د.جميـــل حمــداوي يكتب عن: “المسرح التونسي والفضاء الركحي والسينوغرافي”
د.جميـــل حمــداوي
كاتبوباحث مغربي
ــــــــ
( إهداء إلى أستاذي الدكتور حافظ الجديدي)
توطئـــــة:
يعتبر المسرح التونسي من أهم المسارح المغاربية تحديثا وتجريبا وطليعية، على الرغم من كونه ظل رهين العلبة الإيطالية لمدة طويلة، وبقي أيضا أسير الجدران الأربعة، وحبيس الكواليس الخلفية، والديكورات الواقعية والطبيعية والتاريخية والعبثية، يعيد مسرحة الريبرتوار الغربي اقتباسا وترجمة واستنباتا وإعدادا وتونسة. بيد أنه في العقود الأخيرة، بدأت تظهر مجموعة من التجارب المسرحية تحمل مشعل التغيير والتثوير، داعية إلى مسرح بديل يعوض المسرح الغربي، وذلك بالانفتاح على فضاءات ركحية وسينوغرافية عربية حقيقية، تتسم بالانفتاح، والتنوع، والأصالة، والاحتفالية، والشعبية، والمشاركة التواصلية الحميمية بين الممثل والجمهور، وتشغيل التراث بصيغ فنية وطرائق جمالية مختلفة بشكل من الأشكال. فماهي- إذاً- هذه التجارب المسرحية التونسية ياترى؟ وماهي تصوراتها حول مفهوم الفضاء الركحي والسينوغرافي تنظيرا وبناء وتشكيلا ودلالة ؟
المبحث الأول: بيان الأحد عشر والدعوة إلى مراجعة الفضاء المسرحي
ارتأى أحد عشر مثقفا تونسيا أن يكتبوا بيانا نظريا يتكون من تسع فقرات، وذلك من أجل إعادة النظر في المسرح التونسي بصفة عامة، ومراجعة هندسة الفضاء الركحي بصفة خاصة. ومن هؤلاء الموقعين على ذلك البيان، نذكر: فرج شوشان، وعلي اللواتي، ومحمد الغربي، وتوفيق الجبالي، وعبد الله رواشد، وتوفيق عبد الهادي، ويوسف الرقيق، والناصر شمام، والمنصف السويسي، وأحمد المراكشي، والهادي الحيوي. وقد نشر البيان في شكل مقال على كامل الصفحة السادسة من جريدة لابريس(La Presse)، وذلك بتاريخ 30 غشت 1966م . ومن أهم الطروحات التي يتضمنها البيان هو إعادة النظر في هندسة المسارح التونسية، وهذا ما يقوله البيان جليا في الفقرة السابعة:” إن هندسة الفضاءات الركحية يجب أن تراجع. نخص بالذكر دور الشعب وقاعات المعاهد ودور الثقافة ودور الشباب التي يجب على المهندسين أن يعيدوا النظر في هندستها وفضائها وتجهيزاتها لضمان الوظيفة الاجتماعية لمسرح الإيقاظ والتوعية. هذا المسرح الذي سيركز يوما في كل مكان من تونس، وليس فقط في العاصمة الداعية إلى اللامركزية المتنقلة، باختصار المستعمرة للداخل…الدعوة إلى اللامركزية نعم، ولكن أين المركز؟
إن تصميم وتقسيم الفضاءات المخصصة للمسرح ينبغي أن تراجع ليتمكن أكبر عدد ممكن من الجماهير استغلال فرصة مشاهدة العروض في نفس الظروف المريحة، وبأقل التكاليف طبعا، وذلك لنتجنب التفرقة الثقافية والتمييز الاجتماعي.”
ومن هنا، فالبيان يدعو إلى المراجعة، وإعادة النظر في هندسة الفضاءات الركحية، و التي لم تعد تتماشى بأي حال من الأحوال مع المعايير المعاصرة في بناء المسارح الغربية المتطورة. كما يدعو البيان من جهة أخرى إلى تطبيق سياسة اللامركزية الثقافية في توزيع المسارح، وبنائها، وتقريبها من المواطنين ، مع ضرورة تقديم الفرجات المسرحية بأثمنة تكون في متناول الجميع، درءا لكل تفاوت اجتماعي أو طبقي.
المبحث الثاني: المنصف السويسي وتثوير الفضاء المسرحي.
يعد المنصف السويسي من كبار المخرجين المسرحيين التونسيين الذين جربوا الكثير من الأشكال المسرحية الغربية والشرقية تجريبا وتأصيلا، وقد أسس فرقة الكاف منذ منتصف الستينيات (1966-1967م) من القرن العشرين، وقدم معها مجموعة من الأعمال المسرحية اقتباسا وإعدادا وتأليفا وتمثيلا وإخراجا وتركيبا. بيد أنه سينتقل إلى توظيف المسرح التراثي، بعد أن تأثر بالكثير من أعمال عزالدين المدني كتابة وتنظيرا ورؤية. ومن أهم المسرحيات التي حاول فيها المخرج المنصف السويسي تثوير الفضاء الركحي ، وذلك مع فرقته الكاف، هي مسرحية” ديوان الزنج” لعزالدين المدني، حيث تشكل هذه المسرحية – حسب الدكتور محمد عبازه- ” منعرجا خطيرا ، في ملامسة التجربة المسرحية التونسية والممارسة الإبداعية في المسرح التونسي على عدة مستويات:ديكور متحرك، تفجير للفضاء الركحي، وظيفة جديدة للممثل وتعامل جديد مثلما قام به محمد رجاء فرحات الذي مثل دور الطبري في المسرحية، يظهر من كل زوايا المسرح حول المشاهدين، تبادل المواقع بين الممثلين والمشاهدين، ممثل يخرج من المقاعد المخصصة للجمهور ويصعد على الركح ثم يخرج ويأتي غيره، وهكذا دواليك، تقنية لعلها تبدو الآن عادية، ولكنها في ذلك الوقت كانت بدعة، كانت تقنية عجيبة غريبة يمارس خلالها الممثل لعبة الخفاء والتجلي، لعبة الحقيقة والخيال، لعبة الممثل والمشاهد، فكسر الجدار الرابع وأصبحت القاعة تنفذ إلى الركح والركح يحيل إلى القاعة، انطلاقا من أن المسرحية أعدت بالأساس خصيصا لمسرح الحمامات وماشابهه من مسارح الهواء الطلق(أي فضاء مفتوح)، فقد بادر بتشكيل العرض، وصياغة إيقاعه بناء على هذا المعطى، بأن عمد إلى فرقعة الفضاء التقليدي، وإدماجه ضمن فضاء أشمل يستغل فيه كل حيز(مهما كان حجمه وعمقه) قادر على توليد المعنى، وتنظيم فضاء ركحي جديد يقوم على تقاطع الأمكنة وتجاوب الدلالات.””
ومن هنا، يكون المخرج التونسي المنصف السويسي من السباقين إلى تغيير المسرح السائد في المسرح المغاربي بصفة عامة، والمسرح التونسي بصفة خاصة، وذلك بتثوير الفضاء المسرحي، وتطبيق المنهج البريشتي في تكسير الجدار الرابع، والاستعانة بآراء النظرية الاحتفالية المغربية في خلق تواصل حميمي بين الممثل والمتفرج فوق الخشبة المسرحية، مع استخدام سينوغرافيا أصيلة ، كتشغيل السينما، وتوظيف المونتاج والفوانيس داخل هذه المسرحية التاريخية. ومن ثم، فإن ” تفجير الفضاء في مسرحية “ديوان الزنج”، كان بالنسبة إلى المنصف السويسي اختيارا جماليا، فكريا واعيا أثبت من خلاله أنه مخرج متميز، مخرج متمكن من أدواته الإبداعية والجمالية والإيديولوجية، مخرج حرفي تعرف على جل المدارس الإخراجية تنظيرا وممارسة.”
وهكذا، فلم يفجر المنصف السويسي الفضاء الركحي فحسب، بل فجر كذلك السينوغرافيا الفضائية، معتمدا في ذلك على أستاذه بريشت،” إذ استغل في هذا العرض [مسرحية ديوان الزنج ] ثلاثة أركاح منفصلة لكن التواصل بينها كان موجودا عن طريق حبكة درامية وقع تدارسها مع المجموعة، وخاصة المدني ورجاء فرحات وزبير التركي، وكان التطور تطورا منظورا وحكائيا، ومن جهة أخرى، استغنى عن الديكور، واكتفى بالمنصات المتحركة لما تتيحه من يسر وسرعة في الانتقال من مكان إلى آخر أو المرور من وضعية إلى أخرى والتداول بين السرد والتشخيص أو بين اللعب الفردي والتعبير الجماعي…”
وننتهي من كل هذا إلى القول بأن المخرج المنصف السويسي سيبقى من أهم العلامات المسرحية المضيئة بتونس بصفة خاصة والعالم العربي بصفة عامة، لأنه حاول أن يحدث قطيعة مع المسرح السائد الذي كان يمثله النجم علي بن عياد مع فرقة تونس، وأن يتمرد عن البناية الغربية، وذلك بتثوير الفضاء الركحي والسينوغرافي، عن طريق ربط الفضاء المسرحي بالتراث والرؤية الاحتفالية ، وذلك رغبة في التجريب والتحديث والتأصيل والتأسيس. وقد تأثر في ذلك أيما تأثر ببريشت، وجان فيلار، وعز الدين المدني، فضلا عن الجماعة الاحتفالية ( الطيب الصديقي، وعبد الكريم برشيد، وعبد القادر علولة…).
المبحث الثالث: عز الدين المدني وتنويع الأركاح.
يعتبر عز الدين المدني من أهم المبدعين التونسيين الذين مالوا إلى التجريب والحداثة والإبداع والابتكار في مجال المسرح، فقد قدم تصورا مسرحيا نظريا يعتمد على مسرحة التراث، وقراءته من جديد نقدا وحوارا وكتابة من أجل إعادة بنائه من جديد، وذلك لفهم الحاضر، وقراءته قراءة تاريخية معاصرة قائمة على التغيير والتثوير والنقد العميق. ولاشك أن عز الدين المدني يقترب في تعامله مع التراث من النظريات الاحتفالية العربية، والتي أعطت اهتماما كبيرا للاحتفال الذي يجمع بين المتكلم والمتلقي. ومن المعروف أيضا أن عز الدين المدني أعطى الكثير والكثير للمسرح التونسي تأليفا وإخراجا وتنظيرا، فرفع من شأنه وشأوه لكي يتبوأ المكانة التي يستحقها بين المسارح العربية الأخرى. إذاً، ماهو تصور عزالدين المدني للفضاء المسرحي والسينوغرافي؟
يرى عزالدين المدني أنه آن الأوان للتفكير في مسرح عربي جديد يكون بديلا للمسرج الغربي ، ذلك المسرح القائم على اللعبة الإيطالية. ولن يتم تحصيل فضاء مسرحي جديد إلا بالنبش في التراث العربي الأصيل، وفهم المجتمعات العربية فهما عميقا ودقيقا:” إنه كان خليقا بالعرب المعاصرين، لما تبنوا الفن المسرحي الغربي، وأعطوه الصدارة في آدابهم وفنونهم، ألا يتبنوا منه إلا النوع فقط، وأن يتركوا جانبا الفنيات ، والأشكال، والاتجاهات التي رافقت النوع، والتصقت به، وكادت تمتزج بأصوله… وإنه كان ضروريا بالنسبة إليهم أن ينظروا في جوهر المسرح، وأن يمعنوا النظر في أدواته، وأن يتأملوا في اتجاهاته. ولئن شرع البعض منهم- في السنوات الأخيرة الماضية- في تغيير ملامح المسرح في العالم العربي ، بإدخال فنية المداح والحلقة ، أو باستعمال فنية الكراكوز، أو بتحوير التركيب الدرامي شيئا ما، على نمط المقامات مثلا،فإنهم مازالوا لم يتعمقوا التعمق الكافي في المجتمع العربي: كالمجتمع التونسي أو المجتمع الجزائري، الذي هو ليس إلا تضاريس لحضارة ألفية لها خصائصها ، ومميزاتها، وأصباغها، ونظرتها، وباختصار علاماتها الحضارية التي لا تزال في أشد الحاجة القصوى إلى سبر مجهولها ، وموؤودها، واقتفاء آثار ثوريتها، ومتابعة منعرجات صعودها وهبوطها.
وإنه لا يكفي بالنسبة إلى رجل المسرح – سواء كان مؤلفا أو مخرجا- أن يستعمل المداح مثلا في عمله المسرحي حتى يكون عمله هذا عربي المشاغل والإطار، تونسي الواقع والآمال، شعبي المشاكل والمطامح، طلائعي النزعة والشكل والإخراج، فلأن المداح أو الكاركوز أو إسماعيل باشا ليس إلا ظاهرة فولكلورية ذات أصباغ زاهية يرتاح إليها الصبي، وينتعش بها الشيخ، وتزهو في عين الزائر، كفولكلورية الأماكن السياحية.. لم تأخذ من العلامات الحضارية إلا بعض القشور.
ونقصد بهذا كله أنه يجب التعمق في التفكير العربي، والتشبع به، والوقوف على خصائصه، والرسوب في أغواره، وتفهم رقائق مداركه…”
ومن هنا، فقد كتب عزالدين المدني لمسرح عربي تراثي احتفالي ، يتجاوز بناية المسرح المغلقة، وذلك بارتياد فضاءات تراثية جديدة تتسم بالأصالة والانفتاح والمشاركة الجماعية:” وإذا كان نص المدني يلتقي مع بعض تقنيات الكتابة المسرحية الغربية، شأنه في ذلك شأن كل نصوص رواد البحث عن قالب مسرحي عربي، فهذا يعود إلى ما أسميناه بالعناصر الثابتة في فن المسرح، كما أن النص، مهما اجتهد فيه صاحبه، لا يعدو أن يكون صيغة مسرحية مقترحة تتبلور على يد المخرج وأثناء العرض المسرحي.
أما في مجال المسرح، فقد قاده هذا الاعتقاد إلى اقتراح مشروع مسرحي عربي يستلهم بعض الأشكال الواردة في الكتابة القديمة، ويجعل المتفرج في علاقة مباشرة مع الأحداث الممسرحة دون اضطراره إلى العودة لمواصفات المسرح في شكله الإيطالي” .
وينبغي أن يتميز هذا الفضاء المسرحي بطابعه العربي والمشرقي، تميزا واختلافا عن الفضاء المغلق أو المدرج في المسرح الغربي :” لقد كان خليقا بالعرب المعاصرين ألا يتبنوا من الفن المسرحي إلا النوع وحسب، لأنهم بتقليدهم التقنيات الغربية، ومجاراتهم الأشكال الفرنسية مثلا، قد جعلوا من الفن المسرحي فنا مقصورا على الحضارة الأوربية، في حين أن الشرق القديم قد عرف حق المعرفة بتقنيات وأشكال أخرى لا تماثل تقنيات المسرح العربي المعاصر…”
وعليه، فعزالدين المدني يدافع عن فضاء مسرحي تراثي شعبي ، وسينوغرافيا احتفالية،حيث يقول عز الدين المدني في مقدمة مسرحية” ديوان الزنج”:”هذا الديوان المسرحي يريده المؤلف ، والمخرج ، والممثلون، والممثلات والفنيون أن يكون حفلة فنية جماهيرية بما في كلمة حفلة من دلالات شتى:
– في اللغة، وهي التجمع والاحتشاد.
– في النفس وهي الإمتاع الذي يوقظ الحواس.
– في الاجتماع وهي المشاركة بالمشاعر حينا وبالفكر حينا. وربما بالجسم أحيانا.
– في الفكر وهي الجدال والسجال بين القوى المتناقضة، والمتعارضة والتي يعدو بعضها على بعض إلى بلوغ التركيب.
– في الفن المسرحي وهي الخلق الجماعي المتضافر الرفيع الذي يتوجه الانسجام الفني في كل جزئية من جزئياته.”
وفي هذا الإطار كذلك، يقول الباحث المغربي مصطفى رمضاني:” وبعد استقرائنا لنصوص عز الدين المدني المسرحية، وجدنا أنه يطبق بذكاء دعوته إلى مسرح عربي احتفالي. فقد جمع إلى جانب تلك الخصائص الفنية التراثية، خصائص من المسرح الغربي الشعبي نحو التغريب وشعبية الفرجة المسرحية، والتباعد، والمسرح داخل المسرح، تقنيات شعبية أخرى من المسرح الشرقي.”
ويعني هذا أن عزالدين المدني يمثل تجربة مسرحية تونسية طليعية تدعو إلى تغيير المسرح السائد، وتثويره جذريا، وذلك من خلال البحث عن فضاءات ركحية جديدة، وتشغيل سينوغرافيات تراثية واحتفالية لصيقة بالمجتمع العربي الإسلامي. وفي هذا السياق، يقول عزالدين المدني:”ونحن حينما نعود إلى التراث العربي الإسلامي، وخصوصا إلى فنياته الجمالية، لا نريد بذلك أن نستدل على صحة مفهوم الأصالة المزعوم، وأن نقدس هذا التراث أكثر مما يطيق من التقديس، وأن نجعله بالتالي صالحا لكل زمان ومكان، وإنما نعتبره مجموعة من القيم، والأفكار، والأشكال مازالت في حاجة أكيدة إلى التقصي، لاسيما أنها لم تحظ بالدرس في معظمها، وإنها قد أصيبت بداء التأويل الزائغ، وإنها دفنت بنظرة الإعجاب، والقداسة والتقليد…كما نعد هذه المجموعة من الأشياء جدلية مع حاضرنا ومستقبلنا رغم أن خيط الزمان قد انقطع لأسباب يعرفها العام والخاص مدة قرون طويلة.
ومتى أدركنا هذا الكلام حق الإدراك، فإننا سنمسك حتما عن تقليد ما نجم مكتملا من التراث- سواء كان عروضا شعريا أو صيغا صرفية أو أجهزة فلسفية أو أشكالا معمارية- وسنعمل حتما على تطويرها ، وتعصيرها، وتثويرها حتى يربط من جديد خيط التاريخية بينها وبيننا بصفة حركية متفاعلة دائما.”
وعليه، فلقد شغل عزالدين المدني الفضاء الاحتفالي، واعتمد على تنويع الأركاح فوق الخشبة المسرحية، وذلك بسبب اعتماده كثيرا على تقنيتي الاستطراد والاستخراج التراثيين. ومن هنا، يقترح” المؤلف أن يقع استعمال أركاح متعددة لإخراج هذا الديوان المسرحي [يقصد ديوان الزنج] ، وذات أحجام وارتفاعات متعددة ومختلفة، وأن تكون- قدر الإمكان- مندمجة في الجمهور حتى تلائم ماجاء في هذا الديوان المسرحي من عمل درامي.”
هذا، ويرى عبد الكريم برشيد أن عز الدين المدني من أكثر الكتاب التونسيين تعاملا مع الفضاء التراثي بمفهومه الإيجابي التأسيسي والتأصيلي، وذلك باستخدام فن الحلقة ومجموعة من الأشكال الفرجوية التراثية :”وفي المسرح التونسي لم يكتف عز الدين المدني بعملية الـتأليف المشترك بين المؤلف والمخرج، أو باستخدام المداح، أو مسرح الحلقة، أو التركيب الدرامي على نمط المقامات بحيث يصبح العرض مزيجا من فن التمثيل وفن الرواية، بل استغل تقاليد المسرح الأخرى من فنون الأراجوز والمقلد والبهلوان والمهرج والفواصل التمثيلية الشعبية.
في كل هذه المحاولات نجد العودة إلى الشخصيات والمواقف التي تميز الفنون الشعبية في عروض البهلوانات والأراجوزات والمقلدين والحكواتية، كما نجد العودة إلى منابع التراث في القصص الشعبي والمقامات وألف ليلة وليلة، وإلى شكل السامر الشعبي الذي يتحقق إما في مسرح حلقة مفتوح أو حتى داخل المسرح التقليدي.”
ومن هنا، فالمدني يوظف فضاء مسرحيا احتفاليا منقسما إلى عدة أركاح ، متبعا في ذلك تقنية الاستطراد، والتي تقوم على تناول مجموعة من المواضيع داخل مسرحية واحدة، بحيث ينتقل الكاتب من موضوع محوري بارز ، لينتقل بعد ذلك إلى محاور أخرى مكملة ومعضدة دراميا، كما كان يفعل الجاحظ في كتاباته، كالحيوان والبيان والتبيين مثلا، حيث كان المدني ينتقل من الشعر إلى النثر، ومن الجد إلى الهزل، ضاربا الأمثال، ذاكرا العبر، جامعا بين الكلام والأغراض والملح والطرائف… والمقصود من الاستطراد عند المدني هو استخدام أركاح متعددة لإخراج المسرحية، مع الحفاظ على الاندماج الموجود بين المتكلم والمتلقي قدر الإمكان.
ومن المعلوم، أن المدني قد سبق أن وظف هذه التقنية السردية التراثية في مسرحية” الحمال والبنات”، بيد أن تقنية الاستطراد تعد عيبا فاحشا في النثر العربي القديم وبلاغته؛ وذلك بسبب التداخل في الأغراض، والتراكب في الأحاديث ، وإلقاء الكلام على عواهنه، وتكديسه على بعضه البعض .
وهكذا، فإن تقنية الاستطراد آلية مسرحية جديدة ومبتكرة من قبل عز الدين المدني، وذلك من أجل تأصيل المسرح العربي شكلا ودلالة ووظيفة، ويعرفها بقوله: ” والاستطراد عندي هو ذاك في خطوطه العريضة ، وفي مستوياته التي ذكرتها والتي لم أذكرها، حيث تكون كل جزئية ترتبط بسائر الجزئيات المكونة له، وتتفاعل معها، بلا اعتباط، ولا عفو، ولا خلط، وإنما عمدا وقصدا، من أجل استحواذ على الواقع المتشعب من معظم أوجهه.
لذلك اقترحت في بداية هذا البيان أن تكون أركاح هذا الديوان المسرحي متعددة، ومختلفة المستويات حتى تلائم ما جاء فيه من عمل درامي.”
ونخلص، من كل هذا، إلى أن المسرحي التونسي عزالدين المدني حاول تثوير المسرح العربي، وذلك من داخل الكتابة المسرحية، بتشغيل الفضاء التراثي الاحتفالي، وتقسيم الخشبة المسرحية إلى أركاح متنوعة حسب منهج الاستطراد والاستخراج.
المبحث الرابع: فرقة المسرح الجديد وتفجير السينوغرافيا التقليدية.
تعد فرقة المسرح الجديد (Le Nouveau Théâtre) بتونس من أهم الفرق المسرحية التي اختارت منحى التجريب والتحديث والتأصيل، وذلك بالبحث عن فضاء مسرحي جديد، يحدث قطيعة فنية وجمالية مع الركح الغربي التقليدي بناء وتشكيلا ودلالة ورؤية. وتضم فرقة المسرح الجديد بعد ظهورها سنة 1975م كوكبة من الممثلين والمبدعين المسرحيين التونسيين الأكفاء، و الذين تكونوا من قبل في فرق مسرحية جهوية، قد انتشرت في ربوع تونس شرقا وغربا ، ولاسيما فرقة قفصة المعروفة بإنتاجاتها الرائدة والمتميزة. ومن أهم هؤلاء المسرحيين الذين ينتمون إلى فرقة المسرح الجديد طوال مسيرتها الإبداعية ، نستحضر كلا من: فاضل الجعايبي، وفاضل الجزيري، وجليلة بكار، وسمير العيادي، ورؤوف بن عمر، ومحمد رجاء فرحات، ومحمد إدريس، ورشيد المناعي،والحبيب المسروقي، ومحمد الهرابي، ولمين النهدي، وفتحي الهداوي، وكمال التواتي، وصباح بوزويتة…
وقد جاءت هذه الفرقة المسرحية الجديدة لتقطع صلتها مع المسرح الغربي، وذلك بتقديم مسرح تقدمي شعبي على ضوء المنهج البريشتي ، ومنهج أريان مينوشكين وجان فيلار، معتمدة في ذلك على الارتجال والعمل الجماعي، وتوظيف تقنيات السينما والفلاش باك، وذلك في عدة مسرحيات، كمسرحية” العرس”، ومسرحية” التحقيق”، ومسرحية”غسالة النوادر”، ومسرحية” لام”، ومسرحية” عرب”، ومسرحية” العوادة” …
زد على ذلك، فقد قدمت فرقة المسرح الجديد مجموعة من العروض المسرحية المتميزة في فضاءات ركحية مفتوحة ، ولاسيما في قاعات الفنون التشكيلية والكنائس وساحات الهواء الطلق، حيث قدم العرض المسرحي ” العرس” في قاعة عروض تشكيلية (قاعة يحيى)، وتؤشر هذه المسرحية على الرغبة الأكيدة لدى الفرقة لتفجير السينوغرافيا التقليدية تشكيلا وقالبا وبناء ورؤية، إذ جلس الجمهور على جانبي الفضاء الركحي، ” من حيث المبدأ لاتمثل قاعة يحيى فضاء ملائما لتقديم عرض مسرحي، ولكن على مستوى النية والرغبة في وضع الجمهور على جانبي الفضاء الركحي، وكان العرض باستمرار يحيل على جمهور الناحية اليمنى من خلال فضاء الركح، وبعيدا عن اللعب والأداء، فإن صورة الجمهور المقابل باعتبارها انعكاسا للذات على صفحة مرآة…”
ويعني هذا أن المسرح الجديد قد انتقل بالمسرح التونسي من الفضاءات المغلقة والمدرجة إلى فضاءات عامة مفتوحة، في ” حين اعتاد المسرحيون التونسيون، قبل المسرح الجديد، على تقديم عروضهم إما في فضاءات العلبة الإيطالية وإما في الفضاءات المفتوحة، سواء المسارح الرومانية( قرطاج، ودقة، وبلاريجيا)، أو رباط المنستير، وفضاء الحمامات بعد إنجازه، لكن جماعة المسرح الجديد ذهبوا إلى فضاءات غير تقليدية ( قاعات عروض الفنون التشكيلية، الكنائس…)، وبذلك أربكوا السينوغرافيا التقليدية التي تعود عليها المسرح التونسي، وتعود عليها جمهوره ومشاهدوه. إن الخروج من الفضاءات التقليدية أربك النقاد والمتابعين لعروض المسرح الجديد بين مؤيد معجب بهذه النظرة السينوغرافية الجديدة، وبين مدين مستكبر لها،” ففي كل لحظة من لحظات المسرحية، كان أحد صفوف المتفرجين أكثر حظا مقارنة بالصف الآخر الذي لا يستطيع إدراك لعب الممثلين، وحتى نصهم في بعض الأحيان، بما أن هؤلاء يديرون ظهورهم للجمهور…”
بهذا الطرح السينوغرافي الجديد، انطلقت فرقة المسرح الجديد بتونس في العطاء، وإنتاج التصورات النظرية والممارسات الركحية، وذلك من أجل تحقيق هوية المسرح العربي، وتجسيد كينونته تأسيسا وتأصيلا. وبالتالي، يمكن القول بأن فرقة المسرح الجديد تعد من الفرق المسرحية التونسية الأولى، وذلك طبعا بعد فرقة الكاف، التي فكرت في التخلص من الفضاء المسرحي التقليدي(العلبة الإيطالية)، وتعويضه بفضاءات شعبية جماهيرية متحررة، وذلك على غرار دعوة المسرحي المغربي الطيب الصديقي، حيث يقول أعضاؤها:”لقد رفضنا أمكنة العرض التقليدية والركح التقليدي، وأخذنا نمثل في الملاعب الرياضية وقاعات الأندية وفي الميادين، ونحن نحضر ونجهز هذا المكان لغرضنا بما ينسجم مع طبيعة كل عرض” ، ولكن:” إذا ذهبنا إلى مكان ولم نجد به سوى صالة العرض التقليدية، فإننا نكسر هذه التقليدية بإجراء تعديلات على الركح والصالة.”
وربما تكون الفرقة قد تأثرت في ذلك من جهة بالجماعة الاحتفالية المغربية، أو تكون من جهة أخرى قد تأثرت بجان فيلار أو أريان مينوشكين أو بريشت. وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد عبازه:” خرج الجماعة على السينوغرافيا التقليدية، ويبدو أنهم كانوا متأثرين ببريشت ومدرسته وتلامذته وكانت أريان منوشكين واحدة من الذين تأثروا بهم، إذ إنها قدمت عرض مسرحية الثورة الفرنسية 1789 م في معمل قديم لصنع ذخيرة الأسلحة. ذلك، أن الخروج على تقليدية فضاء العرض قاد أيضا إلى تغيير الركح، إذ إنهم رفضوا الشكل التقليدي المفصول عن الجمهور:”مصطبة ينتهي امتدادها بعتبة الباب، في حين تبقى جوانبها الثلاثة الأخرى مفتوحة، وتشكل حيزا أشبه بالمنزل أو الصراط بتعبير أدق…تلك هي أولى سمات الفضاء الركحي لـ” غسالة النوادر”، وهو فضاء بما هو عليه من حميمية تقلص المسافة بين الرائي والمرئي، وحيادية (تيسير الانتقال من حيز/ مجال/ إلى آخر)…”
مما لاشك فيه أن الفضاء المسرحي يحيل على مرجعية ضاربة الجذور في التاريخ حيث بدأت عند الإغريق، ورفض هذا الفضاء ومرجعياته الدخول في فضاءات سينوغرافية ذات مرجعية مناقضة لعملهم يعتبر نوعا من خلخلة المقدسات، وكسر الإيهام والقطع مع المرجع الأرسطي في المسرح، وهذا أيضا من مؤثرات بريشت ومدرسته ومنهجه الذي يسعى من خلال ذلك إلى رفض المسرح بصفته مكانا لخلق الإيهام الخادع والجو المشابه للطقس الديني : الصالة المنظمة، إضاءة الخشبة الضعيفة، الفصل الواضح بين الخشبة والجمهور… ”
وقد ساهم هذا الانزياح عن البناية التقليدية أن حققت عروض المسرح الجديد نوعا من التواصل الحميمي بين الممثلين والجمهور، ونوعا من المشاركة الفعالة والبناءة بين قطبي العملية المسرحية: الملقي والمتلقي:”ومما يمكن ذكره في هذا المجال أن مجموعة المسرح الجديد عرضت في مسرح الهواء الطلق بالحمامات، مع إحداث تغييرات فيه على مستوى الركح.إذ إنهم رفعوه إلى مستوى مقاعد الجمهور حتى تتغير كل معطيات العلاقة بين الجمهور والممثلين بإحداث التواصل بين الطرفين وإيجاد الحميمية الغائبة عن المسرح الكلاسيكي. وبالتالي، لم يعد هناك فصل بين الباث والمتقبل، واختلط الممثلون مع المشاهدين ، وأصبح الجو عائليا، وأصبح الكل مساهما في العرض. ومن هنا، جاءت الإضافة التي عملت مجموعة المسرح الجديد على إيجادها من خلال طرحها لمسألة تثوير السينوغرافيا التقليدية، وطرح بديل يجعل للمسرح وظيفة لا أن يكون معبدا للنسيان، بل وسيلة للتغيير وللتعليم، وبالتالي، حمل رسالة ثقافية حضارية نبيلة وسامية لغرس القيم الإنسانية الخالدة.”
هذا، وقد قدمت جماعة المسرح الجديد مسرحية” عرب” سنة 1986م، وعرضت في فضاء ديني مقدس، وهو كنسية القديس لويس في قرطاج. وقدمت الجماعة كذلك مسرحية:” التحقيق” في مهرجان الحمامات عام 1977م، وذلك ” على أساس رفض الأشكال المسرحية السائدة، ومقاطعتها، والمضي في طريق جديد يشقونه لأنفسهم بقوة العضلات والأفكار والتصميم على التغيير”.
وعلى أي، فقد عملت فرقة المسرح الجديد على تجديد المسرح العربي بصفة عامة، والمسرح المغاربي بصفة خاصة، وذلك بتحطيم الأشكال المسرحية المستوردة، وإحداث القطيعة مع التراث المحلي من أجل تجريب أشكال مسرحية أخرى. وفي هذا الصدد يقول أعضاء فرقة المسرح الجديد بتونس:” أردنا تحطيم الأنماط التقليدية المهيمنة فيما يتعلق بالنص المسرحي ووسائل الإنتاج وتوزيع المسؤوليات والأدوار داخل الفرقة… أردنا القطيعة مع التراث المحلي ومع المسرح المستورد بكافة أشكاله”.
وهكذا، نجد أن فرقة المسرح الجديد من الفرق المسرحية التونسية السباقة إلى الثورة على بناية المسرح الغربي، وذلك من خلال دعوتها إلى تقديم الفرجة المسرحية في فضاءات شعبية مفتوحة وعامة، يتحقق فيها التواصل المباشر بين الممثلين والجموع المحتشدة. وقد نجحت هذه الفرقة المسرحية الطليعية في ذلك أيما نجاح، بعد أن ثارت ثورة عارمة على المسرح السائد والكائن، فاختارت فضاءات مسرحية جديدة ، وذلك حسب رؤية الفرقة المستقبلية الممكنة.
المبحـــث الخامس: المسرح المثلث وفضاء الصورة
يرتبط المسرح المثلث بالفنان التشكيلي التونسي الحبيب شبيل الذي أسس جمعية مسرحية بهذا الاسم، دلالة على عشقه لعالم الهندسة والأشكال البصرية التكعيبية، وذلك سنة 1978م. وقد عرف الحبيب شبيل بإنجازاته المتميزة والرائدة في مجال الرسم والتشكيل والسينوغرافيا والتأليف والإخراج المسرحي والموسيقى والسينما. وما يميز هذا المبدع المسرحي هو اعتماده على مسرح الصورة، وذلك كالمخرج العراقي صلاح القصب الذي قدم تنظيرات كثيرة في مجال مسرح الصورة أو سيميائية الصورة المسرحية. وقد كتب الحبيب شبيل مجموعة من النصوص المسرحية، مثل: ” أولاد باب الله”، و” القافزون”، و”الكريطة/ العربة”، و”السيرك”،و”سنفونية الحجارة”، و” موال”، و”كرنفال”،و”الدرس”، و” قصر اللوح”،و” الدولاب”،…
وعلى أي ، فقد حاول الحبيب شبيل أن يخفف شيئا من سلطة الكلمة لحساب الحركة والصورة، مع تشغيل الفضاء السيميائي القائم على الصورة البصرية أو المرئية، وذلك بتحويل الركح إلى فضاء ثري بالعلامات والرموز والإشارات والأيقونات السيميائية. كما حاول الحبيب شبيل الانتقال من الفضاءات المغلقة إلى فضاءات مفتوحة، كما تدل على ذلك نصوصه المسرحية، كمسرحية” موال”، والتي قال عنها الدكتور محمد عبازه:” إن الفضاء الذي كانت تعمل فيه الفرقة لم يكن فضاء مسرحيا مغلقا، وهو مايعبر عنه بالعلبة الإيطالية أو غيره من الفضاءات المغلقة بأربعة جدران، بل رأينا أنه عبارة عن ساحة تستغلها الفرقة لتقديم عروضها، ولم تكن هذه الساحة مفتوحة على اللانهائي، أو على الأفق، بل تحيط بها بناءات عالية وعمارات شاهقة…”
ويمكن القول بأن الفضاء الركحي في مسرحيات وعروض الحبيب شبيل قد تحول إلى مسرح سيميائي، يعتمد على صور فضائية تشكل ما يسمى بمسرح الصورة أو بلاغة الصورة، ويذكرنا هذا بأنطونان أرطو وصلاح القصب اللذين حاولا جاهدين أن يحدا من هيمنة الكلمة الحوارية، وتعويضها بالحركة والصور المرئية البصرية التي تثير الراصد ببلاغتها الرمزية وعوالمها السيميائية.
المبحث السادس: الفاضـــل الجزيري والفضاء الصوفي المناقبي.
يعتبر الفاضل الجزيري من أهم المسرحيين التونسيين الذين حاولوا تجديد المسرح التونسي بشكل عام، بعد أن تلقى تعليمه بلندن مع فرقة المسرح المفتوح (Open theatre)، وذلك من سنة 1969 إلى سنة 1970م. وبعد أن اكتسب تجربة مسرحية رائدة في فرقة قفصة . وقد ساهم بأعمال مسرحية رائدة ومتميزة ، كمسرحية” الجازية الهلالية” (1974م)، ومسرحية” الكريطة” (1975م)، ومسرحية” زغندة وعزوز في صالة الفتح”، ومسرحية” الحضرة” ، ومسرحية” النوبة”، فضلا عن مجموعة من الأعمال السينمائية، كفيلم ” طريق الأولياء”، وفيلم “العبور”، وفيلم “الثلاثون”.
هذا، ويعد الفاضل الجزيري من الذين حاولوا التعامل مع التراث منذ التسعينيات من القرن العشرين، وذلك من خلال منطلق تراثي وصوفي ومناقبي، بغية تأصيل المسرح العربي، وتأسيسه هوية وتشكيلا وبناء. ومن هنا، يقترب فاضل الجزيري من المسرحيين الاحتفاليين الذين تعاملوا مع التراث تعاملا إيجابيا، ولكن من خلال رؤى وتصورات متنوعة ومختلفة. وبالتالي،فلم ” نسمع عن الفاضل الجزيري أنه أسس هيكل إنتاج مستقل، بعد أن غادر رفاقه القدامى، ولكنه أنتج أعمالا شدت المشاهد التونسي، وهي أعمال ابتعدت نوعا ما عن المسرح بمفاهيمه المختلفة الأرسطي والبريشتي والعبثي، وقد دخلت ميدانا أوسع وأرحب يمكن أن نطلق عليه الفرجة أو الإتنوسينولوجيا ، مثل هذا التوجه للفاضل الجزيري نحو التراث الموسيقي بشقيه الديني والدنيوي خصوصية تستحق التوقف عندها؛ لأنه برهن من خلالها عن رغبته في البحث، والنبش في الذاكرة الشعبية الموسيقية ليخرج ببحث تجريبي متميز. استطاع الفاضل الجزيري أن يتحرر من ضغوطات الركح بأبعاده المختلفة والمسرح بضوابطه المتعددة، وطرح تصورا ورؤية تجريبية للعروض الفرجوية، بدأ الفاضل الجزيري يغازل المأثور الشعبي ، وخاصة الموسيقى منه مع الفاضل الجعايبي وجليلة بكار في مسرحية” العوادة…”
وإذا كان الفاضل الجعايبي – مؤسس فرقة فاميليا صحبة زوجته جليلة بكار- قد قدم عروضه المسرحية الاجتماعية(مشكل الشيخوخة عند المرأة- صراع الأجيال- عنف العلاقة الزوجية- الحب الضائع- الخيانة الزوجية- الجنس…)، ضمن فضاء مسرحي عار ، يذكرنا بشكل من الأشكال بالمسرح الفقير عند غروتفسكي، مع الاستعانة بالتقنيات السينمائية وحركات مسرح النو الياباني، فإن الفاضل الجزيري قد ركز على مواضيع صوفية ومناقبية وموسيقية في أبعادها الإثنولوجية والمسرحية والحضارية.
هذا، ويعتبر فاضل الجزيري من المبدعين المسرحيين التونسيين الذين ثاروا على الفضاء المسرحي التقليدي، حينما أحس بالاختناق داخل فضاء العلبة الإيطالية، فارتأى أن يتحرر من جدرانها الواقعية والواهمة، وذلك بالانفتاح على الفضاءات العامة، كالانفتاح – مثلا – على فضاء الحضرة الصوفية والمناقبية، وفضاء النوبة الموسيقية.
وهكذا، نجد أن مسرحية” النوبة” للفاضل الجزيري قد عرضت على ركح مسرح قرطاج الأثري، وقد استخدمت في العرض آلات موسيقية شعبية، وتعاقبت فيها لوحات غنائية كوريغرافية راقصة محورها الجسد واللحن والنغم. ويعني هذا أن الفاضل الجزيري تعامل مع التراث الموسيقي الشعبي ، والذي كان مهمشا أيما تهميش بتونس، وذلك بترجيح الإنتاج الغنائي والموسيقي المقنن.
ولم يكتف الفاضل الجزيري بالفضاء الموسيقي ، بل انفتح على فضاءات صوفية مقدسة تتسم بالطابع الروحاني والديني، كما في مسرحيته”الحضرة”، و التي قدمها في مسرح قرطاج الأثري سنة 1993م، وقد شارك فيها المريدون إلى جانب مريدتين، والتي تحيلنا تناصيا على عالم التصوف الطرقي، والذي انتشر في الغرب الإسلامي انتشارا كبيرا، فكثر الأولياء والمريدون والشيوخ والمجاذيب والكرامات الخارقة. ومن ثم، فقد تناول المسرح المغاربي هذا المقدس، كما في مسرحية” ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب” للطيب الصديقي، و”الزاوية” لعبد الكريم برشيد،و” الحضرة” للفاضل الجزيري، وما نسمعه من ليالي العيساوية بالمغرب بطابعها الصوفي والمناقبي والدرامي. ومن المعلوم أن الحضرة عند الفاضل الجزيري – كما يقول الدكتور حافظ الجديدي- رمز للحب الإنساني والإلهي، واستثمار لكل الآليات التراثية الفنية والجمالية .
وقد قدم الفاضل الجزيري فرجة مسرحية أخرى ذات طابع احتفالي غنائي كوريغرافي في صالة الفتح، وكانت تحت عنوان” زغندة وعزوز”، والتي تحيل على أجواء الكباريهات والغناء والرقص المنتشرة بتونس قبل الاستقلال.
وعلى أي،” فبغض النظر عن النتائج هل كانت إيجابية أو سلبية في توظيف التراث الموسيقي الصوفي في عرض فرجوي، نقول: إنها مغامرة فيها الكثير من الجرأة التي لاتتاح إلا لفنان خبر الفن، وعرف تعرجاته، وتمكن من تقنياته، وعاشر إبداعاته المختلفة. تطاول الفاضل الجزيري على المقدس، ولكنه كان في مستوى الحدث والمغامرة والتطاول، فقدم لنا عرضا فرجويا أمتع التونسيين، وعرفهم بتراثهم الذي كاد ينمحي من ذاكرتهم الجماعية؛ لأن وسائل الاتصال الحديثة، وتطور العقليات، أهمل وهمش هذا التراث الضارب الجذور في ثقافتنا وممارساتنا الروحية. قدم الفاضل الجزيري عرض الحضرة، وتحاورت الطرق الصوفية برقصاتها وألحانها وكلماتها وشموعها ومفروشاتها، وأنجزتها في فضاء هو مسرح قرطاج الأثري، استجاب لمتطلبات العرض خاصة من حيث عدد المتدخلين فيه:” دخل الفاضل الجزيري مع هذا العمل بالفعل مغامرة تجريبية في أعماق المأثور الشعبي الذي أثقلته تراكمات القرون الأسطورية، فنزع الهالة القدسية التي تحيط بهذا المأثور الديني الروحي وهذه الممارسات الطقوسية..”
وعليه، يعد الفاضل الجزيري من كبار المخرجين المسرحيين التونسيين الذين شدوا انتباه الراصدين والمتفرجين التونسيين بشكل كبير، وذلك بفرجاته المسرحية المفيدة والممتعة، والتي تقدم أجواء احتفالية موسيقية ومناقبية تتخطى الفضاء الركحي التقليدي إلى فضاءات مسرحية وسينوغرافية مفتوحة، تعبق بأريج الهوية والأصالة والتراث، وذلك تجريبا وتأصيلا وتأسيسا وتحديثا.
المبحث السابع: توفيق الجبالي والفضاء الفرجوي الكوريغرافي
ارتبط المخرج التونسي توفيق الجبالي بتقديم الفرجة المسرحية في إطارها التراثي الأصيل،حيث تمثل فضاء “الفداوي” ، وهو تراث تونسي عريق. ويتمظهر هذا التراث في عمله الطويل” كلام الليل”، والذي أخرجه في حلقات بلغت العشرة. وبعدها، تعامل مع بريشت في” مذكرات ديناصور”، وهو عمل مقتبس عن حوار المنفيين.
ومن هنا، فقد ركز توفيق الجبالي على الفضاءات التراثية والكوريغرافية، مع الاستعانة بالموروث الشعبي، والأمثال، والكلام المأثور، والعبارات التراثية المسكوكة، وتشغيل الحكايات التراثية، والثقافة الشفوية الأصيلة.
وبعد ذلك، اتجه توفيق الجبالي منحى تجريبيا آخر ، وذلك على هدي الحبيب شميل، حيث اعتمد على مسرح الصورة، وطلق الكلمة الحوارية الثرثارة، وحد من غلوائها وشططها،فقدم مسرحية” عطيل”،والتي لا علاقة لها بمسرحية عطيل لشكسبير إلا من باب العنوان، والتي شارك بها توفيق الجبالي في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي سنة 1998م. وقد استندت المسرحية إلى الكوريغرافيا الجسدية في تصوير علاقة حب عنيفة بين شاب وفتاة، وذلك من خلال نسج حكاية سيميائية بصرية قوامها: الحب والغيرة والموت.
أما على المستوى السينوغرافي، فقد قدم توفيق الجبالي عرضه في شكل صور فضائية تشكيلية وبصرية أيقونية ، كأنها لوحة تشكيلية في طور الاكتمال.أما في مسرحية” ضد مجهول” ، فقد استعمل توفيق الجبالي سينوغرافية الجنس والعري ، حيث قدم العرض لوحات ومشاهد إباحية تظهر ممثلات فوق الركح يتعرين بشكل من الأشكال ، وذلك للتعبير عن ظلم الإنسان وقهره.
استنتــاج وتركيـــب:
نستنتج ، مما سبق ذكره، أن المسرح التونسي بعد أن كان حبيس الجدران الأربعة، ورهين القاعة الإيطالية المغلقة، وذلك لفترة زمنية طويلة ، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على مدى انتشار سياسة التبعية والتغريب والاستلاب، والاعتماد على الغرب في كل شيء ، حتى في الآداب والفنون والطقوس. ومن هنا، فكر مجموعة من المسرحيين التونسيين في الثورة على المسرح السائد، والتمرد عن الفضاءات الأرسطية المغلقة، وذلك باعتماد فضاءات جماهيرية وشعبية مفتوحة، والاستعانة بالفرجة التراثية، إن تجريبا وإن تأصيلا وإن تأسيسا، وقد تم ذلك التجديد الطليعي بالفعل مع بيان الأحد عشر، وتجربة المنصف السويسي مع فرقة الكاف، وتجربة عزالدين المدني التراثية، وتجربة المسرح الجديد، وتجربة جمعية المثلث مع الحبيب شميل، وتجربة الفرجة الإثنوسينولوجية مع الفاضل الجزيري، وتجربة المسرح الفقير مع الفاضل الجعايبي، وتجربة المسرح الكوريغرافي مع توفيق الجبالي.
الهوامش:
– د. محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، مركز النشر الجامعي، دار سحر للنشر، تونس، الطبعة الأولى سنة 2009م، ص:19؛
2 – انظر: د. محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص:24-25؛
3 – د. محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص:123-124؛
4 – د. محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص:124؛
5 – د. محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص:127؛
6- ومن أهم أعماله المسرحية الدالة على المنحى التراثي ، نذكر: ” ثورة صاحب الحمار” ، و” ديوان الزنج”، و” الحلاج”، و” رحلة مسرحية”، و” مولاي السلطان الحفصي”، و” الغفران”، و” رسالة مسرحية”، و” تعازي الفواظم أو تعازي فاطمية” و” رسالة التربيع والتدوير”، و” على البحر الوافر” …
7 – عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، الطبعة الرابعة، 1987م، ص:24-25؛
8 – د. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، البوكلي للطباعة، القنيطرة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1996م، ص:145؛
9 – نقلا عن عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، ص:21؛
10-عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، ص:21؛
11- د. مصطفى رمضاني: الاحتفالية والتراث في المسرح المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، السنة الجامعية:1985-1986، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ص:324؛
12- عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، ص:25-26؛
13- عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، ص:25-23؛
14- عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، ص:29-30؛
15- عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، ص:28؛
16- عز الدين المدني: مسرح الزنج وثورة صاحب الحمار، ص:24؛
17- د. محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص:151؛
18- محمود الماجري: الخطاب المسرحي وهياكل الإنتاج بتونس، دراسات في المسرح التونسي، ص:14؛
19 – د. محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص:229-230؛
20- انظر: مجلة الحياة المسرحية، تونس، العدد:13، السنة 80، ص:102؛
21- انظر: مجلة الحياة المسرحية، تونس، العدد:13، السنة 80، ص:102؛
22- د. محمد عبازه: تطور الفعل المسرحي بتونس من اللامركزية إلى التجريب، ص: 230؛
23- د. محمد عبازه: نفس المرجع السابق، ص:231؛
24- د. علي الراعي: المسرح في الوطن العربي، ص:469؛
25- نقلا عن عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، ص:92؛
26- د. محمد عبازه: نفس المرجع السابق، ص:243؛
27- د. محمد عبازه: نفس المرجع السابق، ص:399؛
28- حافظ الجديدي: (حوار أجرته ليلى مريم مع الباحث المسرحي التونسي: حافظ الجديدي)،مجلة المهرجان، الجزائر، الثلاثاء 01 جوان 2010م، نشرة رقم 60، ص:06؛
29- د. محمد عبازه: نفس المرجع السابق، ص:400-401؛
30 – د. محمد عبازه: نفس المرجع السابق، ص:401؛
31- د. محمد عبازه: نفس المرجع السابق، ص:402.
ـــــــــــــــ
المصدر: موقع دروب