بالغيوم، رمادية داكنة، نور الصباح يـُـجاهد في الظهور عبرها، لا أعرف كم مر من الوقت وأنا على هذه الحالة، ربما نمت قليلاً أو سرحت بخيالي، فتحت عينيَّ ببطء لأجد ما تبقى من أهل القرية يلتفون حولي وهم ينظرون لي في غضب، كانت خيوط النور الباهتة تتسرب من بين رؤوسهم المحيطة بي، ظهر النور أخيراً وتوقف المطر كأن شيئاً لم يحدث، سمعتهم يتهامسون [تؤدي كلماتهم بأداءات وتونات صوتية مختلفة]:
ـ هي من أحرقت القرية.
ـ نبشت قبورنا بلا رحمة وأخرجت جثثها لتمثل بها.
ـ كنت أعرف أنها مجنونة.
ـ الوحدة وفقد زوجها وابنتها أصاباها بالخرف المبكر.
ـ إنها تخاوي الجن وتسلطه على الناس.
ـ نشترك جميعاً في قتلها والتمثيل بجثتها كما مثلت بجثثنا.
ظل الغضب يتراكم لحظة بعد أخرى في عيونهم، كانوا منشغلين بالانتقام مني أكثر من انشغالهم بدفن موتاهم، لم أتفوّه بكلمة، تركتهم يقررون مصيرى كما يشاءون، كنت فاقدة لأي رغبة في الدفاع عن نفسي، الموت هو الموت على أية حال، لن يعذبني الغرق أو الحرق أو الموت بالرصاص، فأي ألم لن يضاهي أبداً ألم المرض اللعين!
[تهتف عاليا]
ـ يا الله! ما الذى جرى معه؟
كانت آخر لحظة شعرت بآلام المرض اللعين قبيل السيل بلحظات وأنا أعبيء زجاجات العطر، وخز الألم كان كمسامير مسنونة تنخر جسدي وعظامي بلا رحمة، المسكنات لم تعد قادرة على تخفيف آلامي التى لا أتمناها لأعدائي [تتذكر] ومنذ تلك اللحظة التي اشتدت فيها الرياح وعلا صوت الرعد، لحظة أن قررت الصعود للسطح نسيت الألم تماماً ولم أشعر به طوال رحلة موتي الأخيرة وكأنني تعافيت منه [تعود للتألم] لكنه يعود الآن مـرّة أخرى وكأنه يعمل عندما نتذكره.
[تأخذ نفساً عميقاً، تدور باحثة عن شيء ما، إظلام].
9))
حـــــافـة الانفـجـــــــار
[تتوقف فجأة وتصوب عينيها تجاه كاميرا مُـعلقة بالقرب من السقف]
مســــك:
هذه هي الحقيقة يا سيدي المحقق المختفي خلف النوافذ والكاميرات، فهل ما زلت ترى أنني من أحرقت القرية ونبشت قبور موتاها، هل أنا فعلاً تلك المرأة الملعونة التي أصابت لعنتها القرية؟ أنزلت المطر من السماء، كونت بحيراته فوق الجبل ثم تركتها تنهمر منه لتغرق القرية كلها؟ قل لي ولا تخف شيئاً، هل أنا اللعنة؟ أم المطر؟ أم الناس؟ أم هذا العالم الذي صنع القنابل والغازات وملأ الأرض بالسموم والهواء الفاسد؟! هل أنا من أحرقت الزرع وسممت الثمر وغيرت طبيعة الأرض؟ هل أنا من أوصلتها إلى حافة الانفجار؟ أما زلت ترى أن مسك الليل هي من أوجدت هذا الطقس السييء الذى راحت ضحيته القرية كلها؟
[تتعالى ضحكاتها الساخرة والأسيانة]
ـ لماذا لا ترد؟
نحن يا سيدي من ندفع من هوائنا وأرواحنا كي تمتليء جيوب غيرنا بالذهب، هم من أفسدوا خيرات الأرض وثرواتها ونحن من نسدد الفواتير عنهم، إن كان هذا يرضيك فاصدر حكمك وأنا راضية به، وإن شئت فلتصدق ما قلته، ولتعرف أنني لم أقل سوى ما حدث دون خداع أو زيف، كل ما أرجوه منك أن تتخذ قرارك بسرعة، فالألم بدأ في قتلي [تتآوه من الألم] اصدر حكمك ولا تكن بطيئاً، كن سريعاً وناجزاً وموجعاً مثل الألم، فقدت قدرتي على محاربة المرض اللعين وتغيير عقول الناس، دعهم يصدقون أنني ملعونة ولتقرر أنت شنقي حتى تشفى غليلهم، لكن لا تنسى أن تخبرهم بدفن الموتى جيداً وإعادة بناء بيوتهم في مكانٍ آخـر لا يطاله الفيضان أو السيل، أخبرهم أن يهدهدوا أرضهم، أخبرهم أن يحافظوا عليها ولا يبصقون كل يوم على وجهها، لا تدعهم يقتلون الأشجار [بقـوة، تظهر كأنها تخاطب جميع أهل القرية] دعوا الأرض تتنفس، لا تزعجوا السماء بنفاياتكم وأنفاسكم الغاضبة، ولا تلوثوها بغازاتكم السامة، الأرض عجوز بما يكفي لقتلها لو استمر الحال على ما هو عليه، شوهتم التاريخ وغيرتم الجغرافيا، الأرض تتألم أكثر مني، أنا وهى نموت الآن معاً، كلانا يعاني من المرض اللعين، السيل القادم لن يرحم أحداً، إن كان قد نجا البعض هذا العام فلن ينجو أحد في الغد، جهزوا أنفسكم من الآن وابحثوا عمن ستتهمونه العام المقبل بإنزال السيل وإحراق القرية [تتجه مسك للخروج لكنها تتوقف وتعود بنظرة متحدية] قلت لكم ما عندي وليست لديّ أقوال أخرى [تلقى بالأوراق الموجودة على سطح المكتب] لن أكتب شيئاً، أسرع واصدر حكمك سيدى القاضي، أو فاتركني أنتظر موتي في هدوء، ففي كل الأحوال لن أكون بينكم عندما يحل عليكم السيل القادم.
[تتجه للخروج، في طريقها تحطم كل شيء يصادفها، تبذل مجهوداً كبيراً إلى أن تسقط هامدة على الأرض، وسط الحطام تظهر رأسها وهي تنتفض بشدة، تطلق صرخة عالية، تبدأ في الاختفاء تدريجياً وسط الحطام، خفوت تدريجي للإضاءة، تبقى فقط بؤرة ضوئية صغيرة تجاهد في العثور عليها ثم سرعان ما تنطفيء سريعاً].