د . ياسر البراك يكتب: بغداد تلبسُ قناع المسرح ..

المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات
ـ
د ـ ياسر البراك
ناقد وأكاديمي عراقي
في كل خريف ، تتبدّل ملامح بغداد . المدينة التي عرفت الحروب والرماد ، تستيقظ فجأة على ضوء كشافات المسرح ، وكأنها تتذكّر أنها خُلقت لتروي لا ليُروى عنها .
هنا يبدأ مهرجان بغداد الدولي للمسرح ليس بوصفه مناسبة فنية فحسب ، بل بوصفه طقساً إحتفالياً تُعيد فيه العاصمة ترتيب نبضها عبر لغة الضوء والصوت والحركة .
في المساء ، تزدحم القاعات بأصوات الممثلين ، والحوارات تخرج من النصوص لتسكن عيون الجمهور . وتتلاقى لغات متعددة فوق الخشبة ، لكن ما يجمعها هو الرغبة في قول الحقيقة بطريقة جميلة . المسرح في بغداد لا يكتفي بأن يُعرض ، بل يُقاوم ، يبتسم على الرغم من التعب ، ويُصرُّ على أن الفن ما زال قادراً على ترميم ما تهشّم في الروح .
تأتي الفرق من العالم بأسره : من باريس وبيروت وقرطاج وعمّان ، تحمل تجاربها وأسئلتها ، وتترك بصمتها على ذاكرة المدينة . أما الشباب العراقيون ، فيصعدون الخشبة بثقة من يبحث عن مكانه في الضوء ، ليقولوا : نحن هنا ، لدينا ما نقوله أيضاً .
العروض لا تُقدَّم فقط لتُشاهد ، بل لتُحس . الممثلون يتحولون إلى شهود على قضايا الإنسان ، والضوء يرسم على وجوههم ملامح الأمل . وفي القاعات المزدحمة ، يتوحَّد الجمهور في لحظة إنصات نادرة ، كأن بغداد نفسها تستمع إلى حكايتها من جديد .
مهرجان بغداد الدولي للمسرح ليس مهرجاناً لقول الحقيقة فقط ، بل حوار مفتوح بين مدينة تُحب الحياة وفنّ لا يعرف الإنطفاء . إنه لحظة تصالح بين الماضي والمستقبل ، بين ما كان وما سيكون ، حيث تتحول بغداد إلى مسرح كبير تتقاطع عليه الحكايات والوجوه والأحلام .
إنه أكثر من إحتفال سنوي ، هو إعلان عن بقاء بغداد حية ، قادرة على أن تضحك وتُبدع وتُدهش ، مهما تغيَّرت فصول التاريخ . هنا ، لا يُطفأ الضوء بعد العرض … لأن العرض هو الحياة نفسها .