د. حسين رضا حسين يكتب عن العرض العراقي”خريف” صميم حسب الله.. حفلة شواء على الطريقة البغدادية
د. حسين رضا حسين*
أكاديمي وناقد من العراق
ـ
ما قبل العرض
إذا صحت الأخبار المدونة في كتب التاريخ فان تاريخ الخلافة حتى آخر الخلفاء العباسيين كان معمّداً بحفلات دمٍّ على مرّ الأيام والشهور والسنين. ففي تاريخ الخلفاء للسيوطي يروي بعضاً من تلك الاحتفالات الصاخبة إذ يقول قال الثعالبي: روت الرواة من غير وجه عن عبد الملك بن عمر الليثي قال: رأيت في هذا القصر- وأشار إلى قصر الإمارة بالكوفة- رأس الحسين بن عليّ بين يدي عبيدالله بن زياد، ثمّ رأيت رأس عبيدالله بن زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد، ثمّ رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير، ثمّ رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك.. وهكذا، ولم يستقم ملك المنصور إلا بعد أن قتل خلقاً كثيراً، في ما قتل آخر الخلفاء العباسيين المستعصم بالله على يد المغول بعد أن وضع في كيسٍ من قماشٍ وضرب حتى الموت بوشاية من العلقمي الذي جمع سادات وعلماء بغداد إلى هولاكو حيث قتلهم جميعاً. إن هذه الإلتقاطة التاريخية التي تشكّل خلاصة وجود منتهك تشكّل إرثاً ليس في الذاكرة الجمعية فحسب بل لمدونة العرض.
في العرض المسرحي خريف
افترض المخرج سؤالاً محدداً ومصيرياً تم تسويمه فنياً هو ما مصير القاتل الذي مارس القتل في الأحداث الدامية والطائفية في لعبة صراع القوى والتي حصلت في أمكنة متعددة وأزمنة مختلفة سواء في بغداد أو في مكان من العالم؟ وهي بذات الوقت تكرار لصراع الارادات عبر التاريخ، وهي محاكاة تستنطق الذات الانسانية في قلقها وتهورها، في هيمنتها وضعفها، في جبروتها وانكسارها، في بطشها وعمائها، في لعبة يتبادل مواقعها سجانون ومسجونون، قتلة ومقتولون، وهو إذ يستلهم التاريخ في عرض مدونته البصرية كمرجعية ثقافية تفرض نسقها العام فانه يمتد بالعرض الى المستقبل لحوار الآخر المختلف الذي يمارس لعبته المفضلة في الهيمنة عن طريق إثارة الفتنة حين يقول الأول “خمسون عاماً مضت وهو لا يبالي بنا ولا يتذكر” فيجيب الثاني “خمسون عاما وانت تحاول إثارة الفتنة.” فرضية نص العرض في مستوياتها رصدها المخرج برؤية مشاكسة تستفز مرجعيات المتلقي في المشاهدة بقسوة نادرة لا تستجيب لدموية المعنى في صراع الهيمنة بل هي القسوة ذاتها حين يمارسها القتلة. إن نصّ العرض ينتمي إلى السرديات المثقلة بالاغتراب والقسوة مما يثير اشكاليات متنوعة على صعيد الوجود كمعنى ومبنى، ووجود الانسان في ثنائيته الأزلية كضحية وجلاد سواء في ربيع الهيمنة أو في خريف هزائمه.
نسق القسوة في رؤية المخرج البصرية
إذا كان الجسد المذكر يمثل اللغة والتاريخ في بطريركيته الطاغية، وإذا كان خير الكلام ما كان لفظه فحلا كما يقول عبد الحميد بن يحيى الكاتب فإن المخرج تماهى في تطبيق فرضيته الاخراجية على رصد أنساق الفحولة التي تنطوي على كلّ معاني القسوة والعنف في تجسيد مضامينه البصرية وفي ظل مناخ دموي عن طريق شخصيات العرض. أربعة شخصيات وعلى مدار ساعة زمنية تقريباً وجدوا أنفسهم فاعلين في لعبة كسر الارادات بكل ما أتوا من قوة وبطش تم جسيدها في باحة منتدى المسرح بشكل حقيقي تعيدنا إلى إرث المسرح العالمي وبصورة خاصة الطليعي وكأن التمثيل لا يتجسد إلا بالواقعي على حقيقته، والواقعي ليس الا محض وجود قاسٍ، وفي لعبة دموية حيث الضحايا يتساقطون تباعاً عن طريق تسويم الدل المسرحي، إذ لعبت السينوغرافيا دورها في تعميق القيم الدرامية في كلّ لحظات الفعل الدرامي بما يستجيب للمناخات الدامية التي رصدها العرض، ولأن رؤية المخرج كانت واضحة في تنويع مساراته البصرية فان بنية العرض كانت مفتوحة بكلّ خياراتها، إذ ترك للمتلقي حرية اختيار التلقي بالطريقة التي تناسبه، فاللاعبون الأربعة كانوا في حوارٍ مستمر في الفعل الدرامي وفي تشكيل علاقاتهم داخل المسرح وفي تجسير بنية العرض حتى وهم يفعلون كلٍّ بطريقته بما يحقق ديمومة تماسك المعنى. فرضية سؤال العرض شكّل غطاءً تشكيلياً دائرياً لفهم المعنى ومن ثمّ تأويله لوجود الشخصيات في تأزمها نفسيا وقوتها حركيا، ومرونتها إيمائياً، وعنفوانها وجوداً، لهذا كانت منصة الاخراج ترسم بمهارة وجود الشخصيات في صراع القوى لتأكيد وجودها من كلّ الجهات دون أن يقع في محظور بنية العرض التقليدية، إذ كانت بنية العرض تتركب في مشاهد متصلة عبر ذروات صادمة تستنطق الفكرة في فعل درامي قاسٍ ومثير.
غواية الأداء في حفلة الشواء
وجد الممثلون أنفسهم منذ الوهلة الأولى في فريقٍ منسجم لتشكيل بنية العرض دون انتاج مسرحي يذكر وعليهم أن يقدموا عرضاً مسرحياً يليق بقدراتهم الأدائية بإمكانات ذاتية بحتة، ولأن رؤية المخرج تفترض شكلا دراميا قاسيا في لعبة الأداء، ولان أرضية منتدى المسرح حجرية فأنهم انخرطوا في اللعبة المسرحية مستخدمين كلّ مهاراتهم الجسدية حركياً وإيمائيا بما يستجيب واشتراطات وجود الشخصيات في عالم بلا رحمة، وفي وجود تحكمه قوى البطش والدمار، لهذا كان الأداء استكمالا لمدونة نص العرض في تجسير حفلة الشواء كفعلٍ درامي واقعي حتى كأنك تشعر بالاسى والتعاطف مع حجم الألم الذي يعانيه الممثل في أداء دور يتطلب ارتطامه بالارض والجدران مرات ومرات، مما جعل من الأداء أن يتحرر من قولبة الفعل باتجاه استعارة متوالية لتنميط الفعل الدرامي بصور وأخيلة لدحرجة المعنى بالأنساق الدرامية للزي وتحولاته بين الفصلين فضلا عن التنويع الصوتي المتصل بالدوافع الداخلية والحوافز الخارجية مكانا وزمانا بعضها بالبعض الآخر ايغالا لتشكيل الفكرة عبر تنويعها وبصلابة حتى النهاية وسط نزيف الدم الذي شكّل مناخا لفرضية العرض. إن وجودا منتهكا وملوثا في صراع الهيمنة بأقذر الوسائل بغرض تجذير هذا الانتهاك تمثّل في أداء تميز بالحيوية لإدانة العنف والاحتجاج على هذا العالم، وهو احتجاج طال جمهور المتلقين الذين شاركوا الفعل وصمتوا ولم تكن ارادة التغيير حاضرة لديهم ولهذا كان الأداء تحريض قصدي بغرض إيقاظ النفس وتحفيز الهمم للمشاركة في تفكيك صراع الارادات الذي بني على انتهاك الوجود والانسان معاً بغرض الهيمنة.
تجربة خريف التي أعدّها وأخرجها صميم حسب الله في منتدى المسرح الكائن في شارع الرشيد عن مسرحية “رقابة مشددة” لجان جينيه و”السرداب” لحيدر جمعة واعتباراً من 29/8/2016 تشكل احتفاءً للقدرات الفنية الناضجة في الأداء المسرحي لما بعد الحداثة في تهشيم وتشتيت واعادة بناء الفعل عبر تحطيم التسلسل الهرمي لنص يستميل المعنى في لا حقيقة العالم، وهي قدرات فاعلة ومبدعة ساهم في صناعتها صميم حسب الله، يحيى ابراهيم، بهاء خيون، حيدر جمعة، هشام جواد، علي السوداني، وجرير عبد الله.